أوراق أحمد البشر الرومي
عنوان هذا الكتاب يصف مضمونه؛ وهو أحمد البشر الرومي: قراءة في أوراقه الخاصة، أعده للنشر: د.يعقوب يوسف الغنيم، وصدرت طبعته الأولى عن مركز البحوث والدراسات الكويتية عام (1997م)، ويتكون من (589) صفحة فيها تصدير بقلم رئيس المركز أ.د.عبدالله يوسف الغنيم وبعده مقدمة، فتعريف بالشخصية في ستين صفحة تقريبًا، ويتبعها اليوميات في مئة وأربعين صفحة، ثمّ الرحلات في مئتين وسبعين صفحة، وبعدها الخاتمة والمصورات وأربعة فهارس للأعلام والأماكن والكتب والموضوعات. أما الغلاف الأمامي فعليه صورة صاحب اليوميات، وبيت شعر عن عظم الرزيئة بالمرء حين يُفتقد بعد أن كان يُستهان به حيًا، وعلى الغلاف الأخير صورة لورقة مكتوبة بخط المؤلف ترجع إلى عام (1968م).
قبل أن أقتطف ثمرة أو ثمرتين من محتويات الكتاب أعلن إعجابي بصنيع ورثة المؤلف خاصة ابنته المربية دلال التي دفعت بالأوراق للثقة الأمين كي يخرجها، فكم ضاع من تراث الآباء والعلماء بإهمال الأبناء والطلبة، وأثني مادحًا جهود مركز البحوث والدراسات الكويتية لحفظ تاريخ البلد، وسيرة إنسانه ومكانه، ثمّ لا أترك القائم على المشروع د.يعقوب من التحية على وفائه لأستاذه وصديقه، وخدمته العلمية لأوراقه، ولإخلاصه في منهجية إخراج هذه الأوراق، والتعليق في الحاشية بما يهم فقط دون إملال، علمًا أن هذا الكتاب فيه ما يعني الكويت وغيرها من بلاد العرب مثل اليمن والإمارات قبل تكوينها الحديث، وتأريخ لقضية فلسطين، وتتبع لبعض مواقف زعماء العرب آنذاك.
كذلك مما لا يمكن تجاوزه التوقف عند صنيع صاحب اليوميات، الذي كان يسجل كل ما تقع عليه عيناه، ويدون أعماله، وأحداث بلاده، ووفياتها وزواجاتها ومواليدها وأحوالها الجوية والأوبئة الطارئة عليها، ومعها أخبار الجوار والعالم وما تقوله الإذاعات والصحف أحيانًا. كما يسطر وصفًا دقيقًا لرحلاته، وفيها وصف للبلدان التي زارها وأناسها، ويفصح عن آرائه ومشاعره، وأكاد أجزم أنه لم يتوقع أن يكون لكثير مما كتبه هذه القيمة، وهو قاسم مشترك بين كل من يحفظ يومياته؛ فهي عادية حين كتابتها، لافتة بعد عقد من السنين، مهمة بعد ثلث قرن، مرجع بعد نصف قرن، وتظفر بذلك كله مع العبق التاريخي بعد مرور قرن على كتابتها؛ فيا أيها القادر والمراقب والمثقف: اكتب والفائدة أمامك ولا ريب!
عاش أحمد البشر الرومي (1905-1982م) حياته كلها في الكويت، وشارك في عدد من شؤونها التعليمية، والثقافية، والمجتمعية، والبلدية، والإدارية، والحكومية، وارتبط بعلاقات وصداقات مع جمع غفير من مواطنيه؛ فأصبحت تلك التجارب أحد روافد كتابه، إضافة إلى حصيلته العلمية والثقافية من القراءة المتنوعة حتى في علوم الفلك والحشرات. ومن شغفه بالكتب أنه كان على أهبة السفر قبل وفاته بأيام، وغايته البحث عن مخطوط في دار الكتب بالقاهرة.
وقد حوت دفاتره التي حمل د.الغنيم أمانة إخراجها لتصير من مصادر تاريخ الكويت السياسي والاجتماعي عدة أنواع حسب محتواها؛ ففيها يوميات ومذكرات شخصية، ومراسلات داخلية وخارجية، وتفصيل رحلاته، ويوميات موثقة لحرب فلسطين عام (1948م)، وتعليقاته على بعض الكتب بناء على تكليف من المجلس الوطني للثقافة، وإجاباته عن بعض الأسئلة التاريخية، وكان فيما دون حريصًا على حشد المراجع، وسؤال أهل العلم والخبرة، وكتابة الأفكار التي تعبر به، والمقارنة بين المعلومات بعد التعب في جمعها.
