سير وأعلام عرض كتاب

آل الراشد الحُميد: غرة في جبين بريدة!

آل الراشد الحُميد: غرة في جبين بريدة!

العمل المنتج  سمة ظاهرة في مجتمع بريدة كبرى مدن القصيم، والممثل الأبرز للمنطقة الحيوية بحراكها العلمي والثقافي، ونشاطها التجاري، وخيراتها الزراعية، وبراعتها الصناعية، ورحلاتها التي جابت العالم المحيط فالأبعد صفقًا بالأسواق، وابتداء لقوافل من الشموخ والعزة وحميد الأخلاق قبل صناعة المال والأعمال، وهي القوافل التي عرفت بالعقيلات، ولبريدة النصيب الأوفر منها، ولا عجب بعد ذلك أن يكون من بريدة رجالات عظام شاركوا مع الملك المؤسس فمن بعده، ولهم آثار سياسية واقتصادية وعلمية واجتماعية، ويحضرني منهم الآن الشيخ فوزان السابق رحمة الله ورضوانه على الجميع.

إن دراسة شخصية أبناء بلادنا العزيزة عمل علمي جليل تتداخل فيه علوم كثيرة، ومع وجود كتاب أو أكثر عن هذا الحقل الخصيب، إلّا أن الأمنية تتجه صوب دراسة تشمل البلد كله؛ فبين مناطقه وجهاته قواسم مشتركة ظاهرة، حتى مع وجود مزايا تزداد في ناحية أكثر من غيرها. وما أجدرنا ببحث متين على غرار ما صنعه العالم البلداني المصري الكبير د.جمال حمدان عن شخصية أرض الكنانة، أو مثل دراسة عالم الاجتماع العراقي الشهير د.علي الوردي عن بلاد الرافدين ومواطنيها.

كنت أقول ذلك من قبل، وزاد حرصي عليه بعد أن طفت هذه الأيام حول أخبار مجيدة لأسرة نبيلة، وهو طواف محب قديم ومعجب منذ الطفولة ومستهل الشباب بناء على ما وعيته عنها من جدي أو سمعته غير مرة من والديرحمهما اللهوهو يسرد قصصهم ومفاخرهم. وقد أحيا مطافي الجديد ذكرياتي حول سيرة شموخ وإصرار ومكارم أحاطت بأسرة عريقة باقية ممتدة، هم الأماجد آل الراشد الحُميد من بني خالد، الذين انطلقوا من مدينة بريدة، عاصمة القصيم، وأم مدنها في المساحة والساحة، وفي كل بقاعنا فضائل وحسنات ومآثر.

ففي سيرة هذه السلسلة المباركة والنسمات الفاضلة ابتداء من الشيخ راشد بن إبراهيم بن راشد الحميد، واستمرارًا مع أنجاله محمد، وصالح، وإبراهيم، وعبدالله، وعبدالعزيز، وسليمان، سوف نجد قدرًا رفيعًا من السمات التي تحكي قصة ابن بريدة والقصيم ونجد والمملكة، وهي سمات تبعث على الفخر بالماضي، والاعتزاز بذلكم التراث، ونفي سمة التخلّف وأخواتها عن بيئتنا الصحراوية؛ فحتى مع ندرة الإمكانات، وضعف الاتصالات، وانعدام الخبرة، وغياب الماديات، وفقدان سبل الرفاه، كان لنا تاريخ مشرف صنعه أوائلنا؛ وأولئك آبائي.

من ذلك مثلًا أن آل الراشد الحُميد بادروا إلى أعمال غير مسبوقة، في ميادين ليست بغريبة على بريدة في تجارتها وزراعتها وصناعتها وإحسانها المجتمعي والفردي، وفي أعمال لم تكن مجهولة عند بعض أهلها، وإن غابت عن أسواقها مثل العمل المصرفي، والتواصل العابر للحدود، والعمل الاجتماعي المثمر الذي يجمع بين التعاقد والتراحم؛ فليس هو بمستأسر لرأسمالية شرسة مهلكة، أو متحجر على اشتراكية ظالمة تستدعي القنوط واليأس، وما أعظم سماحتنا المستمدة من ديننا وأعراف مجتمعنا القويمة السديدة.

وكان من خبرهم الجميل أنهم أول من ابتدأ تقديم خدمات عامة في الكهرباء وإنارة البيوت والمدن، وفي حفر الآبار وتوصيل المياه، وفي استخدام طرق الري الحديثة، واستعمال آلات الحصد والحرث والزراعة الجديدة، وإن تعجب فاعجب من مصنع مبكر لقطع غيار السيارات بدأ عام (1375=1955م)، وتكلفته آنذاك سبعة ملايين ريال، وعماله خمسة عشر فردًا جلّهم من أبناء الوطن، ولا ينقضي العجب إذا علم أن النية متوجهة هاتيك السنين لتطويره وجعله مصنع سيارات، ولو تم هذا الأمر لكنّا في هذه الأيام ممن يصنع المركبات ويصدرها، وما فات يمكن أن يُدرك، وسيدرك بالهمة العالية، والرؤية الحكيمة.

