عبدالمحسن الصالح وخماسية التجديد!
عاش الأستاذ عبدالمحسن بن ناصر بن عبدالمحسن الصالح (1322-1414) حياته بالاشتراك مع أخيه المربي الأستاذ صالح ابن صالح، وكان مجددًا بالتعاون مع أخيه وتوأمه، ومجددًا منفردًا في نواح أخرى، وعلى هذا التجديد الخماسي يقوم قائم هذا المقال الذي يصف رجلًا نابهًا يستأهل أن يُذكر ويترحم عليه، وإني لكلف بالكتابة عمّن يستحق، إذا توافرت عنه مادة مناسبة، وأسعفني الوقت والقريحة، وانتفت الموانع؛ فكيف به إذا كان اسمه عبدالمحسن!
فمن ملامح التجديد لدى أستاذنا مشاركته الفورية بلا تردد مع شقيقه في تأسيس مدرسة ابتدائية أهلية بعنيزة على غرار مدرسة النجاة الأهلية في الزّبير، ولم تكن المدارس النظامية معهودة آنذاك في نجد حتى وإن كانت المدرسة الصالحية مسبوقة بالمدرسة القرزعية بعنيزة ذات الشكل الجديد والمضمون التقليدي، والله يرحم أولئك السباقين الكرام من آل القرزعي وآل الصالح، فما أعظم صنيعهم.
وقد اقتصر الرجل على تدريس الصفوف الدنيا، وهو تدريس جمع التربية مع التعليم والخدمة؛ فكان يبري للطلبة أقلامهم بشفرة له معها حكاية أخرى، ويبذل قصارى الجهد مع الصغار منصرفًا عن بنبه وبني أخيه الجالسين في الفصل المدرسي مع لداتهم؛ كي لا تجرفه نحوهم عاطفة طبيعية أو منفلتة، فإذا ذهب الجميع آخذين كفايتهم من الزاد العلمي والتربوي، منح لأولئك الذين تزاور عنهم الوقت المناسب؛ كي لا يكون القرب منهم سببًا لحرمانهم من حقوقهم، وتلك فلسفة تجديدية في العدل والتعامل.
أما الملمح الثاني الفريد والعسير، فهو في علاقة الرجل مع شقيقه وشريكه في المشروع الكبير، إذ قام عبدالمحسن بجلّ شؤون صالح الحياتية، حتى يتفرغ الشيخ المربي صالح لعمله الأكبر، ولأداء مهمته الجليلة على أنصع صورة، وأكمل أثر. وحينما فعل الشيخ عبدالمحسن ذلك، لم يكن غائبًا عن حسبانه أن الأضواء سوف تنصرف لأخيه، ويتبعها الثناء والذكر والمجد، بيد أن الرجل تسامى، ومع المولى تعامل، وواصل دأبه الخفي، ولم يأبه لموقعه أكان في الساقة أم في الحراسة، ما دام أنه آخذ بعنان نفسه، ويؤدي رسالته الكبرى بأسلوب مباشر ظاهر، وبأسلوب آخر غير مباشر لا يكاد أن يُرى أو يدري به أحد إلّا عالم السر وأخفى.
كما أن الرجل الذي مارس التعليم، ووهبه نضارة العمر، حتى بلغ الشيخوخة وتجاوز سن التقاعد وهو منغمر بالتعليم وإدارته، لم يغمط مواهبه الأخرى وهواياته حقها، فأجاب دواعيها، وعاش مع الشعر يقرأ الدواوين، ويستضيف الشعراء حتى لو خسر تجارته وأقفل متجره، ثمّ شرع يشدو بالشعر الجميل الأنيق في موضوعات اجتماعية وإصلاحية وتعليمية، ومثلها لم تُعهد حينذاك مضمونًا ولا طريقة، واستثمر موهبته وأبدع فيها مستفيدًا من أساليب القص، والحوار، واستخراج مكنون النفس، واستنطاق الحيوانات والمعاني، وهذا هو التجديد الثالث.
ومن ملامح تجديده الشعري وإجادته الفنية، أن صير شعره حاضرًا في مناسبات المدرسة والمجتمع، ثمّ أحيا به ليالي السمر والثقافة والأدب مع أخيه وآخرين من مثقفي بلدتهم الأثيرة؛ فعنيزة مدينة المجالس المنعقدة طوال اليوم والليلة، ومدينة الأدب، وحراك الفكر، وحياة الثقافة. ومن جوانب استثماره لموهبته الشعرية تدريب طلابه النجباء على الإلقاء، ومن أبرزهم تلميذه عبدالله العلي النعيم.