وللعلم فإن تراث أحمد البشر الرومي ليس حصرًا على هذه اليوميات التوثيقية الثمينة، إذ أن له كتابًا فيه مقالات وبحوث عن تاريخ الكويت مثل ابن عريعر، والفرزدق، وكاظمة، وأوبئة الكويت، وله مشاركة في تأليف كتاب ضخم عن الأمثال الكويتية المقارنة، ومن أعماله طباعة دواوين شعراء الكويت مثل صديقه الحميم صقر الشبيب، وشاعر الكويت الشعبي فهد بورسلي. ومنها سجل لغريب ما وقع عليه أثناء القراءة، وفي أحد صفحات السجل أسماء أعضاء المجلس البلدي عام (1361=1942م)؛ فحفظ بما خطه تلك الأسماء للتاريخ، وأخيرًا فمن مؤلفاته معجم لألف مصطلح من المصطلحات البحرية في الكويت. ويضاف لقائمة هواياته واهتماماته التصوير، ومتابعة الأعمال السينمائية، ومعرفة أجهزة اللاسلكي، والبصر بالمخطوطات، وحب الحيوانات، وحفظ التراث الشعبي حتى أهازيج الحمّارة، ورصد ما يخصّ مهن الحدادة والنجارة والزراعة والصيد والفلك والملاحة ورحلات البر.
تبدأ هذه اليوميات منذ سنة (1939م)، وقد يوجد شيء قبلها، والتوقيت المستخدم هو العربي المبني على غروب الشمس وليس الزوالي، وتظهر في اليوميات عنايته بأسرته، وتفاصيل مرضه الخطير، وفيها شيء عن شيوخ الكويت، والزعماء المجاورين، ومتابعة حثيثة لاحتلال فلسطين وما سبقه وما تلاه، مع إيراد بعض ما يشاع، والتعليق على المتداول والمعلن بالتحليل والنظر. ويوضح الكتاب صلة أحمد ببعض المكتبات مثل مكتبة المثنى في العراق، وببعض الأشخاص داخل الكويت وخارجها ممن ارتبط معهم بنسب أو خؤولة أو صداقة أو مشاركة في رحلة مثل بلديه عبدالعزيز حسين أحد رواد التعليم في الكويت.
كما تحفظ هذه اليوميات الطابع الاجتماعي للكويت وأهلها في القديم، ورحلاتهم البرية والبحرية، وجهودهم في نشر التعليم خارج الكويت، وشيئًا من تاريخ القضاء في الكويت ورجاله، وطرق التنقل، والطائرات التي حطت بالكويت، ونشاط المدارس في المسارح والأعمال المنبرية، والإجراءات الحكومية المترافقة مع الحرب العالمية الثانية لمنع نفاد الأطعمة من الأسواق، والمحطات الإذاعية المسموعة حينذاك، وأعوام المطر الغزير، وتفاعل الناس مع نتائج الحرب العالمية، وبعض المراسم الأميرية المستحدثة في الكويت مثل تقدم الدراجات البخارية أمام سيارة الأمير، وغيرها.
ومما حفظته اليوميات بعض العادات التي اندثرت الآن مثل أغنية “توب توب يا بحر”، وخلاصتها مرتبطة بما ذكره صاحب اليوميات أن الكويت كانت حتى عام (1340) تكاد أن تكون خالية من الرجال في شهور الصيف التي هي شهور الغوص؛ فلا يوجد فيها إلّا الشيوخ والأطفال والنساء، وإن معرفة ذلكم الحال من قبل الأجيال، وأسباب قصة أغنية توبة البحر؛ لتحثنا وأهل الكويت أن نبالغ في شكر ربنا المنعم شكرًا عمليًا على آلائه وأفضاله يوم أن استغنينا عن الهجرة بحثًا عن الرزق، وأتى إلينا الناس من كل بقاع الأرض ينشدون بركات ديارنا وأهلها.
وأذكر أني قرأت في كتاب آخر -نسيت عنوانه الآن- أن أرباب الغوص والتجارة العابرة للبحار من أهل الكويت فجعوا عندما عادوا في سنة معينة لبيوتهم فوجدوها شبه خالية بسبب أن الطاعون قد فتك بالناس ومات أكثرهم، والحمدلله على نعم شيوع الصحة، ويسر التواصل، وتقارب الديار، وعمرانها بأهلها وغيرهم، فإن الدنيا في الكويت لم تك تزدهر في تجارتها وأسواقها وتعود لها الحياة إلّا في موسم “القفال”، أي رجوع أهل الغوص لبلدتهم كما يقول المؤلف الرومي.
ألا ما أحرانا بقراءة هذه اليوميات ليتصل الحاضر بالماضي، ونشهد ما نحن فيه من خيرات تستحق الشكر المضاعف للرب المتفضل سبحانه، ثمّ نقدّر لأولئك المكافحين من رعيل ما قبل النفط ما واجهوه وصبروا عليه من لأواء ومناكد وصعوبات جمة، وهو تاريخ تؤكد تفاصيله لمن يبحث في شخصية أبناء هذه البلاد وما جاورها أن العمل والجدية فيهم أصل ثابت، وأن خلاف ذلك أمر طارئ يزول بشيء من اليقظة الاختيارية؛ فأمشاجهم يجري فيها ما يبعث الحيوية والنشاط والهمة؛ حتى وإن تقاصرت شيئًا ما بسبب بعض الركود والركون للرخاء، والله يديم الرغد والهناء، ويعيذنا من كفران أنعم الرب سبحانه.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ليلة الجمعة 27 من شهرِ ذي القعدة عام 1444
16 من شهر يونيو عام 2023م