سير وأعلام عرض كتاب

جميل الحجيلان ومئة عام من الكتابة!

جميل الحجيلان ومئة عام من الكتابة!

شاء الله بحكمته أن أطلع على النسخة الكاملة من سيرة معالي الشيخ جميل بن إبراهيم الحجيلان، فقضيت معها وقتًا ماتعًا أسامرها في الليل أو بعضه، وأمضي وإياها ساعات بهيجة من النهار، ثمّ أرقب إثر ذلك وصول الجزء تلو الآخر من معاليه ومكتبه. وهي سيرة ينبغي لها أن تتبوأ مكانة عليّة في السير السعودية والعربية؛ ذلك أن كاتبها يحكي عمّا حدث له خلال قرن من الزمان، وعن معاصرته، وماذا شاهد، وهذا غير أنه كان في بعض أجزائها صانعًا للحدث، أو شريكًا أصيلًا وأساسيًا فيه، وفي بعضها وقف في موضع المراقب المتفكر، أو الباحث الدارس، وعلى هذا فهي سيرة إنسان، ومكان، وزمان، وكيان، ومجتمع، وأفكار، وأحداث، وشخصيات شهيرة ومؤثرة.

ومن جوانب التميز في السيرة الحجيلانية، أن أبا عماد كتبها بقلمه الراسخ في الأدب، المتمكن في النحو، المتضلع من اللغة، ثمّ صبغها بما وهبته الدراسة القانونية من ضبط إيقاع الكلمات والمعاني المبثوثة تصريحًا وتلميحًا، وسبكها بما حمله من خبرات حياتية عديدة؛ فجاءت السيرة في جوانب عدة مختلفة؛ فمرة تصاغ بقلم نثري يشبه بيانه السحر ورائق الشعر، وتارة تغلب عليها الصياغة القانونية، أو تظهر بين جنباتها لوازم اللغة الدبلوماسية، أو يسيطر عليها حسّ المسؤولية الرسمية، بيد أن القارئ المتذوق لن يفقد فيها بأجمعها شعور الصدق الجميل حتى لو خالف صاحبها في الرأي، وسوف يتراءى له بين حروفها وكلماتها عشق المؤلف لمكونات حياته دينًا ولغة ووطنًا وعملًا وأسرة وزوجة.

كما تسامى الشيخ الحجيلان وهو يكتب واصفًا مشاعره عن بعض المواقف الكبرى التي تخصّ بلاده، أو العالم العربي، أو ترتبط بأسرته ورعايته المبكرة لها، أو لها مساس بصحته، وبداياته العملية، ويكاد قلب القارئ وعينه وأحاسيسه أن تصبح حجيلانية صرفة حينذاك من قدرة الكاتب الفائقة على الاستمداد من أعماق النفس، وتسريب ما يعتلج في داخله إلى دواخل القراء بانسياب تذوب معه المقاومة. ولا يمكن ان أتجاوز الإشارة إلى مفتتح السيرة مع العقيلي المغترب، ففيها لواعج طفل أكثر والده الغياب، وبراعة أم في تحمل المسؤولية والتربية وحسن التبعل، وحكايات بديعة عن جدة صلبة سطرها الكاتب بعد عقود من حدوثها، وبعد عقود من رحيل بطلتها الآمنة الأمينة.

كذلك نجد في مذكرات الشيخ جميل ذلكم التكوين العلمي القوي جدًا، سواء في الدراسة الجادة بصنوفها التقليدية والحديثة، أو في إجادته للنحو بإتقان يغبط عليه على يدي شيخ كفيف مقعد، أو في التحاقه بمدرسة فؤاد الأول الثانوية ثم بجامعته في القاهرة، أو في تشربه لشعر العرب ومعانيه ونبضه الملهم، وتلقيه المعتدل لمفاهيم العروبة والقومية التي لا تناقض الأصول الشرعية والمصالح الوطنية، وإنها لآثار ظلت حية حاضرة في صاحب السيرة إبان جميع منعطفات حياته فلم يبدل ولم يتحول، وظلّ وفيًا لها ولأسماء كبيرة تلقى عليها العلم مثل الشيخ الطنطاوي في سورية، وأكابر أساتذة الشريعة والقانون والشريعة في مصر مثل محمد أبو زهرة، وحامد سلطان، وعبدالوهاب خلاف، وسليمان مرقص، وغيرهم.

ومما يتبدى بجلال في سيرة الحجيلان تلك الأوليات والثنائيات في حياته؛ فمنها أنه العقيلي الوحيد الذي واصل الدراسة في دير الزور، وأمضى طفولته برعاية امرأتين كريمتين، ودرج ونشأ بين نهرين، وعمل أول شيء في سفارتين بإيران وباكستان، وهما آنذاك من الكآبة بحيث لا يقبل عليهما دبلوماسي غير مؤهل فكيف بالجامعي القانوني على ندرة أصحاب الشهادات حينذاك! ثمّ أصبح أول سفير في تاريخ الكويت عقب استقلالها بعد أن صرم شهورًا صعبة في عمله مديرًا للإعلام والصحافة، وصار بعد السفارة بالكويت أول وزير للإعلام، وهو أول وزير يتلو إعلان انتقال الملك والحكم، وأول وزير أصيل للصحة من غير الأطباء والأمراء، وأول سفير للمملكة في ألمانيا الغربية بعد انتهاء مقاطعتها دبلوماسيًا، وأول سفير سعودي يتولى عمادة السلك الدبلوماسي العربي في باريس، وأول أمين عام لمجلس التعاون الخليجي من السعودية، وقد تولى الأمانة مرتين متلاحقتين، وهو أول مندوب سعودي في الأمم المتحدة بعد البارودي وإن لم يباشر عمله هناك، وربما أن القارئ قد لاحظ أنه عمل في وزارتين، وقبلهما وبعدهما في سفارتين، ثمّ في منظمتين إقليمية ودولية.

