سير وأعلام عرض كتاب

الطناحي: ذكرى لن تغيب!

Print Friendly, PDF & Email

الطناحي: ذكرى لن تغيب!

هذا كتاب رثاء نفيس جدًا، عنوانه: محمود الطناحي…. ذكرى لن تغيب، إعداد محمد محمود الطناحي، توزيع مطبعة المدني بالقاهرة ودار المدني بجدة، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1420=1999م)، ويقع في (246) صفحة فيها (55) مقالة كتبها (52) عالمًا ولغويًا وأديبًا وأستاذًا جامعيًا من مصر والسعودية والكويت وقطر جاء ترتبيهم حسب الأبجدية، وبعضها كلمات ألقيت في حفلات تأبين للطناحي بجامعات مصرية أو بجامعة الدول العربية، وافتتح الكتاب بمقدمة كتبها بقلمه ودموعه ومشاعره محمد نجل الراحل، والقائم على كثير من تراث أبيه، ونعم الخلافة والوفاء.

من حسنات هذا الكتاب ضمن حسنات متزاحمة أنه جُمع وطبع بعد وفاة الطناحي مباشرة التي كانت في السادس من شهر ذي الحجة عام (1419) الذي يصادفه الثالث والعشرون من شهر مارس عام (1999م). ومنها أنه ضمّ بين دفتيه كلمات كتبها أو ألقاها جمع كريم من بلدان عديدة، وفيهم من هو أسنّ من الطناحي أو في مقام أساتذته، ومنهم زملاء له ورصفاء وطلاب، وقاسمهم المشترك حب هذا العالم وتوقيره، وظهر ذلك جليًا مما رووه من مواقف، أو أبانوه من تحليل لشخصيته؛ فلم يكن مقولهم مجرد كلمات جوفاء تتكرر مع كل أحد. ومن الحسنات ظهور الوفاء من الصحب والطلاب وأسرة الراحل له ولإرثه العلمي الشامخ، وآخر حسنة أذكرها من الحسنات الكثيرة أن غير ناعٍ اقترح جمع مقالات الطناحي، وهو ماكان فيما بعد عبر مجلدين بلغا الغاية في الإمتاع والإفادة.

وعقب الفراغ من قراءة هذا الكتاب يستبين لنا الخصائص العظيمة التي حبا الله بها الطناحي إن في تكوينه العلمي، أو في مساره العملي، أو في منهجه قراءةً وبحثًا وتأليفًا وتحقيقًا وتعليمًا. فقد منحه الله نشأة قرآنية، وشبابًا أزهريًا، ومعرفة تراثية واسعة، حتى غدا باحثًا متعمقًا في التراث الإسلامي تحقيقًا وتدريسًا وتعريفًا به لدرجة الانقطاع إليه والاستغراق فيه، وظهر أثر ذلكم التكوين والتفرغ والعشق فيما ألّفه أو حققه وأخرجه للناس بعد أن كان مخطوطًا مستغلقًا، أو أمنية بعيدة المنال على الطالب أو الراغب.

ثمّ تشهد له سيرته العملية في دور المخطوطات والكتب ومعاهدها، وحضوره الحي البهي في مجالس أكابر علماء عصره، ومنحهم إياه عناية مضاعفة لما تفرسوا فيه من نبوغ وغيرة وحدب. وتشهد له كذلك مواقفه مع الباحثين الذين ساعدهم في الوصول إلى مخطوط، أو العلماء الذين شاركوه في التحقيق ولم يستطيعوا الإكمال فلم ينس وضع أسمائهم معه تقديرًا ووفاء، وأخيرًا تشهد له مقالاته الثرية، وتقديمه الفخم المتين للكتب، وإشرافه الدقيق النافع على الرسائل العلمية أو مناقشتها بنصح وصراحة، ودرة التاج في جمهرة الطلاب الذين قبسوا من أنواره، وشربوا من معين أنهاره، وكان لا يضنّ عليهم بشيء البتة، ولربما أن مصاحبتهم ومناقشتهم منحت الطناحي شبابًا متجددًا، وربيعًا دائمًا.

