سير وأعلام عرض كتاب قراءة وكتابة

قبس من مخطوطات مركز البابطين

قبس من مخطوطات مركز البابطين

أهدي لي البارحة هذا الكتاب؛ فأمضيت في تقليبه أصيل هذا اليوم مع ارتباطي بموعد مهم؛ لكنه كتاب يعيد لنا الشعور بالمجد العلمي والحضاري؛ فعنوانه هو: قبس من مخطوطات مركز سعود البابطين الخيري للتراث والثقافة، وقد صدر عام (1431=2010م) عن قسم الدراسات والبحوث والنشر بالمركز، وهو من إعداد: د.جمال عزون، ويقع في مجلدين من القطع الكبير، عدد صفحات الأول (515) صفحة، بينما تبلغ عدد صفحات الثاني (531) صفحة، وفي آخره فهارس لأسماء الكتب الواردة مخطوطاتها فيه، يعقبها فهارس بأسماء مؤلفيها، وهذه الفهارس مرتبة حسب الأبجدية ليسهل البحث فيها.

يصل عدد المخطوطات الواردة في هذين المجلدين إلى خمسمئة مخطوطة، ولكل مخطوطة بيانات تتضمن اسم الكتاب ومؤلفه مع سنتي ميلاده ووفاته، وتاريخ نسخ المخطوطة مع عدد ورقاته، ومقاس الصفحة إضافة إلى رقم الحفظ. ويتلو هذه البيانات تعريف مختصر بالمخطوطة، مع تحديد نوع الحبر والورق والخط، ونسبته إلى الفن العلمي الذي يتبعه، والإشارة إلى من ذكره من أهل العلم، وما هي بداية النسخة، ونهايتها، والمصادر التي يمكن الرجوع إليها للاستزادة منها حول المخطوطة ومؤلفها، وفي الصفحة المقابلة صورة من ورقة المخطوطة الأولى المحفوظة أو الأخيرة.

وتشتمل المخطوطات على نسخ من المصحف الشريف، ونسخة من كتب في علوم الشريعة الغراء من تفسير وحديث، وعقيدة وفقه على المذاهب الأربعة ومعها المذهب الزيدي، وفتاوى وسيرة، وأصول فقه وقواعد فقهية، وإجازات، ووعظ، ومصطلح الحديث، وعلوم القرآن، والقراءات، وكتب التراجم والرجال، إضافة إلى الطب، والآداب والأخلاق، والأدب والشعر، واللغة، والنحو، والتاريخ، والكيمياء، والفلك، وفيها مخطوطة وحيدة من الأدب الفرنسي، ولم أجد مزيد وقت لتحديد أي مخطوطة أقدم وأيها أحدث.

أما فهرس المؤلفين فنجد فيهم أكثر من تسعين مؤلفًا يحملون اسم “محمد”، وخمسين مؤلفًا يحملون اسم “أحمد”، ومن الأسماء اللافتة للمؤلفين نرى “طراد” و “عزيزي” و “عفيف”، وبعض الكتب نسبت إلى مؤلف مجهول. وربما يسأل القارئ عن المخطوطة الفرنسية وكاتبها، وهي حسب الفهرس تعود لأديبة فرنسية اسمها “برني”. وأول مؤلف منهم بناء على المعيار الزمني هو محمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية المتوفى في عام (151)، وآخرهم وأقربهم لعصرنا هو محمد بن علي الأكوع الذي كان حيًا عام (1360) وكتابه في الأحاديث الواردة عن اللهو والغناء وآلته، وهذا مما يؤكد سيطرة اسم “محمد” على بقية الأسماء.

وفي تصديره لهذا المعجم ذكر مالك المركز وبانيه وراعيه ماديًا الشيخ عبداللطيف بن سعود البابطين أنه وقعت في يده مخطوطتان عام (1373) إحداهما من سنن أبي داوود، والثانية من مواعظ الآلوسي، ومن حينها بدأ حبه للمخطوطات، وزاده شغفًا بها حثّ والده له على القراءة، وحرص الوالد المربي على سماع النص بصوت نجله الأكبر. وقد تنامت هذه العلاقة مع المخطوطات حتى طاف الشيخ عبداللطيف أصقاع الدنيا بحثًا عن فرائدها، وشارك في المزادات العالمية للظفر بها، ثمّ أودعها في مكتبة المركز الذي يقع في حي الصحافة بالرياض، ويحمل اسم والده، وها هي طلائع المخطوطات تنشر في مجلدين، وعسى أن يكتمل ظهورها جميعها في فهارس شاملة بعدة مجلدات.

 

ومما أعلمه وسمعته؛ فإن الشيخ عبداللطيف تعب في السفر متتبعًا المخطوطات في أماكن قصية، وبقاع مخيفة أحيانًا بكثرة الوحش من الحيوان أو المتوحش من البشر أو الوحيش من الأماكن، ومع ذلك أقدم بعزيمة وهو يحمل في قلبه وعقله همّ الحفاظ على تراث أمة عظيمة ينتمي لها ولإرثها الحضاري الكبير، ولم يتردد في صرف عزيز الأوقات، ونفائس الأموال، مع إنهاك الجسد؛ كي يتحصل على تلك المخطوطات ليحفظها ويتيحها لطلبة العلم لا للتكسب بها، وهذا جوابه على من عرض شراء بعض المخطوطات بضعف ثمنها؛ علمًا أن محفوظات الشيخ منها تتجاوز أربعة عشر ألف مخطوط، منها ألفان من النوادر الثمينة، وهو في هذا الباب مثل شقيقه الشيخ عبدالعزيز في الكويت، والله يجعل أهل الثراء فينا دومًا من الأسخياء المنفقين على ما ينفع ويبقى.

كما نقرأ في المقدمة البديعة التي كتبها د.جمال عزون كلمات خبير بالمخطوطات، عارف بعلومها، محب لها، معتز بما تعبر عنه، وبانتسابه لأمة هذا جزء من مكتبتها التي هي مكتبة واحدة مترابطة كما ينقل د.الطناحي كثيرًا عن عالم العربية الكبير محمود شاكر. وإن الجهد الذي أضناه -وربما أمتعه- خلال خمس سنوات لمما يسعِد القارئ العربي لما فيه من دقة وإتقان؛ ولأنه دليل على خيبة المشروع الفرنسي في نزع الهوية العربية الإسلامية عن الجزائر وأهلها، وفيه إشادة بفضل السعودية والجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية التي تخرج فيها الباحث المتفنن قبل ثلث قرن.

جزى الله الأستاذ عبدالرحمن الحسين مدير عام مركز البابطين خير الجزاء على متابعته وإشرافه، وعلى هذا الإهداء، والدعاء من قبل وبعد للشيخ المنفق المبارك عبداللطيف البابطين صاحب الفكرة والسبق، وللباحث المدقق المجتهد د.جمال عزون صاحب العمل والإنجاز، وكم تسعد الأمة وتاريخها العلمي والحضاري بمثل هذا الإنتاج الفخم الذي فيه حفظ للمآثر، وافتخار بالأوائل، وحمية للممتلكات، وارتباط بين أبناء الأمة باختلاف عصورهم، وبينهم وبين علومهم السامية، واستحثاث للأجيال كي يسيروا على دروب الجدية والرشاد التي مضى فيها أسلافهم، حتى شرقت علومهم وغربت، وأثرت ونفعت، والأجر عند الله الكريم الكبير.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت 28 من شهرِ ذي القعدة عام 1444

17 من شهر يونيو عام 2023م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)