الرياضيات التي أحبها…!
ورثت عن والدي –غفر الله له– محبة الحساب وعملياته، ولذلك “أعشق” مادة الرياضيات وأحب من يدّرسها؛ ولست مثل ذلك البائع الذي حدثني عنه صديق من مدرسي الرياضيات القدماء، وخلاصة قصة البائع أن صاحبي دخل إلى دكانه يتجول فيه، فأتى البائع إليه وقال له: هل لك علاقة بالرياضيات؟! فتعجب الرجل وأجابه أن نعم فقد درست الرياضيات في الجامعة ودرستها زمنًا، ولكن كيف عرفت؟ فقال البائع: منذ أقبلت أُلقي في قلبي غصة منك ما وجدت لها سببًا إلّا أن لك علاقة بالرياضيات التي أكرهها وأكره ما يتعلق بها!
إن الحديث عن الرياضيات يجعل الذكريات تعود بي إلى أيام الابتدائية وحصص الرياضيات، فمن تفاعلي الدائم مع معلم الرياضيات أن طلب مني ألّا أجيب عن أسئلته ثقة بفهمي وصواب جوابي، وهو الطلب الذي أرهق بقية الزملاء الذين لم يجدوا بدًا من الإجابة الخاطئة في كثير من الأحيان عن أسئلة الأستاذ. وفي المرحلة المتوسطة قال الأستاذ لي كلمة بالغ فيها: أنت أذكى طالب درسته الرياضيات في الخليج! وهي كلمة لا تصدق لجنوح المغالاة الظاهرة فيها، ومع ذلك ففي نفسي شيء من هذا الأستاذ بسبب فواز الذي حكيت مأساته في مقال سابق.
أما في الثانوية فكانت درجاتي في الرياضيات تلامس سقف المئة، وفي الجامعة درست مادة وحيدة في الرياضيات وأخرى في الإحصاء. ومما أذكره في مادة الرياضيات أن جلّ زملائي في تلك الشعبة كانوا من قدامى الطلاب، ومن بعيدي العهد بالرياضيات وتشابكاتها، وبالتالي استعانوا بي للشرح إذ لاحظوا تفاعلي مع أستاذنا الباكستاني المسنّ الذي يكره استخدام الآلة الحاسبة، ويحذرنا من الإدمان عليها، وحجته أن تبقى أذهاننا في حال سيولة وحراك وشباب، وهي حجة وجيهة بالمناسبة، ولها أخوات تمنع تيبس الذهن والعاطفة.
كما أذكر أن طالبًا من أكبر زملاء تلك الشعبة قد طلب مني تدريسه في لقاء خاص؛ لأنه في سنة تخرج، وذهنه متجمد في الرياضيات إذ هجرها منذ سنوات، وفعلًا أعطيته دروسًا خاصة مجانية، ومن طريف اللقاء به أنه أحضر معه ذات مرة حلوى على هيئة فواكه وخضار وكنت أظنها مزحة منه لكثرة مزاحه، وتبين لي فيما بعد أنها حلوى حقيقية وليست قطعًا من البلاستيك، والحمدلله أني تذوقتها، وأنه نجح وتخرج ولا أدري ما صنعت به الدنيا. وبمناسبة ذكر التجمد؛ فقد قال لي زميل إنه كان من المتفوقين في الرياضيات عام (1429) وهو آنذاك في الصف الرابع؛ بينما يجد معاناة معها الآن وهو يدرس في الجامعة!
وفي مادة الإحصاء طلب الأستاذ شراء كتاب بالكاد عثرت عليه في مكتبة قصية، ولأنه لم يكن متوافرًا؛ فقد امتدت إليه يد طالب ظنّ أني غافل عنه، وعندما أخذه تمامًا سحبته منه وتوقعت أنه سيعتذر عن فعلته الشنيعة؛ بيد أنه لغلاظة طبعة ورقة ديانته قال كلمة معناها أنه لم ينجح في حيازة هذا “الكسب” إلى ممتلكاته! وقصة شراء هذا الكتاب تجعلني أطرح سؤالًا لدواعي حادثة: هل يجوز للجامعة نظامًا –أو للأستاذ الجامعي– أن يجبروا الطلبة على شراء كتاب فلا يدخلوا إلى قاعة الامتحان دون شراء ذلكم الكتاب؟ وهذا الأمر وقع في مادة الرياضيات بإحدى الجامعات، والكتاب ليس من تأليف مدرس المادة كي لا يعتقد أحد أن المسألة فيها منفعة خاصة.
