سياسة واقتصاد شريعة وقانون عرض كتاب مواسم ومجتمع

إنقاذ الأوقاف من التعثر

إنقاذ الأوقاف من التعثر

فرغت من قراءة كتاب عنوانه: الأوقاف المتعثرة لدى الجمعيات الأهلية في المملكة العربية السعودية: دراسة استكشافية ميدانية، تأليف: د.عبدالله بن ناصر بن عبدالله السدحان. صدر الكتاب عن دار مؤسسة ساعي لتطوير الأوقاف عام (1443=2022م) -على خلاف في السنة الهجرية بين الغلاف وداخل الكتاب-، ويقع في (176) صفحة؛ مكونة من مقدمة الناشر فالتعريف بالمؤلف، ثمّ شكر فمستخلص للدراسة باللغتين يعقبه تمهيد، وخمسة فصول، يأتي بعدها ستة ملاحق، ثمّ فهرسان للمصادر والمراجع الورقية والإلكترونية، وأخيرًا ثلاثة فهارس للجداول والملاحق والموضوعات.

ذكر الناشر في مقدمته أنه من حسنات الشيخ الواقف سليمان بن عبدالعزيز الراجحي أن توجه وقفه صوب العناية بفقه الوقف، وأحكامه وتطبيقاته، وحل مشكلاته، عن طريق مؤسسة ساعي لتطوير الأوقاف التي تُعدّ إحدى مبادرات وقف الشيخ؛ وهي مؤسسة مستقلة لا تهدف للربح، وتقتصر أنشطتها على التطوير العلمي والمهني للوقف، هادفة لجعل الوقف عملًا مؤسسيًا، بنشر ثقافته، وخدمة أطرافه، وبهذا تعظم إفادة الأوقاف في الحال والمستقبل من الشيخ سليمان وتجربته ودعمه ومؤسساته.

أما المؤلف فممن جمع الله الحسنة العلمية بالتخصص في علم الاجتماع حتى نال أعلى الشهادات فيه، والحسنة العملية بعمله في وزارة الشؤون الاجتماعية وكيلًا مساعدًا لأكثر من شأن مجتمعي مدة أحد عشر عامًا، مع المشاركة في لجان وقفية وإستراتيجية لمقاومة الفقر. ويضاف لذلك التدريس في الجامعات، والإشراف على الرسائل العليا لنيل الماجستير أو الدكتوراه، مع عضوية عدد من مجالس الإدارة، وتقديم استشارات لأجهزة وقفية وخيرية، والإشراف على بيوت خبرة ودراسات، ونشر أزيد من خمسين كتابًا وبحثًا في هذا الحقل الخصيب، ولا غرابة بعد هذا أن يوصف بأنه من أكثر المهتمين بموضوع الإنماء لاجتماعي الشمولي.

عليه فقد تآزرت هذه الحسنات والبركات لإجراء دراسة عن أوقاف الجمعيات الأهلية المتعثرة، وتقول خلاصتها الأولى وتفصيلاتها اللاحقة: إن أكثر الأوقاف المتعثرة موجودة لدى جمعيات البر فجمعيات الدعوة ثمّ جمعيات تحفيظ القرآن، التي استحوذت على أربعة أخماس النسبة الكلية من موضوع الدراسة، ومن اللافت أن الإشراف على هذه الجمعيات يرجع إلى وزارتي التنمية والشؤون الإسلامية، وهو الأمر الذي جرى عليه تطوير نظامي مؤخرًا، وتطوير مؤسسي بتأسيس المركز الوطني للقطاع غير الربحي.

كما يقول المستخلص: إن مشكلة تعثر الأوقاف تظهر جليًا في مناطق مكة، ثمّ القصيم، فالرياض مع أنها الأكثر في عدد الجمعيات. واستبان أن التعثر موجود لدى جمعيات قديمة وزمن نشأتها أطول من غيرها، وهذا مفهوم بعامل القدم وإن كان عجيبًا لحضور الخبرة! بينما وجد الباحث أن أكثر التعثر منحصر في الوقف العقاري وتتلوه الأراضي فوقف النقود. وتأتي الجمعيات نفسها على قائمة أسباب التعثر؛ وهي صراحة تُحمد لأصحابها خاصة إذا تبعها معالجات جادة وحميدة حثيثة، ولم يلقِ المتعاونون مع الدراسة باللوم على المتبرعين أو الأنظمة مع أن لهم نصيبًا معلومًا من الأسباب، وتلك منقبة أخرى لهم تعزز فيهم الإنصاف والدقة، مع الصدق والعزيمة الأكيدة على الإصلاح كما أحسبهم، وهم لذلك أهل.