ومن ملامح الطناحي الكبير ومزاياه تأكيده الدائم على قيمة اللغة في حياة الأمة، وتعلقه الشديد بتراث الأمة الخالد، وحرصه على ربط الأجيال الناشئة بتراث أسلافها المزهر، وسعيه لتدريس كتب العلم الأصيلة في أبوابها؛ لأنها حفظت شخصية الأمة وكيانها قرونًا متطاولة. ومنها توقيره الصادق الرفيع لأشياخه ولغيرهم من العلماء وحسن الأدب معهم، وإعلاء قيمة المشافهة في التلقي والطلب، وكيف لا يفعل وهو الذي أصر على مشافهة كبار أساتذة العصر في مصر وغيرها، ولم يكتف بقراءة مؤلفاتهم.

وكان لدراسته في كلية العلوم، وارتباطه بمشاهير خبراء المخطوطات مثل فؤاد سيد، ورشاد عبدالمطلب، ثمّ التصاقه بسدنة التراث واللغة وعلى رأسهم محمود شاكر وعبدالسلام هارون والسيد أحمد صقر وغيرهم، آثار بينة فيما أصدره من مواقف ومؤلفات، حتى رحل بعد أن ترك ثروة علمية قلّما يتركها من هم في مثل سنّه، وهي ثروة ذات قيمة عظيمة، وليست مجرد تسويد صفحات وصفّ كتب، ولا غرو أن يكون هذا شأنه وهو الذي عرف طريقه مبكرًا إلى مجالس كبار العلماء والأدباء.

وإذا أردنا أن نلقي نظرة سريعة على أعماله التي تجاوزت الثلاثين فسوف نجد فيها من علوم الوحيين الشريفين، والنحو واللغة والغريب، والتراجم والتاريخ، والمخطوطات وتاريخ الطباعة والتأليف، والنقد والتقويم. وقد جعل الرجل من نشر التراث عملًا جماليًا وفنًا قائمًا بذاته؛ لأنه كان صبورًا على كسب المعرفة، غيورًا على العربية، صامدًا أمام من يحاول الانتقاص من هيبتها، وقبل ذلك أخذ الكتاب بقوة إذ أن التحقيق والتعامل مع التراث أمر شاق جدًا يحتاج لاستعداد وتأهل وطول نفس، وهو أمانة ثقيلة والويل لمن عبث فيها، أو تكسب منها بغير وجه حق.

كما أثنى جلّ الكتّاب على حلو أحاديث أبي محمد وأروى، ومهارته البعيدة عن التكلّف في ابتداع النادرة؛ فهو الرجل الذي وهبه الله القدرة على مجاراة العلماء، ومسامرة الأدباء، وإيناس الجلاس، مع براعة في الأداء الصوتي، إضافة إلى أن له تمكنًا من السماع وبصرًا في التمييز بين الأصوات. ولقد كان الرجل خير نديم للزعماء لو وفقوا إليه وإلى أمثاله؛ بيد أن أكثرهم انصرفوا لمن يطرب الأذن، أو يفتن العين، أو ينفذ من باب التفاهة والإضحاك الفج، شريطة ألّا يحمل النديم بين جنبيه تقديرًا لشيء سواهم، وهو مالم يكن الطناحي الكبير مبتلى به والحمدلله.

ولم تمنعه هذه الصفات الأنيسة من أن يكون ذا جدية متأصلة فيه؛ إذ عمل ناسخًا ومفهرسًا ومحققًا في بواكير عمره، ومن الطريف الرفيع أن القراء حينما وقعوا على أعماله لأول مرة ظنوا أن الطناحي شيخ كبير، ومن الطريف المليح أن خطّ الطناحي جميل للغاية، وقاده هذا الأمر لنسخ الكتب مبكرًا، والقرب من علماء أفذاذ يبحثون عن جمال الخط، وجودة النسخ. وقد صرم عمره في حب العلم والدوران في فلكه في المنشط والمكره، والعيش مع القراءة الناقدة الواعية، وصحبة أشياخ أدام ذكرهم بتجلّة وتوقير، مع الاكتفاء بعشق التراث وما يحيط به، حتى غدا سفينة نحو وصرف ولغة وأدب.

لذلك نال الطناحي في حياته تقدير العلماء وأهل المعرفة السامية، وصدرت كلمات تزكية نفيسة عليه وعلى تحقيقاته من محمود شاكر، ومن لجان فحص أعماله في الجامعات حتى قال البروفيسور عبده الراجحي: صرت تلميذًا له! وأصبحت مقالة من مقالاته أحد مسوغات ترقيته لما فيها من قيمة ومتانة. وتواتر الثناء عليه من جمهرة طلابه والقابسين من علمه، وحين التقى مع المؤرخ خير الدين الزركلي وتعارفا، قبّل الزركلي ما بين عيني الطناحي، وقال له: بارك الله فيك أنت وصاحبكيعني د.عبدالفتاح الحلووأرجو أن تتما إخراج هذا الكتاب القيميقصد طبقات الشافعية للسبكي، وهو ماكان في عشر مجلدات غزيرة الفائدة في المتن والحاشية.

