من أندر الموافقات أن تقرأ عن امرأة وسيرتها العلمية، والتربوية، والاجتماعية، والثقافية، والخلقية، وعن مسيرتها، وثمارها الفكرية والتخصصية، وطريقتها في التدريس، وتعاملها مع طالبات الدراسات العليا، وتواضعها للعلم، وتطامنها للاعتراف بأي خطأ، ثم تتفاجأ بأنك كمن يقرأ وجه عملة أصيلة نفيسة نقية سبق لك أن قرأت وجهها الآخر، فكانا مثلًا بمثل، وسواء بسواء، فهي مثله هو، وهو مثلها هي، وصدق الله العزيز العليم الذي كتب الطيبين للطيبات مغفرة منه ورزقًا كريمًا!
لذلك لن تستغرب عندما تقرأ التغريدة الموجوعة التي كتبها الأستاذ الدكتور أبو أوس إبراهيم بن سليمان بن رشيد الشمسان عن زوجه الراحلة أ.د.وسمية بنت عبدالمحسن بن محمد المنصور، فهي كلمات معبرة وإن كانت غير مزركشة، صادقة وليست بمتكلفة، نافذة لا تقف، مستجلبة للدمع ولو كانت العيون جامدة، وقد كتب أبو أوس: “(يا أيّتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضية مرضية. فادخلي في عبادي وادخلي جنتي). بقلوب مؤمنة راضية بقضاء الله وقدره، أنعى مهجة قلبي حبيبتي رفيقة دربي أم أوس وسمية عبدالمحسن المنصور التي انتقلت إلى جوار ربها صباح اليوم 1444/10/14.رحمها الله رحمة واسعة.”.
وقبل هذا المصاب الأليم بسنوات ثمان أصدرت الجزيرة الثقافية ملفًا عن الراحلة؛ فتسابق العارفون ما بين راغب في الكتابة عنها، أو مشتاق للقراءة حولها، وهم كلهم حفيون بذلكم الملف المرتقب الذي يفيض وفاء وتقديرًا لأكاديمية وعالمة ومؤلفة وباحثة نافحت عن العربية، وبذلت جهودها لتعليم الطالبات المنهج العلمي والبحثي، وتقريب العلم وسبله إليهن، وقبلهما كانت قدوة في الأدب والحنان وتقدير الأحوال، ومن مظاهر ذلكم التفاعل غير ما كتب في الملف، ما تبعه من تعليقات وإشادات.
ومن أجلّ مواضع القدوة لدى أ.د.وسمية أنها تفاعلت مع البيئة الجديدة التي حلت بها زوجًا وأستاذة جامعية، وهي بيئة تختلف نوعًا ما عما عهدته في سنوات نشأتها بالكويت، وتفترق كثيرًا عما عاصرته إبان دراستها الجامعية والعليا في مصر، ومع ذلك لم يقعد بها وهم، أو يحول دون أداء رسالتها العلمية انشغال بأطراف الطريق وفضول المسائل عن الأصول والأسس، وأجزم أن سمة الهدوء في وسمية، وتوقير الموروث، والروية مع التعقل، قد أثرت في بعض من حولها، ولربما أنها بنهجها العملي لجمت غلواء أفعال، وهذبت شطط آراء، وأصلحت إعوجاج منطق، وأقامت اللغة واللفظ على سنن قويم، ووسم من البيان والفصاحة بديع؛ فغدت البروفيسورة من خير النسمات بالهدوء السابغ، والعلم المحقق، والإفادة الدائمة، والبسمات الصادقة، والآثار الحميدة على النفس والعقل واللسان والقلب.
ثمّ ترحلت أم أوس عن الأروقة الأكاديمية ولم تنقطع صلتها العلمية والثقافية بالكتابة والتأليف والتعليم، وهو الشأن الذي مضت فيه عبر كتب علمية صرفة، وأبحاث دقيقة، ودراسات مستحدثة متفاعلة مع التقنيات والاتصالات وما أحدثته على لغة الشباب، إضافة إلى ما تكتبه في الصحافة، مع المشاركة بالخدمة لجمهرة من الباحثات والدارسات، حتى كان حفل وداعها في جامعة الملك سعود مشحونًا بعاطفة بنات نحو أمهن، وشكر طالبات لأستاذتهن، واعتراف باحثات بأثر قدوتهن.
