محمد الشارخ ونقش خالد على صخر نفيس
رحم الله رجل الأعمال الكويتي الشيخ محمد بن عبدالرحمن الشارخ (١٣٦١-١٤٤٥=١٩٤٢-٢٠٢٤م)، الذي توفيّ في الكويت يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر شعبان والسادس من شهر مارس. فاللهم اغفر لعبدك وقد وفد إليك مع قرب إقبال شهر رمضان المبارك، واجعل برزخه ربيعًا عليه حين غادرنا مع موسم شهور الربيع، واكتب لنا الخلف فيه والعوض، وصيره لمن بعده مثل “صخر” الذي تأتم الهداة الأباة الكرماء به وبنجدته وحميته وشجاعته.
وإذا أردنا أن ننظر لأعمال راحلنا العظيمة، فسوف نرى أنه أنجز مشروعات كانت حكومات العرب والمسلمين أجدر بها لأن فيها نصرة للحضارة، وحفظًا للأمن القومي، فضلًا عن ضخامتها وتكاليفها، وربما أن الأجهزة الرسمية شغلت عنها بشؤون ملحة ضاغطة، فشمّر الرجل صاحب المبادئ عن سواعد الجدية؛ ولذلك أنجز ما لم تلتفت إليه كيانات كبرى. وصبر وصابر ورابط حتى مع توالي الصعوبات والعوائق والمصروفات، ولم يسارع مستجيبًا لمغريات المشاركة الحكومية التي جاءته بعد سنوات من بدايات مشروعاته الفريدة لخدمة اللغة العربية تقنيًا، والسبق لهذا الباب دون خوف من الأمواج التي يغرق في تلاطمها أمهر السباحين، ويعود سبب رفضه تلك العروض لخشيته من طول الإجراءات وبعض التعقيدات.
لأجل ذلك دخل الشارخ باستحقاق لتاريخنا الحضاري، والعلمي، واللغوي، والتقني، من بوابة شركة صخر العالمية، التي سخرها لخدمة القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، واللغة العربية نحوًا وصرفًا وإملاء ومعجمية وترجمة وقراءة إلكترونية، وتعرفًا إلى الحروف العربية بالصوت والضوء، ليقضي بعمله على دعاوى الكسالى المتهاوية، التي يحتمون بهزالها؛ لتسويغ نكوصهم عن العمل الجاد، بشبهة صعوبة التعامل العلمي أو الإلكتروني بالعربية، وليثبت للناس كافة أن صاحب المبدأ والاعتزاز يمكنه أن يصنع الفرق مهما حاصرته الموانع، كي يحقق لبلاده وأمته ما يعينها على الاستقلال عن التبعية، والنهوض لارتقاء سلم المنافسة وسلوك درب المسابقة.
ثمّ عقب أن مضى أبو فهد غير متردد في تنفيذ فكرته، ونال التأييد العلمي بالفتوى من الشيخ ابن باز، واستقام مشروعه أو توجه على الأقل، تقاطر عليه الأذكياء والغيرة الأزكياء من المهندسين العرب؛ فنشأ جيل من المهندسين واللغويين العاكفين على رقمنة اللغة، وإنتاج مشروعات تنطلق منها بإصرار وعزيمة وشموخ نفسي وإبداع ذهني؛ ولأجل هذا الصنيع وحسناته الكبيرة نال الشارخ جوائز محلية وعربية ودولية، منها جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، ذلك أن برامجه ومشروعاته خدمت الدين واللغة، وما أشد تشابكهما معًا، وترابطهما الذي جعل موقف البعض من الدين ينسحب على خذلانه للغته وآدابها وعلومها.