ومن الأسباب ضعف الاستقطاب المالي، والمبالغة في حجم الوقف ابتداءً، والشروع في أكثر من وقف معًا، وزيادة تكاليف العمالة والمواد، وغياب الخطط البديلة، والاستعجال في البداية قبل التأكد من السلامة القانونية، ووجود اعتراضات أو تعقيدات من بعض الأجهزة الحكومية أحيانًا. ومنها ما يلحق بالمتبرع من أحوال مالية تحول دون استمراره، أو نزول الوفاة به، أو الخلاف داخل الجمعية، أو بين مجلس إدارة منصرف وآخر يحل محله، وهي مسألة بحاجة لتدخل نظامي يمنع نشوء هذا الإشكال حسبما اقترح د.السدحان.

ولأن معرفة السبب، والتصريح به، لا يكفيان للعلاج مع أهميتهما، فقد اقترح المشاركون جملة من الحلول العملية والواقعية، منها تقديم الدعم المادي للجمعيات، وزيادة المتابعة من الأجهزة المشرفة للرقابة المعينة غير المعيقة. ومنها إجراء دراسات جدوى استباقية، والتنويع في المشروعات، إضافة إلى حلول أخرى. وبعد ذلك أوصت الدراسة بكتابة دليل استرشادي حكومي موجه للجمعيات، وإتاحة التعاون مع البنوك الرسمية والتجارية لتثمير الأوقاف، وفتح المجال للتكامل الوقفي بين الجمعيات، وتمويل الإنشاء أو معالجة العثار، مع الإفادة من برامج الاستدامة المالية للقطاع غير الربحي، ومن المنصات الحكومية المساعدة في جلب الأموال، والتوجه لفتح محافظ وقفية، والمشاركة في الصناديق الاستثمارية، والدخول مع شركاء أقوياء للتمويل والتنفيذ، وتفعيل مركز الصلح في الهيئة العامة للأوقاف.

أشير إلى أن الباحث د.عبدالله السدحان أوضح أن الوقف المتعثر هو كل وقف بدأ لكنه توقف ولم يكتمل وربما انتصف كما هو حال أغلبها، وبذلك فهو ليس الوقف المتعطل أو المهجور. وقد استعرض المؤلف الدراسات السابقة على هيئة ندوات، أو ملتقيات، أو أوراق عمل، أو كتب ودراسات، في داخل المملكة وفي محيطها القريب، ومع وجود اختلاف في النطاق الموضوعي، أو الزماني، أو المكاني، إلّا أنه أثنى على الجهود، وأفاد منها فيما يخص دراسته، وإن وجود الدراسات، والدارسين، والمراكز البحثية، وبيوت الخبرة، لمن غبطة الأوقاف، ومن كبير حظ المجتمعات والبلدان.

ومن أمثلتها هذه الدراسة التي اختصر مجتمعها إلى جمعيات أهلية لديها أوقاف متعثرة، وإلى المسؤولين فيها من مجالس الإدارة والإدارة التنفيذية والمالية؛ ولذا أرسل الباحث عبر الوسائط التقنية ألفي استبانة تشمل (93%) من الجمعيات المسجلة رسميًا، والردود المقبولة التي وصلت بلغت (146) استبانة تمثل (07%) من مجتمع الدراسة. ثمّ أجرى خمسة لقاءات فردية أو جماعية في مكة والرياض وحائل وعسير والأحساء، شارك فيها ثلاثة وعشرون مسؤولًا في الجمعيات أو خبيرًا في لجان الأوقاف، ولا يخفى أن موضوع البحث جديد، ومتشابك، وأمكنته متباعدة، وترافق بعض زمنه مع جائحة كورونا، وتلك صعوبات لم تمنع من الإكمال ولربما أنها أتعبت، والأجر من الله.

إن الزيادة المتوقعة في أعداد الجمعيات الأهلية وهو هدف وطني مهم، إضافة إلى افتقار كثير من هذه الجمعيات إلى المصدر المالي، ليفتحان الآفاق واسعة في محاولة لعلاج القائم من مشكلات التعثر أو حتى التعطل، وتجديد الأنظمة والإجراءات بما يحول دون تكرارها، فالعمل الأهلي والخيري والوقفي علامة على حيوية المجتمع، وتحركه الدائم النافع، ووجود تعاون وثيق بين الفرد والمجتمع والحكومة لرفع كفاءة هذه المؤسسات ارتفاعًا كفيلًا بتعجيل ثمارها اليانعة من أجل تحقيق سعادة الإنسان، ورفاهيته، وتقوية أمن المكان وتنميته؛ وإنها لغايات نبيلة سامية عامة يتفق على مثلها أولوا الألباب، وأصحاب القلوب الرحيمة، وذووا العزائم الصلبة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

@ahmalassaf

السبت 09 من شهرِ جمادى الأولى عام 1444

03 من شهر ديسمبر عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)