يوسف ياسين: السياسي الكاتب!
سبحان الذي جعل لعباده مخرجًا كلما أقفلت الأبواب، أو توالت الخطوب والمحن، وقد كان الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود -رحمه الله- وبلاده السعودية -حفظها الله- التي عمل على توحيدها في جزيرة العرب بما لها من مكان ومكانة في الوجدان وعلى اللسان، هما المأرز الآمن، والحرز الأمين، لمن رام النجاة، أو نشد السلامة من بطش محتل، أو جور حاكم.
فاجتمع حول الملك عبدالعزيز ثلّة وفدوا عليه من شرق ديار العرب وغربها، ومن حواضرها وبواديها، وفيهم أهل فكر وعلم، وأصحاب تجارب وخبرة، وذووا مناصب وحكم، وقادة مقاومة وجهاد، ومعهم آخرون هاجروا فرارًا بدينهم الحق الذي ارتضاه الله للناس دينًا قيمًا؛ فأصبحت الدائرة المحيطة بالملك المؤسس دائرة فريدة بمن فيها، وهي دوائر محلية وإقليمية وعالمية؛ فأينما التفت القائد وجد حوله من أهل الحجى والرأي والمعرفة، حتى لو كانت مواهبه وقدراته تكفيه وزيادة؛ بيد أن الاستعانة بعقول الرجال وعزائمهم وبصائرهم من سيما صناع التاريخ.
وقد أطال هؤلاء الصفوة المختارة المكث متحلقين حول زعيمهم الكبير، وعملوا معه سنوات طوال داخل البلاد وخارجها، وفي حربه وسلمه حتى لو لقي بعضهم مصرعه في حرب هو على التحقيق ليس طرفًا فيها. بل حتى أولئك الذين غادروا البلاد وهم قلة قليلة من مستشاري الملك، لم يحملهم على المغادرة أمر سوء، ولم يكن ابتعادهم سببًا في إشاعة رأي مدخول، أو رواية خبر زائف، بل ذهبوا ومعهم التقدير والمحبة والذكريات الجميلة التي يحملونها عن عهد ملك أسرهم بهيبته، وسحرهم بملكاته الجبلية والمكتسبة، واحتواهم في ديوانه ومملكته الشاسعة.
فمن أشهر رجال الملك عبدالعزيز الأستاذ الشيخ الكاتب المناضل يوسف بن محمد بن يوسف ياسين (1314-1381=1896-1962م) -وقيل ولد عام (1303=1885م)– الذي قدم للبلاد بعد سنوات من مقاومة الظلم والاحتلال في بلاده سورية؛ حتى صار مطلوبًا عند أكثر من حكومة إلى أن أنجاه الله فالتحق بالملك عبدالعزيز عام (١٣٤٣=١٩٢٤م)، ووافاه وهو يتحرك صوب مكة لدخولها وأداء المناسك؛ فاهتبل الكاتب بحسه المتوقد الفرصة، وكتب توثيقًا لتلكم الرحلة مع حداثة عهده بصحبة الملك، ثمّ أصدر الشيخ يوسف ياسين كتابه المختصر بعنوان “الرحلة الملكية”، ولولا ذلكم الكتاب لطوى النسيان سيرة الراوية الأديب عبدالله بن أحمد العجيري، نديم الملك ورفاقه خلال ليالي السفر الطويل، ولولاها لغاب عن العلم طرف من طريقة الملك في مسيره البري قديمًا.
ولأن الشيخ يوسف ياسين عالم مثقف كاتب بما تحصل عليه من علوم ومعارف على يد والده، وفي كتاتيب دياره ومساجدها، وفي مصر عند أشياخها وجوامعها ومعاهدها العليا؛ فقد أسند له الملك عبدالعزيز إصدار صحيفة أم القرى؛ لتصبح الصوت الإعلامي الرسمي الناطق باسم الحكومة، والبديل عن صحيفة من سبقوا وانتهت أيامهم، وتلك حكمة ملكية فيها نظرة مبكرة، واستبدال عاجل، وتحول تدريجي نحو هيئة الدولة الحديثة التي لأجلها طلب عبدالعزيز من خالد الحكيم ترشيح من يراه لهذه الأعمال؛ فوقع الاصطفاء على يوسف ياسين بمجرد سماع الملك عنه دون معرفة شخصية قبلية به، وما أكبر مكاسب الرجل الجريء إذا استبانت له آية الرشد واستخار واستشار ثمّ مضى لا يلوي على شيء.