ويشاء الله أن يغادر الرجل الدنيا بعد ابتكارات وأعمال تعلي من شأن الثقافة والعربية، وتعتمد عليها وتنفعها، وتعكف على الاستثمار الثقافي الثابتة أصوله الباسقة أشجاره؛ فأصبح الشارخ ضمن قائمة سنية علية من كرام بررة اجتهدوا في خدمة العربية من أبواب متفرقة وفي أعصر متتابعة. ولم يقف الشيخ الشارخ عند حدود اللغة، إذ نشر أولى النسخ الإليكترونية من المصحف الشريف، وكتب السنة التسعة، إضافة لدعم منظمات عربية، وإنشاء مواقع مجانية لأرشفة المجلات القديمة، وإتاحة الكتب والمعاجم والتصحيح اللغوي والتشكيل إلكترونيًا، ولعله بهذه السوابق قد سنّ في الإسلام سنّة حسنة له أجرها وأجر من نسج على منوالها إلى يوم الدين، وأجر من أفاد منها إلى قيام الساعة وما أكثرهم، وما أسعده ومشاركوه بهذه الفضيلة والفضائل.
أما إذا أردنا أن نستكشف الأسباب التي زرعت في قلب الشارخ حبّ ثقافته وأركانها، والغيرة المنتجة عليها، فسوف نقف على عدة عوامل، أولها أنه نجل أسرة نجدية عريقة استوطن قسم منها الزّبير والكويت، وعمل بعض أسلافه لدى الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله-، ولا ريب أنه تعرض لتربية منزلية بالغة التأثير وإن لم نحط بتفاصيلها علمًا أو خبرًا. ومنها أنه درس في مدرسة النجاة الأهلية في الزبير، وهي مدرسة جديرة بالدرس التاريخي والتحليلي، ويكفي للتدليل على قوتها أن الشاعر العراقي معروف الرصافي انبهر من طلبتها، ووصفها بكونها أعلى من مجرد مدرسة ابتدائية. ومن المحتمل بقوة أن يكون لدراسته في جامعة القاهرة تأثير طيب عليه؛ خاصة أنه تخرج فيها عام (1965م)، وهي تحتفظ بوهجهها وعلمائها.
كما يمكن أن نضيف إلى هذه الأسباب معيشته في موطنه الكويت التي اشتهرت بالتعمق في العمل الخيري والمجتمعي، والتجديد فيه، مع مساندة حكومية وشعبية لافتة داخل الكويت وخارجها، ولا ريب أن البيئة المحيطة عامل مؤيد دافع أو حاجز مانع. ويمكن أن تكون الأعمال الرسمية المحلية والدولية التي مارسها الشيخ محمد قد أوقفته على بعض حقائق المنظمات الدولية، وفتحت عينيه على تخلّف تقني ولغوي عربي محزن، يقابله نمو أجنبي مخيف حتى من لغات غير مسيطرة، وقد زادت بعض مناصبه مستوى النفرة لديه من التفرغ التام والانقطاع الكلي لأعمال تجارية ربحية محضة.
فاجتمعت هذه الأسباب وربما غيرها، حتى دفعت الشيخ الشارخ إلى عمل فردي أشبه بالمعجزة وإن كان معه فريق مساند لا تغمط حقوقهم، وأسماء برزت عربيًا مثل العالم المصري الموفق الراحل د.نبيل علي، بيد أن هبّة الشارخ وثمار سياق حياته تعيد للعربي ثقته بنفسه وقدراته، وتؤكد أن الفرد بهمته العالية، ونيته السليمة يستطيع أن يحدث من الآثار ما يعلو ويسمو ولا يخبو، ولا تستطيع أن تحجبه الناطحات ولا النواطح، وأن الفرد القائد ذا الرؤية والمستهدف الحميد خير للحاضر والمستقبل من ألف ألف تابع بلا فكرة ولا رأي، وحينما يسير إلى الأمام هذا الفرد المقدام سوف يتعجب من كثرة التابعية السائرين خلفه، فاللهم زد وبارك وسدد واعن ويسر واحفظ.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 25 من شهرِ شعبان عام 1445
06 من شهر مارس عام 2024م