صالح العجلان إلى كل محمدة!
إن مجتمعنا لعريق بما رسخ فيه من تعليمات سماوية، وأعراف مقبولة، وعوائد طيبة، وفضائل متوارثة بأمشاج أهلها، ومتناسلة فيهم بين الصلب والترائب، فلا عجب بعد ذلك أن يتكاثر فيه ومن أفراده المكارم والمحامد على اختلافها مادية ومعنوية، فهم قوم يأرزون إلى أعراق عربية شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وهم أتباع هذا النبي الخاتم، وقراء الكتاب المهيمن، وأصحاب الدين المرتضى من المولى بعد إكماله، فأنعم وأكرم بهم شهامة ونبلًا، وأنعم وأكرم بهم أصلًا ومحتدًا، وعلمًا وعملًا، وسيرة مرضية سنية في جميع أحوالهم بالفقر والغنى.
ومن النماذج التي تعبّر عن هذا المجتمع وأناسه وبيوته العريقة، العم العزيز صالح بن عبدالعزيز بن محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز بن عثمان بن عجلان، الذي ولد بالعاقول بجوار بريدة، ودرس بالغماس في كتّاب والده أولًا، ثمّ تحوّل إلى الدراسة النظامية، ونُقل من فوره ليبدأ الدراسة بالصف الثالث، ونال الشهادة الابتدائية وكان ترتيبه آنذاك الرابع على منطقة القصيم والثامن على المملكة، والتحق عقب نيلها بالمدرسة المتوسطة، ثمّ قلب دراسته إلى المعهد العلمي إرضاء لمقام والده، وقُبل في المعهد بشفاعة من الشيخ القاضي صالح الخريصي.
يمتاز الشيخ صالح بن عبدالعزيز العجلان بعد بره الظاهر والخفي بوالديه وإخوانه، بأنه صاحب صلات مستمرة مع أقاربه أيًا كانت درجة قرابتهم منه، وأينما كانوا، حتى أنه يسافر بانتظام إلى مصر والسودان للقاء أقاربه هناك، والجلوس معهم دون إرهاقهم، وإذا جاء أحد منهم إلى المملكة بادر إلى خدمته وعونه بما يستطيع، وفي الداخل هو همزة وصل مستقيمة ثابتة بين أسرتيه في بريدة وعيون الجواء، وهي لعمركم خلّة كريمة ترضي الرب، وتغني المرء، وتطيل في العمر بنسيئة الأثر وفقًا لما ورد في صحيح الخبر.
ومن أعمال البر والصلة التي سعى إليها أبو عبدالله أنه جمع نسب أسرته وشجرتها وتفرعها في دليل مطبوع، ونشره بين أبناء أسرته العجلان، وعند غيرهم من أسر عيون الجواء الذين يلتقي معهم في الجد الأكبر عجلان عليه وعلى ذريته الرحمة والرضوان. ومنها أيضًا مسارعته إلى الإخبار عن أيّ طارئ أو نازلة وفاة تحدث داخل الأسرة، ويعلن عن أرقام التواصل للعزاء والمواساة أو المساعدة والعون، وهو سبّاق بهذه التعزية العامة والخاصة حضوريًا وهاتفيًا وعبر الرسائل.
كما أن الذي يجالس أبا عبدالله يجد منه خصالًا رفيعة في المجالسة والمحادثة، منها أنه يستمع بإنصات ولا يقاطع، وحين يتحدث يسوق الرواية بأسلوب لطيف، ولغة راقية محببة، وصوت هادئ، ويحشد داخل الحكاية من المعاني السامية المبثوثة ما ينفع السامع والمتكلم والناقل والمنقول إليه. ومن بحر حسناته أنه لا يحفل كثيرًا بالتقديم أو التأخير في المكان أو السلام بناء على السنّ أو المقام، مع أن له الحق في التقدمة والتبجيل وتقبيل الرأس، بيد أن الواثق المستقر روعه لا يلتف لمثل هذا الموضع الذي تعلق فيه نفوس، وتفسد لأجله نفوس!
ومن طبيعة أبي عبدالله أنه دائم الابتسام والبشاشة، والبشر مصاحب له أدام الله سروره، ولعلّ هذه الصفة البادية عليه مما صرف إليه قلوب الناس وصادق ودادهم، حتى من أولئك الذين لا يشتركون معه في لغة أو لون أو بلد أو دين كما سيأتي، ويفسر بسمته بأنها سبب أكيد يجد المرء معها المتعة بحياته، والطريق إليها أن يأخذ الإنسان الدنيا بأريحية؛ فيجتهد ولا يحرص، ويسعى دون أن يشقي قلبه وعقله، وهي حكمة قليل فاعلها مع عظم نفعها لصاحبها، فما أكثر العبوس والتجهم في بني البشر!
وهذه البسمة المجانية جلبت له مع المحبة والحسنات لمن احتسبها أجرًا وعبادة، أنه غدا فيما يبدو للناظر أصغر سنًا من عمره، وأشبّ من أبناء جيله ما شاء الله تبارك الله وزاده من نعيمه؛ ولذلك علمت عندما زرته في المستشفى قبل سنوات مضت، بأن الطبيبة التي دخلت عليه في غرفته، تفاجأت من حيويته ونضارته وسعة أفقه، إذ ظنت بأنها ستدلف إلى عجوز راقد قد شاخ وشاخت عظامه ونفسه وروحه، وقد تضاحكت معه إبان تلك الزيارة حول هذه الواقعة بكلام لا يدرِك معناه أو مبناه أيّ عيب أو شين وحاشاه.