كذلك من سنّة القوم الراشدة الحميدة إفادتهم من أيّ تجربة قريبة أو بعيدة استطاعوا الوصول إليها، ونفع بريدة وغيرها من المناطق حتى وصلت أعمالهم إلى الكويت فضايقهم الإنجليز بمكرهم المعهود. ولم تقف فروعهم المصرفية عند حدود بلادهم؛ بل افتتحوا فروعًا في بلاد عربية لها معاملات كثيفة مع السعوديين، وتعامل المصرف الثاني في البلد، والأول من حيث ملكيته لمواطنين، ومن ناحية كثرة فروعه، مع شركات عالمية كبرى، ولذا فليس بكثير أن يوصف الشيخ عبدالعزيز الراشد الحميد بشيخ المصرفيين؛ إذ بدأ مصرفهم العمل قبل إنشاء مؤسسة النقد التي تمثل البنك المركزي للبلد.

كما طالت أياديهم بالخير الخاص والعام، فمجالسهم ومزرعتهم الدغمانية، وبيوتهم، مفتوحة لطلاب الحاجات، وللزوار من المسؤولين والوفود الأجنبية، حتى أنهم استقبلوا موظفين من البنك الدولي عام (1379=1959م). هذا غير إحسانهم للأفراد والمجتمع، ومساعدة الأجهزة الحكومية بالتبرع للمكتبات، وطباعة الكتب، وصيانة مبنى المطار، والتبرع بمبنى لأول مدرسة بنات في بريدة، وهو التبرع الذي يزيل غشاوة يُراد وضعها على الأعين في هذه المسألة.

ومن المسؤولية المجتمعية المبكرة لديهم أنهم تعلموا من تلقاء أنفسهم ثمّ بالاستعانة بالخبراء، وكان المهندس صالح العبدالرحمن الراشد الحميد أحد أبناء الأسرة الماهرين بالتعامل مع الآلات دون سابق خبرة، وعانى من جراء ذلك بفقدان يده وأصابعه. ومن أصناف هذه المسؤولية توظيف أبناء البلد وتمكينهم بعد تدريبهم، ومنهم الشاب النابه علي الحصين الذي أدار اول شركة كهرباء أنارت بريدة، بيد أن المنون تخطفته بحادث موجع وهو على رأس الثلاثين من عمره، وكان لمثله يرتجى المستقبل الباهر.

لقد نبعت أعمال الشيخ إبراهيم الراشد الحُميد وإخوانه من عمق المجتمع الذي ينتمون إليه، واستمدت إبداعها وإصرارها وقوتها من الثقافة السائدة الراسخة منذ أغلق الأمير حجيلان بن حمد بريدة إلّا عن عالم أو تاجر أو صانع، وهي تجارب على غير عهد سالف، وبدون مؤشرات أكيدة على النجاح، وفيها جرأة وإقدام؛ بيد أنهم نجحوا بفضل الله ثمّ بالعمل الذي لا يكل، والجهد الذي لا يتصرم، والتوكل الذي يوصف بأنه تواكل؛ فكان فيه التنويع، والمغامرة، وذاتية التعلم، ومحلية التشغيل، والاستعانة المحدودة بغير أبناء البلد، وحسن الظن الكبير بالله العلي القدير.

لذلك صنعوا تاريخًا وما أصعب مثل هذه الصنعة العسير مبتدأها، الصعب استمرارها، المكلف استرجاعها، وتركوا لغيرهم المثال القابل للاحتذاء، والنموذج الذي يمكن تكراره، وضربوا هذا المثل في السراء والضراء، وعند البدء والتوقف ثمّ الاستئناف؛ فكانت تجربتهم فريدة في مبعثها، ووعيها، وما أحاط بها من أحوال ومآلات، وما امتازت به من استقلالية بمدى معين، وبخلطة مع الأجانب حسب القدر المحتاج إليه بلا توسع لا طائل من وراءه.

وزانها حرصهم على الصالح العام، وعنايتها بالعمل المجتمعي في صنع المعروف، ورئاسة أول غرفة تجارية، ونقل التجربة الخدمية للرياض وعرعر والزلفي وغيرها، وفي تقديرهم لسروات البلد وسادات العلماء فيهم؛ ولذلك تبرع الوجيه الشيخ إبراهيم الراشد الحميد بمولد كهرباء يضيء منزل الشيخ صالح الخريصي عام (1375)؛ لأنه من منارات الرجال في القصيم حينذاك في علمه وقضائه ونفعه للكافة.

