سير وأعلام

في وداع أسامة شبكشي

في وداع أسامة شبكشي

توفي اليوم الجمعة الأستاذ الدكتور أسامة بن عبدالمجيد شبكشي (1363-1444)، وصلي عليه بعد صلاة العصر في جامع الجفالي بجدة قبل أن يوارى الثرى في المقبرة. وأسأل الغفور أن يكون مصابه تكفيرًا ورفعة درجات، وأن يغدو رحيله في هذا اليوم من علامات حسن الخاتمة، وأن يلهمه الحجة، وينير عليه الظلمة، ويؤانسه في وحدته من وحشة الأجداث، وأن يجعل رقدته البرزخية سعيدة إلى أن يقوم مع الناس لرب العالمين، والعزاء لزوجه، وابنته، وجميع أفراد أسرته الغالية أخصّ منهم أخاه السفير فوزي، وقريبه البار الكاتب الأستاذ حسين شبكشي.

كتب أبو عبدالمجيد قبل وفاته بسنوات سيرة ذاتية طويلة له إلى نهاية عضويته في مجلس الوزراء، ثمّ أردفها بسيرته الألمانية طالبًا وسفيرًا، وهي حسنة منه على التاريخ الإداري والتعليمي المحلي. وعندما شغل مناصب كبرى مديرًا لجامعة الملك عبدالعزيز، ثمّ وزيرًا للصحة، فمستشارًا بالديوان الملكي، وأخيرًا سفيرًا للمملكة في برلين، امتاز معاليه بمزايا جميلة منها الحزم والصرامة الإدارية، والدقة والنزاهة المالية، والحرص على مقتضيات دينه ومصالح بلده وأناسه، وتوقير اللغة العربية ولو في فاصلة أو همزة أو نقطة، والعناية بالدعوة إلى الله وتطمين المرضى دينيًا، وبعض النزقين يستكثر هذه الأخيرة؛ ولو قيل له إن الكنائس والكنس تصنع ذلك لأبلس!

ومما اشتهر به الوزير الكبير ورجل الدولة المتابعة الدقيقة، والحدة التي تزيد عن الحدّ أحيانًا، ولا بأس بالحدة مع الإنجاز، وإنها لحدة مروية عن شيخ الإسلام ابن تيمية، والمحدث الألباني، والمحقق محمود شاكر، وغيرهم. بيد أن المنصفين يشهدون له أن تلك الحدة دافعها المصلحة العامة وليس الانتصار الشخصي، وأنه مع هذه الحدة رجاع للحق، أواب إليه، ولا يأنف من الاعتذار للطرف الآخر كائنًا من كان، والله يجعلها له من حسن الخلق الذي يحلّ به في أعالي الجنان، ويجاور بسببه النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام.

لذا فما أشدّ العجب من أقوام يستكثرون الثناء على رجل ذي إنجازات وتاريخ إداري ناصع لأنه لم يوافق لهم على طلب، أو التزم بالأنظمة المعمول بها، أو راعى من الاعتبارات ما لم يظهر لهم، وما عرف أولئك الذين لا يعذرون ولا يحسنون الظن أن الوزير موظف في النهاية؛ تحكمه الأنظمة، وتتابعه الأجهزة، وقبل ذلك تحركه مبادئ من الأمانة والعدل والحكمة وحسن التقدير وغيرها، وفوق ذلك كله فهو بشر يصيب ويخطئ، والله يلهمنا الصفح الجميل.

ثمّ إنه عندما مرض مرضه الأخير، وكُتبت عنه تغريدات وكلمات، جاءت بعض التعليقات المهمة الكاشفة، أو أعيد بعثها؛ إذ يقول الإعلامي ماجد العبيد: علمني لذة الاختلاف الراقي، ويضيف الأستاذ أحمد العلي مدير صحة الشرقية أيام وزارة شبكشي: كانت حقبته الوزارية لتسديد الديون، ومراجعة الأنظمة والتشريعات، ووضع ضوابط للعمل الطبي والصحي، وقد جنى ثمار جهوده الوزراء الذين جاءوا بعده، وهي الشهادة ذاتها التي ينقلها د.فرج وافي عن والده الذي عمل بديوان الوزارة ثلاثين عامًا مثنيًا على تعامل شبكشي مع موظفيه.

وقال الكاتب محمد الأحيدب: إن شبكشي يحترم الناقد ويحتقر المطبل، وتلك سمة الرجل الناصح المريد للإصلاح؛ لأن المفسد لا يرضى بحرف من الحق، أو نقص من كمية المديح الكاذب. وشهد د.عبيد بن سعد العبدلي مستشار التسويق بمواقفه المشرفة معه ومع الوفد الطلابي لجامعة الأمير سلطان أثناء إقامة كأس العالم في ألمانيا، والذي يتابع سيرة الرجل، ويسمع الشهادات عنه، يتأكد لديه عنايته الفائقة بجيل الشباب؛ حتى أنه يستقطع الساعات من وقته للحديث معهم. ومما لاحظته في أسلوب معاليه بالعمل والحديث أنه لا يأنف من الثناء على أحد، ولا يستكبر على معلومة، ويسأل عن التفاصيل، ويسرع للاعتذار بنفسه عن أيّ غلط.