ولم تقف علاقة شاعرنا مع الشعر والقريض هنا؛ إذ قرر الكف عنه في مستهل الثمانينات الهجرية التي تقابلها الستينات الميلادية، وأحرق بعض القصائد لولا أن أدركها واستنقذها نجل أخيه الشاعر مسافر، وطبعت في ديوان بتقديم طويل كتبه د.عبدالعزيز الخويطر. ومما يلفت النظر أن شاعرنا حرق بعض القصائد، وكانت نيته متجهة لإحراقها كلها، وفعل ذلك إبان فورة الناصرية وليس شيئًا آخر، ولو كان لتنذر به أقوام مرضى! وعمومًا فظاهرة حرق الإنتاج الفكري الشخصي قديمة، ولو تتبعها باحث لجاء بمادة لطيفة.
ومع كثرة ما نسمع عن قصص القنص، والافتتان بالصيد، وأخبار أهلهما، إلّا أن قناصنا الماهر رفيق البندقية الدائم، وصاحب الرمي الصائب في الغالب، كان لا يرمي صيدًا غافلًا البتة؛ فيستثيره كي ينتبه ويتحرك، ولا يرميه إلّا وهو طائر محلّق، أو هارب يعدو، وله شرط إضافي هو ألّا يكون الصيد حبيسًا على أفراخ أو صغار يغذوهم ويحميهم، وتلك لعمركم من مروءات الكمّل النادرة جدًا، وصيد هذا شأنه لا يكون عبثًا ولا جائرًا. ومن خبره أنه يذكي صيده الحي بالشفرة ذاتها التي يبري بها أقلام تلاميذه، ولكأنه يقول هي شفرة حادة بيد أنها لا تسير مسيرًا غير شرعي، ولا تعمل إلّا في حميد المواضع.
أما آخر موضع أقف عليه عجلًا لأني أكتب على جنح سفر كثير التعرجات، فهو أن المعلم الشاعر القناص، قد صاحب أناسًا أكبر منه، وآخرين من أسنانه، ثمّ تتابع على مصاحبته والمشاركة معه تعليمًا، أو شعرًا، أو قنصًا، أو سمرًا، أجيال متعاقبة من تلاميذه ومن بعدهم، فلم يترفع بحكم السن والجيل والمكانة، ولم يمانع من طول مسطرة الصحبة والرفقة، ولذلك فله ذكريات مع طبقات عمرية وثقافية متنوعة، ومن الأكيد أن هذا التنوع قد منح ذهنه المزيد من النشاط والحيوية والتجدد المتوقد، وهذه خلّة يكتسبها العاملون بإخلاص مع فئة الشباب على وجه الخصوص، وهنيئًا لهم.
رحم الله الأستاذ المربي الشاعر القناص عبدالمحسن الناصر الصالح، وأجزل مثوبته، وحفظ له الخلف الكريم، والعقب الطيب، الذين توارثوا عنه حب المكارم والآداب والمنافع العامة، مع السعي في خدمة تاريخ بلادهم ورموزها، ومن ذلك تكفلّهم بالكتابة عن رمزهم المربي الشهير وعمهم الشيخ صالح بن ناصر الصالح، والله يجمعهم على الحق والفضائل في الدنيا، وفي رفيع درجات الجنان بالأخرى عند مليك عزيز مقتدر.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف –حفر الباطن
ليلة الجمعة 12 من شهرِ رجب عام 1444
03 من شهر فبراير عام 2023م
2 Comments
رحمه الله رحمة واسعة ..
وزادكم عطاءً وتوفيقاً وسداداً ..
بوركت روحكم الطيبة أستاذنا وتباركت أيامكم وحياتكم وأنجالكم الكرام
لا أدري كيف أشكركم فلم يدر بالخاطر أن قلمكم الأنيق سيكتب عن رجل متوار ثم تلبسونه هذا الثوب الدافئ الجميل المزركش.. لكنني تذكرت أنكم أحد الينابيع الوطنية التي لا تملك إلا أن تتدفق بالخير والجمال وتنساب جداول رقراقة لا تنتظر حمداً ولا شكورا ولذا فإن قصارى ما أفعله أن أنهل وأعل وأتملى من هذا الينبوع الثر وكأن الأخذ شكر والعطاء قناعة..
دمت ثر العطاء فذ الوفاء واسلم لوطنٍ يتغذى من معين إبداعك.