فلا غرو عقب ذلك أن يغدو هؤلاء الميامين على حال واحدة إبان الكسب والمجد والثراء، وعندما حلّت بهم المصائب والخسائر التي لا يسلم منها متاجر وذو أعمال، فمع وقوع ما لا يحبه المرء؛ ظلّ آل الراشد على ما جبلوا عليه من شكيمة وعزيمة واصطبار، ولم يقعوا أرضًا مع الواقعة؛ ولذا تقدموا بعد تراجع، ونهضوا بعد عثار، ومدوا الحبال الوثيقة الحاضرة لماضٍ تليدٍ كي تبقى فيهم الخيرية، وتثبت لهم العراقة، وتبقى فيهم المبادرة والعزائم، وتحفظ العروق وما فيها من دماء صفات البناة الأوائل من أولئك الإخوة الذين هم لأجيال اليوم آباء وأعمام وأجداد.

اخيرًا فكل ما سلف هو تفاعل ذهني مع كتاب حديث الصدور دُفع إليّ بالأمس القريب فقرأته، وعنوانه: غرة في الجبين: السيرة التنموية إبراهيم الراشد الحميد وإخوانه، تأليف طريف بن عيد السليطي، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1444=2022م) عن دار الثلوثية، ويقع الكتاب في صفحات بلغت (202)، ويتكون من مقدمة للناشر وأخرى للمؤلف، ثمّ أحد عشر عنوانًا، وفيه صور ووثائق وحوارات، وسرد لشخصيات عملت مع آل الراشد الحميد من الأسرة نفسها أو من غيرهم، ومن ضمنهم رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الخميس 23 من شهرِ ربيع الآخر عام 1444

17 من شهر نوفمبر عام 2022م

Please follow and like us:

9 Comments

  1. جزاك الله خير
    ونعم فيهم عائلة تستحق مايقال عنها وكان كثير مايجي ذكرهم ايام العقيلات وأنهم هم أهل الصرافة في العراق وسوريا والكويت والمملكة

  2. تقديم جميل لهذه الأسرة المباركة ولا أظن تقديماً لهذا الكتاب أو لغيره يفوق هذا العرض الرائع والموجز المفيد والمشوق لقراءة الكتاب.
    دمت مسدداً وزادك الله بركة و توفيقا

  3. ‏الاستاذ أحمد العساف. المحترم
    ‏السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    ‏سعدت جداً بما ما تم تدوينه في مدونتكم الرائعة عن تاريخ أسرتنا وأشكرك جزيل الشكر على مشاعركم النبيلة وكلماتك الراقية ومن يستعرض مدونتكم لا يستغرب منكم هذا الابداع …
    ‏لك كامل تحياتي وتقديري ،،
    ‏اخوك
    ‏ياسر عبدالعزيز ابراهيم الراشد الحميد

  4. منهم الشيخ محمد (كفيف)
    من أساتذة المعهد العلمي

    كان حريصاً ، ومهاباً ، بل كان حفظه ﷲ يحدد الطالب العابث من مكانه، ويضربه😅

  5. ‏السلام عليكم أستاذ أحمد

    ‏قرأت ما كتبت عن جدي وأخوانه ورغم أني أسمع قصصهم ومآثرهم منذ الطفولة إلا أنها ما زالت تلهمني وتملؤني فخراً
    ‏شكراً لك على كلماتك الداعمة وسردك الملهم وإبداعك في النقل
    ‏رغم أن الكتاب لا ينقل كافة أحداث حياة جدي وأخوانه العملية، إلا أنه عكس أهم جانب في تجارتهم وهو الحرص على نفع المجتمع والكرم
    ‏وهذا ما تربينا عليه، فمنذ الصغر ونحن نسمع دعاء أهالينا (اللهم انفعهم وانفع منهم وارزقهم وارزق منهم)، ونرى أمام أعيننا ما ذكرت من أعمال في الخفاء لخدمة الآخرين، وهذا هو أكثر ما نفخر به
    ‏فالإنسان بسمعته وذكره الطيب وليس بماله

    ‏شاكرة لك مرة أخرى ما خطت يديك

    ‏بدور بنت راشد بن سليمان الراشد الحُميد

  6. اخي احمد جزاك الله خيرا علي ماسطرت وكتب غير من معلومات قيمه عن أعمامي حفظك الله ولكن نتشره علي أولا ذراريه الذين هم من عاشر اعمالهم وثانيا علماء هذا البلد الذين لهم باع بالعلم وما فعلوه أعمامي بهذا البلد اعمال لاتحصيها الكتب من اي باب من ابواب الحياة ومواقف الرجال اللتى عجز عنها كثير من الرجال أطلب من أبنائهم الموجودين أن يفرغون من يكتب سيرتهم الجليلهة العظيمة من افواه الموجودين قبل اندثار مئاثرهم ونرى اناس كتب عنهم كتب وهم لم يعملوا معشار مافعلوا في المملكة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)