أما الأستاذ حجي الحجي فيروي أنه عمل تحت إدارته لمدة ثماني سنوات؛ فتعلم منه فن إدارة الوقت، وأشياء أخرى في علم الإدارة، وهو وزير لا يقبل أنصاف الحلول فيما يخص المريض. ويؤكد ذلك الأستاذ سعد المفرح الذي عمل مشرفًا عامًا على مكتب الوزير شبكشي، ويصفه بأنه جمع بين الحزم واللطف، وكان حريصًا على تقديم أفضل عناية طبية للضعيف قبل المقتدر. ويكرر الاستشاري د.عبدالله الضلعان خصال أ.د.شبكشي الإدارية الحميدة، ويضيف: إن له قلبًا رقيقًا، ويعتذر عن الخطأ كما شاهد الضلعان بنفسه إبان عمله مع شبكشي عدة سنوات.

كما نقرأ ما كتبه أ.د.عبدالله السبيعي استشاري الطب النفسي: ‏كان أستاذي بكلية الطب في جامعة الملك عبدالعزيز، وهو نعم الأستاذ، ونعم العالم، ونعم المدير، ونعم القائد. والحقيقة أن جهوده وجهود غيره من المسؤولين أثمرت وانتفع منها المواطن والوطن، بيد أن سيرة شبكشي لها نكهة متفردة إبان عمله في وزارة الصحة، ولذلك يكاد يجزم العارفون أنه لو كانت الأموال متوافرة أيام وزارته لصنع فرقًا يحكى به وعنه، بيد أنه انشغل بسداد الديون، وتقنين الصرف.

ويظهر أن الإحساس الديني، والسمو الإيماني لدى الأستاذ الدكتور أسامة شبكشي مترافق معه أينما حل؛ إذ يحكي الدبلوماسي لافي المطيري من ذكرياته الرمضانية في برلين أن السفير شبكشي يحرص كل سنه على دعوة الأئمة والخطباء من السعودية لإقامة صلاتي التراويح والقيام، وإحياء أجواء الطاعة والتعبّد في شهر رمضان بالصلوات والدروس والخطب. ومما روي لي أنه في اجتماع مع موظفي الوزارة بعيد تعيينه وزيرًا لها، قطع كلامه وسكت، ثمّ نظر للمشاركين نظرة عابرة متفحصة، وقال: لا أرى بعضكم في مسجد الوزارة!

ومن لطفه الفطري ما أشاد به الأستاذ ياسر الحربي مستشار ريادة الأعمال الذي لن ينسى موقف شبكشي في عزاء ابن عمة الحربي؛ وكانوا مفجوعين بوفاته، فلما حضر الدكتور أسامة، روى لهم قصة وفاة ابنه الوحيد عبدالمجيد، وأخبرهم عن نفسه وهو يكافح لإنقاذه في غرفة العمليات؛ فاختفى مصاب أهل العزاء أمام الألم الذي سمعوه من شبكشي؛ فداوى جراحهم بطريقة عجيبة، ولربما أنه نكأ جرحًا دفينًا في أعماق نفسه.

هذا وإن سرد المواقف الحسنة لا يكفيه مقال ولا أكثر، وإنما هي محاولة لاستذكار بعض فضائل راحلنا وقد انتشر خبر نعيه قبيل عصر اليوم، ونحن نتوجه مع الوقت لساعة إجابة منتظرة؛ فاللهم تقبل منه أحسن الذي عمل، وتجاوز عن سيئاته في أصحاب الجنة، وكما جعلت له مكانًا عليًا بين وزراء الصحة، فاجعل له عندك قدم صدق، ومكانًا في عليين؛ فأنت ربنا الرحمن الرحيم المليك المقتدر.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الجمعة 09 من شهرِ رمضان المبارك عام 1444

31 من شهر مارس عام 2023م

Please follow and like us:

12 Comments

  1. كلام جميل حبيبنا اباعبدالمحسن
    رحم الله الدكتور اسامة و غفر له و اسكنه فسيح جنته و والدينا و المسلمين 🌹

  2. اللهم إغفر له وأرحمه وأجعل ما أصابه تمحيصاً وتكفيراً لذنوبه ورفعة لدرجاته ،، اللهم إنه عبدك ولا نشهد عليه إلا خيرا ،، اللهم إنا نسألك أن تثبته بالقول الثابت وتدخله الجنة من غير حساب ولا سابقة عذاب ،،، ووالدينا و جميع أمواتنا وأموات المسمين ،،

    إنا لله وإنا إليه راجعون ،،

    جزاك الله خيراً أبا عبدالمحسن

  3. جزاك الله خيراً ابا مالك
    وغفر للدكتور اسامة وجعله في عليين في الفردوس الاعلى من الجنة .
    سيرة عطرة ستبقى خالدة تحمل عبراً ودروساً لا تنسى .

  4. رحم الله أسامة شبكشي وغفر له … أحسنت يا حبيبنا على هذا المقال وغفر الله لك وجمعنا جميعا في الفردوس الأعلى من الجنة.
    تحياتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)