مع ذلك لم يسلم العالم الطناحي من لؤم وحسد وشنآن صدر بعضه من أقوام أفاكين له عليهم أياد وفضل، إذ وقفوا في طريقه بعد عودته من مكة التي قضى في جامعاتها عشر سنوات، واجتهدوا في الحيلولة دون تمكنه من التدريس، وشغبوا عليه كما شغبوا على شيخه شاكر؛ وجاءوا على قميصه بدم كذب خلاصتهوهي نغمة وشنشنة معروفةأنه ينتمي لجماعات أو يتعاطف معها، بينما كان الطناحي مثل شيخه شاكر من أشدّ الناس مناجزة لها دون جعجعة خلافًا للمتاجرين بمناجزتها. ومن سمو الطناحي أنه لم يتكلم على أولئك المغرضين، وأظنّ بأن قلوبهم ملئت نارًا من أبي محمد ومجده السامي في حياته، ومن أبي أروى وطيب ذكره العطر بعد وفاته.

وللطناحي كلمات جدير بأن يستشهد بها، ولعلي أتفرغ يومًا لجمعها من مقالاته على أقل تقدير، ومنها على سبيل المثال:

  1. لمحمود محمد شاكر عليّ أيادي كثيره أعدّ منها ولا أعددها، حسبه أنه أشعر قلبي حب هذا التراث والعصبية له، وتلقيه بما ينبغي له من الجلال والحيطة والحذر.
  2. اللغة هي وعاء الحضارة.
  3. إنما يُشكَل ما يُشكِل.
  4. الكتب بلا فهارس كنز بلا مفتاح.
  5. الزم باب خير فمن لزم بابًا من الخير فتح عليه.
  6. إن من تحية أي بحث والاحتفال به مناقشته ومفاتشته.
  7. لا يغني كتاب عن كتاب.
  8. إن لنا في كلام القدماء غناء عن العبارات المرذولة التي دخلت العربية عن طريق الترجمة.
  9. اللغة هي الباب الأول في ثقافات الأمم، وإهمالها أو التفريط فيها، أو السخرية منها، هدم لتاريخ الأمم، ومحو لها من الوجود.
  10. لن تجد شاعرًا كبيرًا إلّا ووراءه رصيد ضخم من القراءة المحيطة الجامعة للغة في مجالاتها المختلفة.
  11. إن الاشتغال بالتراث موقف حضاري وليس نبشًا في القبور.
  12. الرثاء كل الرثاء لشباب هذه الأيام الذين يخدعون عن تاريخهم ولغتهم فيما يقرأون وفيما يسمعون.

رحم الله العالم والطود الراسخ الأستاذ الدكتور محمود بن محمد الطناحي ( الثلاثاء 23 من ذي الحجة 1353-الثلاثاء 06 من ذي الحجة 1419= 29 من مارس 1935-23 من مارس 1999م)، فهو وأمثاله غصة في حلوق المفسدين إن في حياتهم أو عقب وفاتهم بما خلفوه من مدرسة ومؤلفات وطلاب. والرثاء كل الرثاء لنا ولأمتنا أناسًا وعلمًا، وأسأل الله أن يمن عليه بالرحمة والرضوان ورفيع الدرجات، وأن يعين نجله وابنته وطلابه ومحبيه على مواصلة طباعة كتبه وأعماله، فكما كان يتيح الطناحي مكتبته لطلاب العلم إبان محياه، وهي سنّة سار عليها أهله عقب مماته، وربما أنها أصبحت محفوظة تقنيًا بما يسهل الانتفاع منها، فكذلك آثار الرجل الكبير القمينة بألّا تنقطع من المكتبات والمعارض، وليتهم أن يفعلوا، وليت أن المراكز الثقافية العربية المقتدرة ماديًا أن تسعى لطباعتها ونشرها، وأن تصنع ذلك مع تراث الطناحي ومع إرث غيره من علماء أمتنا.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

السبت 21 من شهرِ جمادى الأولى عام 1443

25 من شهر ديسمبر عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)