لذلك أصبح الشيخ يوسف أول رئيس تحرير لأول صحيفة مؤسسة في العهد السعودي التي صدرت عام (1343) مع دخول مكة تحت الحكم السعودي، وفيما بعد أسندت إليه إدارة المطبوعات والمخابرات -أي المكاتبات-، فصار أول مدير لها، وهذه الصلة من بواكير العلاقة الظاهرة جدًا في بلادنا بين الإعلام والثقافة من جهة، وبين العمل السياسي من جهة أخرى، ولذلك فأكثر وزراء الإعلام في المملكة لهم سجل من العمل السياسي والدبلوماسي، وجلّهم من أصحاب القدرة البارعة على الكتابة أو الحديث أو عليهما معًا.
لكن الشيخ القادم إلى المملكة الحديثة معجبًا بفكرتها، منبهرًا بزعيمها، يحمل بين جنبيه من المهارات والقدرات والخبرات ما يفوق الجانب الثقافي والإعلامي على أهميته، وله صلات مع زعماء كثر في دولهم التي عبر بها، ولديه بصيرة بالسياسة وخوافيها، وخبرة بالأنظمة والتراتيب الإدارية، وهو لا يستطيع البوح بمكنون النفس تماشيًا مع أدب التربية، وبعض المحترزات الشرعية، وإجلالًا لمقام سلطان يخشع الناس من منظره قبل مخبره، وكلاهما ينبئان عن البسطة في الجسم والعلم والشجاعة، مع الذكاء والتوفيق الرباني المصاحب له، فلا يقوى أحد على الاجتياز إلى حديث ما، إلّا إن كان من ذوي الحظوة والمصداقية والنصح والأدب البالغ.
لأجل هذا ترك الشيخ مجريات حياته لتقدير العزيز العليم ثقة بما عند مولاه، ثمّ ثقة بحسن نظر الملك الموحد وصواب قراراته، وهو ماكان، إذ حوّل الملك أعمال الشيخ يوسف صوب الإدارة والسياسة؛ ليصبح أحد أشهر رجال الدولة من الساسة السعوديين مع نهاية حروب التأسيس والتوحيد وبدايات صنع الدولة الحديثة، وإن لم يلق الشيخ القلم أو يهجر الثقافة كليّة؛ فمن ذا يقوى على هجرانهما وقد ذاق من لذائذهما العقلية ما ذاق! ولم يكن الشيخ هو الوحيد الذي نقله الملك من مجال إلى آخر؛ فيشاركه في ذلك الشيخ حافظ وهبة، والدكتور رشاد فرعون، وغيرهما، والموضوع روض مزهر لمن شاء البحث فيه.
وقد عمل الشيخ يوسف لصيقًا مع الملك في الشعبة السياسية، والديوان الملكي، وقريبًا من أكثر الأمراء والمستشارين والوزراء؛ حتى صار نائبًا لغير واحد منهم، واستفيد منه مستشارا في مجلس الوزراء مع نشأته الأولى، وممثلًا للمملكة في بعض المنظمات، وشريكًا أساسيًا في كثير من اللقاءات التاريخية المهمة، وحاضرًا في الصور والمرويات، وظلّ أربعين عامًا متواصلة في خدمة الدولة، فلم يغادرها ولم ينقطع، أو يتأخر عن أداء أعماله وبذل مساعيه، وتلك الخصيصة في الزمان والحال ثابتة له، حتى قيل إنه أعرف الناس بالجدول اليومي للملك عبدالعزيز لحظة بلحظة.
ثمّ إن الشيخ سجل في رحلة خارجية بصوته الجميل، ولغته المتقنة العذبة، شيئًا من أخباره قبل ارتباطه مع الملك عبدالعزيز، وأدركته المنية في الدمام فلم يتمّ هذا العمل الجليل. وقد صدرت هذه المذكرات بعناية الباحث المؤرخ الأستاذ قاسم بن خلف الرويس وعنوانها: “مذكرات يوسف ياسين 1896-1924م في مسيرة الحركة العربية”، كما أصبح الشيخ موضوعًا لدراسات عليا، ومنها رسالة الأستاذة نورة بنت مشعل العسرج التي طبعت في كتاب عنوانه: “يوسف ياسين ودوره مع الملك عبدالعزيز”. والمأمول أن تتاح وثائق الشيخ بأجمعها أو الممكن منها للدراسة والتحليل، حتى تكمل مع كتبه ومقالاته التي كتبها سواء باسمه أو باسم قلمي سيرة رجل من رجال الملك المؤسس الذين تبوؤا منزلة عليّة في تاريخنا المحلي والعربي، وهي أهل لأن تضيف وتكشف وتوضح خاصة عندما تكون من محفوظات رجل بوزن الشيخ يوسف بعلمه وولائه وإخلاصه.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأحد 18 من شهرِ صفر عام 1445
03 من شهر سبتمبر عام 2023م