ولم تقتصر خبراتي التدريسية لمادة الرياضيات على زملاء الجامعة أولئك، فمنها مثلًا أني حينما كنت طالبًا في الثانوية درست فتاة من محارمي وهي في الجامعة وقد نجحت بامتياز في جميع موادها. وفي الثانوية أيضًا شفعت والدتي –غفر الله لها– لفتى في المتوسطة تحب أمه وجدته كي أدرسه المواد التي سقط فيها وهي كثيرة جدًا، ومما تحملت عبء إفهامه وتدريسه غير الرياضيات العلوم والنحو واللغة الإنجليزية، ولم أتعب معه في الجغرافيا والحديث ظنًا مني أنه سيحفظ وينجح بيد أنه نجح فيما درسته، وكرر الرسوب في مواد الحفظ؛ فكتبت معه رسالة رمزية لجدته، وحينما عاد سألته: هل قرأتها على جدتك؟ فقال: قرأها خالي لجدتي، ثمّ جمع أخوالي وتلاها عليهم من جديد، وكانوا يتعجبون ويبتسمون! ومما أحزنني أني لم أحتفظ بنسخة منها، ولبابها أن الفتى لا ينفع لدراسة ونصيحتي أن يعمل مباشرة، وهو ماكان إلى أن توفي شابًا رحمه الله.
كما أذكر أني درست فتاة من الجيران، وقد رفضت أن يدرسها أحد غيري، وفيما بعد طلب أهلها بحكم الجيرة وأشياء أخرى أن أضيف مع الرياضيات مقررات جديدة منها قواعد اللغة والتفسير! وعندما كنت طالبًا في الجامعة دعيت إلى زواج “تلميذتي” الآنف ذكرها؛ فذهبت وصافحت زوجها مهنئًا وداعيًا لهما بالبركة على مذهب أحمد بن يوسف الكاتب في الدعاء للمأمون وبوران! وأختم سجلي غير الوظيفي في تدريس الرياضيات أن أحد طلبة الدكتوراة دعاني لأشرح له ولزملائه بعض مفردات الرياضيات والإحصاء ففعلت في غير مجلس علمي محفوف، وكانوا بين يدي مثل صغار التلاميذ، ومنهم الآن مشاهير وأساتذة جامعات ومهنيون.
وللرياضيات علاقة وثيقة مع الكتابة؛ لأنها تعلّم التفكير، والتحليل، والمنطق، ولعلي أن أكتب متوسعًا في هذا الباب فيما بعد. ومن جليل ما سمعته عن حياة العالم الهندي الراحل الشيخ محمد عزير شمس أنه كان يتسلى بمسائل الرياضيات حتى يظلّ عقله في حيوية ويقظة. ومن لطائف العلاقة بين الرياضيات والكتابة أن وصلتني قبل سنوات رسالة من فتاة تدرس في أواخر مراحل التعليم العام، تقول فيها: إن معلمة الرياضيات تبغضها وتنفر منها؛ لأن المعلمة دخلت للفصل في أول يوم دراسي، وصادف أن الطالبة تتضاحك مع زميلتها فوقع في نفس الأستاذة أن الضحك في شأن يخصها!
ومع أن الطالبة كما تقول اعتذرت لأستاذتها، وأكدت لها أن ضحكها كان على كلام عابر لا علاقة للمعلمة به؛ إلّا أنها لم تقتنع. وعرضت الطالبة رسائل اعتذارها التالية للمعلمة لعلي أن أفيدها كتابيًا، فاقترحت عليها هجر تلك العبارات جميعها، وكتابة رسالة جديدة للمعلمة مكونة من معادلتين: الأولى عن الخطأ العابر، والثانية حول الاعتذار وتصحيح العلاقة؛ ففعلت الطالبة وانقلبت العلاقة مع أستاذة الرياضيات إلى أحسن ما يكون حسبما كتبت الطالبة لي في رسالة شكر تالية. ومن لطائف معلمات الرياضيات أن قالت لي جمانتي النفيسة جدًا: أحببت وزميلاتي مادة الرياضيات منذ كنا في الابتدائية؛ لأن المعلمة تدخل إلى الفصل بمرح، وتطلب من التلميذات الصغيرات فتح الكتاب وهي تنشد لنا، فتسللت المادة إلى نفوسنا مع صعوبتها.
ولشدة الارتباط بين الكتابة والرياضيات نجد أن بعض عظماء الكتّاب ممن تخصصوا في الرياضيات أو برعوا فيه، ومن النماذج العربية التي تحضرني العالم والكاتب والمحقق الأستاذ الشيخ محمود محمد شاكر رحمه الله، ومن الأجانب برتراند راسل. ومن جماليات الرياضيات أن خطوط أصحابه في الغالب بهيجة أو واضحة على الأقل، وبالأمس كنت في جلسة أنيسة فقال لنا أحد الحاضرين: لدينا مدرس رياضيات هاله سوء خطّ الطلبة؛ فعقد لهم دورات مجانية داخل المدرسة لتحسين خطوطهم، ولي عن الخطّ كلمة عسى أن أنشرها لاحقًا.