وقبيل رمضان تعرضت أستاذة اللغة لوعكة صحية خرجت منها بسلام، فصامت رمضان، وأتبعته بصيام ست من شوال، وعزمت على صيام يوم الخميس ثاني أيام البيض في شهر شوال، بيد أنها بعد الوضوء لصلاة الفجر سقطت فجأة، ولم تمض دقائق معدودة حتى غدت من عداد الراحلين، وحزنت لرحيلها المملكة كلها خاصة الرياض والمذنب، وشاركتهم في الحزن الكويت بلدتها الأصلية التي ولدت فيها أستاذتنا وماتت ودفنت.
فرحلت أم أوس حين رحلت، وهي باقية بثمارها المطبوعة، وبغراسها العلمي والخلقي في بنيها الأربعة، وفي طالباتها الكثر، وزميلاتها المباركات، وبكل من استفاد من علمها، وسلوكها في التعامل والتعاذر وتبليغ العلم وعون الدارسين، أو اقتبس من علم زوجها؛ ذلك أنها شريكة لزوجها العالم النحرير بتهيئة الأحوال له ليقرأ ويبحث، وكي يكتب ويعلّم وينفع، وشريكة له بصرف المنغصات عنه، وشريكة له بالتجاذب العلمي بينهما؛ إذ هما زوجان باحثان عالمان مؤلفان مغرمان باللغة وما يحيط بعلومها الشريفة المنيفة.
إنه لعمركم ليوم عزاء حزين للغة العربية وعلومها، ولمحبيها والمدافعين عنها؛ وحزين بفقد الأستاذة العالمة الموفقة، وبالحزن الذي حلّ بفؤاد زوجها العالم الموفق المنجز، وبانقطاع ينبوع صاف من العطاء والمنح الفكري والعلمي، وتوقف رافد عذب طيب متصل بلغة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، والله يتقبلها بقبول حسن، ويثبتها، ويصبر آلها، ويجعل علمها من عملها الصالح الباقي الذي يجري في حسنات صحيفتها إلى أن يخرج الناس من الأجداث سراعًا.
فأي مرثية تسليك يا أبا أوس عن الزوجة الوفية التي افتتحت كتاب الوفاء لك وختمته؛ ففقدك الذي رزئت به عظيم، والفقد ثقيل وقعه، ولعل مما يخفف عنك جميل الذكرى بالإحسان والعشرة الطيبة، وحسن العهد بالصفح والدعاء، وأمل باللقيا بجوار عزيز مقتدر، مع إدامة الدعاء والضراعة، والإبقاء على العمل الصالح للصاحب الراحل، الذي بدا للقريب والبعيد أنكما مثل روح واحدة طاهرة، ومثل نسمة واحدة متآلفة.
وبعد فيا أم أوس، يا سمية الفضائل والبركات، ويا وسمية الأزمنة المباركة، جادك المولى برحمات متوالية تصل لمثواك البرزخي كالغيث ديمة إثرها ديمة، وأنار لك ربك المرقد ببدر وضاء، وببدور منيرة، وحمى مولاك مقدمك بأوس ينافح عنك بدعاء صادق هو أقوى وأمضى وخير لك من الأنياب والبأس لأوس الحقيقي، وجعل الكريم وفادتك عليه حميدة عليك؛ إذ أقبلت إليه وأنت ثابتة على دين محمد، وعلى ملة إبراهيم، عليهما الصلاة والسلام.
الرياض- الجمعة 15 من شهرِ شوال عام 1444
05 من شهر مايو عام 2023م
12 Comments
مقالة مؤثرة في حدث جلل ..