وفي صراحة توثيقية عن تاريخ سلف، يحكي لنا المؤلف عن الجرأة في اتخاذ بعض القرارات إبان عمله مديرًا أو وزيرًا أو سفيرًا أو أمينًا، ومنها تفاعل السفير مع عدة مسائل من تلقاء نفسه؛ حتى أقنع الرئاسة الفرنسية بأن يستقبل الرئيس ميتران الملك خالد في المطار خلافًا للمعتاد في المراسم الفرنسية. ولم يتهاون السفير في مواجهة جرأة مستشار الرئاسة الفرنسية على المملكة دون أن يلجمه ويعترض عليه رسميًا دون الرجوع إلى الرياض، وكان من نتائج صنيعه الحكيم أن جاء الاعتذار من عدة مستويات فرنسية عليا، فعلم الجميع علم اليقين أن السفارة ترصد وتتحرك. ومن المواقف الرائعة استجابته لمقترح زوجته وطلبه من الحكومة الفرنسية أن يقام معرض الرياض بين الأمس واليوم في قاعة قصر الثقافة، وهي قاعة مقصورة على كبرى المناسبات الوطنية فقط؛ ولذلك شهد المعرض إقبالًا شعبيًا ورسميًا ضخمًا، وبادر الرئيس شيراك للحضور مبكرًا حتى يشارك في الافتتاح مع الأميرالملكسلمان. وللحجيلان منجزات في أمانة مجلس التعاون الخليجي قادت من اعترض على تعيينه أول الأمر للمطالبة بالتجديد له، والشهادة له بالتميز في العمل والمتابعة.

كذلك تروي السيرة مواقف سعودية نبيلة للغاية، مثل أمر الملك فيصل بمنع أيّ وسيلة إعلامية من الحديث عن هزيمة 67م، وطلب الملك خالد من فرنسا إعادة بناء المفاعل العراقي بعد تدميره من الطيران الإسرائيلي، والعون السعودي المادي والمعنوي لقضايا الأمة. وتضيف لنا هذه السيرة رؤية مثقف ومفكر من أبناء بلادنا عن أحداث عربية جسام مثل احتلال فلسطين، وتفكك مشروع الوحدة المصرية السورية، والعدوان الثلاثي، والحروب العربية مع إسرائيل، وفي تضاعيف السرد اقتباسات مع ذكر مصادرها، وهي بمجملها مادة في الوعي والفهم ذات نفاسة وأهمية ودلالة في الإعلام والسياسة والعلاقات الدولية.

وبعد؛ فهذه هدية من المؤلف الشيخ جميل الحجيلان لأجيال أتت بعده أو سوف تجيء، وهي رواية سعودية سوف تدخل مضمار المنافسة الثقافية العربية بقوة وبحراك يشبه الجيشان ربما. وهي سيرة رجل عاش غربتين، وعانى اليتم الحكمي والحقيقي، وحمل على عاتقه مسؤولية أسرتين، وأتقن بعد لغته لغتين، وأكمل دراسته في مصر بجهود الشيخ المسدد فوزان السابق الذي تفرس في الفتى جميل النباهة والتفوق، وبدأ مشواره الوظيفي حتى كاد أن يغدو طاقة مهملة منعزلة قصيّة لولا مقترح صدق من السفير الشيخ محمد الحمد الشبيلي، وما عقبه من تبني ملوك المملكة لصاحب السيرة؛ فانتقل بين جلّ وظائفه بأمر ملكي، وحرص على أن يكون في أعماله عونًا لمن استعمله لا عبئًا ثقيلًا عليه، وإن السيرة بمجملها لتحمل إشارات وإشادات عن جمع نبيل من رجال الدولة الكبار العاملين في الديوان الملكي، ومجلس الوزراء، والسفارات، وغيرها.

لذلك فإن القارئ السعودي والعربي على أهبة الانتظار لهذه الوجبة المعرفية والأدبية الدسمة حقًا، المليئة بالمفاجآت والمواقف المحرجة بل والعصيبة، وهي درس في الكتابة والتوثيق على مراحل، وفي الإدارة وبناء العلاقات، وفي الحديث الإعلامي والفكري باسم الوطن، وممارسة التحليل السياسي وتقدير الموقف، والتفاعل مع الطوارئ واختلاف الأمزجة والرؤى. وعسى ألّا يطول بالقراء انتظار حتى يقلّب الواحد منهم أوراق كتاب يضم سيرة ألفية الصفحات مئوية السنوات بلا ملل، وبنهمة المستزيد، ولهفة المتعطش، علمًا أن بناء السيرة فيه إحكام وحسن تقسيم، وبه يمكن لمن أراد تجزئة المادة حسب أحواله، أو حتى تجاوز الموضوعات التي لا تعنيه وإرجائها إلى قابل الأيام، وإن كان هذا الصنيع سببًا لتفويت فوائد ربما أن القارئ في حاجة للعلم بها؛ كي لا يكون خلوًا من أيّ شيء عنها حينما تعبر به يومًا وهو يقرأ أو يسمع أو يشاهد.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الاثنين 10 من شهرِ ربيع الأول عام 1445

25 من شهر سبتمبر عام 2023م

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)