بقي أن أقول لكم بأن للرياضيات أخبار كثيرة في تراثنا العلمي القديم والجديد، منها أن الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب العروض ومعجم العين نوى إبداع علم يعين على الحساب ويحول دون غش الباعة للصغار، وبينما هو مشغول بذلك إذ اصطدم بسارية مسجد فمات من فوره، وحرم العلم من مبتكراته السباقة التي عرفت عنه. ومنها أن الإمام السيوطي على تبحره في العلوم لم يكن يحسن الحساب ولذا لم يبرع في الفرائض والمواريث حتى قال عن نفسه: “وأما علم الحساب فهو أعسر شيء علي، وأبعده عن ذهني، وإذا نظرت في مسألة تتعلق به فكأنما أحاول جبلًا أحمله”.
وسمعت مرة من معالي أ.د.علي النملة أن الرياضيات تعسّرت عليهم في مستهل بعثتهم بأمريكا؛ فقال له أستاذ يهودي: المسلمون والعرب هم أبرز من طوّر هذا العلم وخدمه أو كلمة نحوها، فتحسنت علاقة المبتعث الهمام بهذه المادة، وغدا مرجعًا لزملائه فيها جريًا على سنّة أسلافه من العرب والمسلمين. وربما تنفتح شهية أهل الرياضيات بزاوية منفرجة إذا علموا أن الثري العربي، ورئيس وزراء لبنان، رفيق الحريري، كان مدرس رياضيات في بدايات حياته العملية، والله يحمينا ويحميهم من مثل مصيره المروع.
من فضائل الرياضيات أنها تقضي -عند العقلاء ومن يسير برشاد في ركابهم- على ثنائية الحفظ والفهم، وهي من الثنائيات التي ابتلي بها المجال الفكري عندما تناقش شؤون التعليم والمناهج على وجه الخصوص. إن الحفظ والفهم ليسا شقيقين فقط بل توأم متشابه، ولا يمكن لعلم أو فن أن يقوم ويستقيم بدونهما، وعلم الرياضيات مثال شاهد إذ نحفظ جدول الضرب ثم نفهمه، ونطبق كثيرًا من المعادلات ونحسن فهمها ولكن بعد حفظها، فمتى يرعوي أقوام أشغلونا بما لا طائل منه، وبما لن تصلح معه مناهج ولا تعليم؟!
أسأل الله أن يبارك في الرياضيات وأهلها ومعلميها من الجنسين، وأن يعين كل دارس لهذه المادة سواء استمتع بها أو ضجر منها، وأن يوفق من يدخلون الاختبارات فيها اليوم وغير اليوم. وعسى أن يأتي زمن قريب تستعيد فيها حضارتنا وأمتنا أمجادها العلمية والمعرفية في الرياضيات وغيرها من الفنون والعلوم؛ فإن الأرقام فيها من الدلالات والمعارف البعيدة عن التخرصات والأوهام ما هو حقيق بأن يُسابق إليه، ومثله المعادلات والهندسة وعموم محتويات هذا العلم الواسع ميدانه، العظيمة آثاره، اللذيذة مفرداته في غير الاختبارات!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الثلاثاء 07 من شهرِ ربيع الآخر عام 1444
الأول من شهر نوفمبر عام 2022م
8 Comments
قصة جميلة وسرد جذاب .. وهي قصة مع الرياضيات وقليل (عن الرياضيات).
صحيح فهي مرتبطة بذكريات كاتبها.
مقالة جميلة وتدعم موقفنا اهل الرياضيات 👍😁🌷
ماشاء الله
مقالة رائعة
وفقك الله دائما
وبارك في أولادك يا أستاذنا.
مدرس رياضيات
كلام جميل الله يبارك فيك ويعطيك الصحه ويفرحك باولادك ان شاء الله
ماشاء الله لم نكن نعلم بهذه العلاقة لكم بالرياضيات…ليتك تخصصت فيها
الطرح رائع و القصة ملهمة جداً و فعلا انت مازلت من المتميزين في الرياضيات
الدائرة التي فيها متاهة ، والبداية التي بلا نهاية، حينما نتحسس مواقف لذيذة في ذاكرة الأيام، جوانب جميلة بدأت مفعمة بالعشق وصفها لنا كاتبنا الأنيق بمشاهد حيويه كأننا نتذوق طعمها لجمالها، يمارس الكتابة بأدوات مصقولة! وحدس يبلور لنا القصة بسرد مُبهر..
لكن مافي قلبي تجاه الرياضيات عطب لا يمكن اصلاحه، احتاج لمفتاح “جديد” يلج بهدؤ في قفل ذاكرتي ويمحو كل المواقف المؤلمة، كل الوجوه البائسة التي عرفتها!
لطالما كانت كتاباتك قريبة دانية تمسّ الروح وتصافح الوجدان…