الفاجعة لا يمكن وصفها بالأحرف
هاتفتها لأعايدها وكانت تغرقني بالحفاوة ولطيف الكلمات و وافر الدعوات وكأنك أهديتها بمكالمتك ماتقر به عينها ، قالت بأنها ستأتي للسعودية وسنراها .. لكنها لم تأتي .. لقد رحلت وتركتنا ورائها إنني لا أصدق حتى هذه اللحظة بأنها ماتت ، لقد كانت مليئة بالحياة تحب صلة الأرحام و جمع الاصدقاء والأحباب كانت امرأة تحرك القلوب أينما رحلت فيها جاذبية اللطف ورقة القلب فلا تحل في مكان إلا كانت كالزهرة المتلألئة ..عليها رحمات الله تترى .. رحلت تقية نقية نحسبها كذلك والله حسيبها جمعنا الله معها ومع أحبابنا الذين رحلوا في جنة الفردوس الأعلى ولا نقول إلا مايرضي ربنا والحمدلله على قضاءه وقدره وإنا لله وإنا إليه راجعون.
جزاكم الله خيرا وأحسن لكم العزاء
ماشاءالله عليك أستاذ أحمد وفيّ تكتب بلسان صدق وأسلوب جميل وفقك الله وجزاك خيراً
عبدالعزيز محمد العسكر
رعاكم الله أخي العزيز عبدالعزيز، والله يغفر لها ويرحمها.
رحمها الله رحمة واسعة واجزل لها من عطاياه وجعل قبرها روضة من رياض الجنة ..وثبتها بالقول الثابت.. عاشرناه وكانت رفيقة تحب الصلة وتعطي لكل قدره ..ذات قلب رقيق متعلقة بربها نحسبها كذلك والله حسيبها ..
اللهم آمين
رحمها الله رحمة واسعة واجزل لها من عطاياه وجعل قبرها روضة من رياض الجنة ..وثبتها بالقول الثابت.. عاشرناه وكانت رفيقة تحب الصلة وتعطي لكل قدره ..ذات قلب رقيق متعلقة بربها نحسبها كذلك والله حسيبها ولا نزكي على الله احدا .
مقال مؤثر جزاك الله خيرا
رحمها الله، والله يرعاكم.
أَرى العَيشَ كَنزاً ناقِصاً كُلَّ لَيلَةٍ
وَما تَنقُصِ الأَيّامُ وَالدَهرُ يَنفَدِ
منذ أن قرأت هذه المقالة وأن أشعر بأن عقارب الساعة توقفت حائرة، شاردة، تختنق في الصدر عبارات وتضيق علينا الأرض عند الفقد بما رحبت كل العبارات، ماذا ينبغي أن يقول المرء في مثل هذا الخطب الجلل!
اكتب هذا التعليق ودمعتين تنازعني نفسي، غفر الله لها وأسكنها فسيح جناته، غصّة منذ الأمس اجتاحت حنايا القلب، فوالله لا أعرف هذه الفاضلة ولا أعلم عنها شيئًا إلا حينما قرأت ما خطته يداك هنا، لقد كتبت عنها بمشاعر صادقه ترثيها بحرارة الألم لفقدها وبأحرفٍ ممتلئه بالفجيعة، ما كتبته كان مؤثرًا وكأنك اختصرت سيرة تلك المرأة الصالحة بسطور ثقيلة تُلخص حياتها ومسيرتها الطيبة بمشهدٍ مُبكي، حفرت مقالتك كل الحزن في داخلي، بل تجافى النوم عن عيني، حال الدنيا غريب، تجمع الأحياء ببعضهم بلا موعد، لكن الأغرب أن تجمع هذه المقالة مآثر حُسنها وتخليد أثرها في قلوبنا ونحن بيننا وبينها مسافات ربما مُدنٌ ودول، لم نكن يومًا لنعرفها لولا وفاء قلمك ياسيدي الكريم!
جعلها الله في مثوى عباده الصالحين وربط على قلب ذويها والحقيقة التي لا تقبل سوى التسليم والصبر أن العمر محدود، والزمن قصير، والموت أجل مكتوب،وعمر معدود وأمر محتوم وكتاب مؤجل!
الله المستعان، غفر الله لها ورحمها وأسكنها جنته ووالدي ووالديكم ومن نحب والمؤمنين، كانت رفيقة لأمي عندما كنت صغيرًا في العشرينات الهجرية، وكانوا جيرانًا لنا في سكن الجامعة، وكانت تحرص على جمع والدتي والجيران في بيتهم، غفر الله لها ورحمها وتجاوز عنها.
أسأل الله لها المغفرة ، وأن يضيفها الله رحمته .
اللهم آمين