كذلك فعند أبي عبدالله طبيعة تهفو للسفر والخروج إلى البر، ومع أنه لا يجيد لغة أجنبية إلّا أنه لم يتعثر في أيّ مكان بشرق العالم أو غربه، وهو يعتقد أن لغة الإشارة عالمية وتكفي لنجدة المضطر، ولربما أن بشاشته أمالت نحوه القلوب ويسرت التعاون معه؛ هذا التعاون الذي جعل موظفة تخرج من مكتبها في مطار لندن لتوصله إلى طائرته المتجهة لإسبانيا، وأعجب من ذلك أنه استأذن رفقاء السفر معه بعد وصولهم لمدينة يابانية، وسافر بالقطار وحده لأخرى تبعد أربعمئة كيلو عن المدينة الأولى، وفي البلدة الثانية عقد صفقة استيراد مع مصنع ياباني، ثمّ عاد بالقطار كرة أخرى، وركب أصحابه معه في محطة المدينة التي خلّفهم فيها، وقد صنع كل هذا دون أن يكون معه ترجمان.
أيضًا من قصصه في رحلاته أنه سافر قديمًا إلى ألمانيا، وزار مدينة في ولاية بافاريا اسمها نورنبيرغ، وهي مدينة المحاكمات الشهيرة ضد زعماء النازية بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية، وسكن بفندق مكون من عمارتين، وفي إحدى صالاته منضدة كبيرة فوقها زجاج، وتحت الزجاج بطاقات عمل مطبوعة بلغات أجنبية تعود لزوار المدينة وفندقها التاريخي، ولأن العجلان فيه حمية لقومه ولغته، شرع يبحث عن شيء مكتوب بالعربية التي يحبها ويحب أهلها، وتعشقها عينه، ويستعملها لسانه، وبها تحيا مشاعره، ومنها يستلهم تفكيره ومروءته.
فوجد قصاصة ورق عربية الحروف والكلمات، وفرح بها حتى لكأنه قد عثر على كنز دفين، والورقة كتبها بخط يده الأمير فهد الفيصل الفرحان (1330-1418)، رئيس بلدية الرياض (1373-1375)، وأول أمين لأمانتها بعد تحويل البلدية إلى أمانة (1375-1386)، وفيها أن الأمير جاء إلى هذه المدينة بناء على أمر الملك له بأن يجوب المدن الجميلة في العالم ويعاينها؛ كي تصبح العاصمة السعودية الرياض مثل تلك المدن، ويضيف الأمير الأمين بأنه أعجب بتمسك تلك المدينة بتراثها القديم.
ولدى الرجل الذي يحفظ النسب والوثائق، ويفاخر بقدمائه وتراثهم وأخبارهم الطيبة، ويبقي على الود والعلائق، ويحميها من الفتور والانقطاع، لديه اهتمام بجمع بعض المقتنيات القديمة، مثل أجهزة المذياع بأحجامها وأماكن صنعها، والهواتف العتيقة ثقيلة المحمل، ولها في مزرعته مكان خاص يستمتع به الزوار، وعنايته هذه ترجع إلى ربع قرن أو أزيد، ولديه عدد من الأجهزة القديمة يربو على الخمسين، وفي منظرها المتراض تاريخ من التطور والتغيير.
وبعد هذه الجولة العجلى، فإذا واجهت يا رعاك الله يومًا رجلًا طوالًا، مهيب المنظر، باسم المحيا، مشرق الطلعة، وفي كلماته وعباراته لطافة، ولأحاديثه ومروياته حلاوة وعذوبة، وتبدو الفرحة في عينيه قبل أن يعلنها بمقوله، فمن المتوقع حينها أن تكون أمام صاحبنا الذي يمشي على الأرض هونًا، ينشر البهجة، ويعرض عن اللغو، ويدعو إلى المعروف والخير وما فيه دوام الصلة والمحاسن والمكارم، ولا غرو حينها أن تقول مقتنعًا بملء فيك إن خَبره وخُبره يدلان على أنه حقًا وصدقًا صالح العجلان إلى كل محمدة!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الأربعاء 17 من شهرِ رجب عام 1444
08 من شهر فبراير عام 2023م
4 Comments
ماشاء الله عليك يااستاذ احمد ابدعت بوصف العم صالح وفتحت لنا افاق نتفكر بشخصه الكريم .
ابو عبدالله قريب لي واستانس بمجلسه وحتى برسائله واخباره فوالله انه صاحب السبق بالسوال والمعايدة وصلة الرحم مع اني بعمر اوسط اولادة الا انه من تواضعه وحسن منطقه واسلوبه وطيب قلبه يبادر بالتواصل والسوال عن الاقارب والاصدقاء اسئل الله ان يطيل عمره بالخير والعمل الصالح هوا واخوته وذريته
اللهم آمين وهو كذلك من لطفه دوما.
أنعم وأكرم ب العم آبو عبدالله رجل كرم وشهامه فهو رجل عطاء وكرم عن الصغير قبل الكبير اعرفه جل المعرفة فهوا قريب من عمل الخير وفعله باذل في ماله وجاهه ونفسه لايمكن ان نوفيه حقه إلا بالدعاء بالصحة والعافية وطولة العمر له وشكرا لك ابن عمي احمد وجزاك الله خير وبارك فيك أنت وعمى ابو عبدالله. تحياتي لكما ودمتم في حب وود.
شكر الله لكم