سير وأعلام عرض كتاب

ملامح قيادية من سيرة العمرين

ملامح قيادية من سيرة العمرين  

عمر بن الخطاب رضي الله عنه شخصية آسرة، بهرت غير المسلمين، ووقف إجلالاً لها كثير من المعادين للمشروع الإسلامي، بل روي عن بعض الزعماء الراحلين قوله واصفاً نفسه -وإنه لبعيد-: قدوتي عمر بن الخطاب! وقد حبا الله هذا الرجل بسمات جعلت الكتابة عنه ماتعة، والحديث حوله لا يمل، وغدا اسمه الجميل ذا وقع فخم على الأسماع، فرضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن الأمة خير ما يجازي القادة والعلماء، والشهداء والصالحين.

وقد قبس من هذه السجايا سبط ابنه، الخليفة الأموي الثامن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، حتى عده الأئمة المجدد الأول للدين، ونعته المؤرخون بخامس الخلفاء الراشدين، وهو نعت خاطئ لأن الخلافة الراشدة مدتها ثلاثون عامًا، وسبقه خلفاء أولى منه بهذا اللقب، وهو وهم على خير عظيم رضي الله عنهم ورحمهم، والتحفظ فقط على جعله الخامس، وضمن الراشدين الذين صح في الحديث أن عصرهم لن يتجاوز ثلاثين عامًا. وكان جده عمر بن الخطاب مثالاً عظيماً في مرحلة التأسيس والبناء، بينما كان السبط العادل عمر بن عبد العزيز نموذجاً فريداً في حقبة الإصلاح، ورد المظالم، وإقامة ما أعوج من الأمر.

وعن القيادة عند هذين الرجلين العظيمين، وقعت على كتابين مختصرين؛ فيهما الفائدة وزيادة، عنوان أولهما: ملامح السلوك القيادي عند عمر بن الخطاب، والثاني: ملامح الشخصية القيادية عند عمر بن عبد العزيز، وهما من تأليف أ.د.محمد رواس قلعه جي، وصدرت طبعتهما الأولى عن مكتبة المنار الإسلامية بالكويت، عام (1424=2004 م)، ويقع الأول في (52) صفحة، والثاني في(64) صفحة، وكلاهما من القطع المتوسط، ويتكونان من مقدمة، يتبعها عناوين متشابهة، ثم الفهرس، وفي الكتاب الخاص بعمر بن عبد العزيز تعريف مختصر به، وأما الفاروق فشهرته المطبقة تغني عن التعريف، فقد انعقدت له أقواس لم تجتمع بعده لأحد.

نسب المؤلف في المقدمة الفضل في تأليف هذين الكتابين، للأستاذ “حمد الفداغ”، أحد قياديي بيت التمويل الكويتي، حيث زاره في منزله، وتباحث معه في روائع الحضارة الإسلامية، وتطرقا للنموذج الإسلامي في القيادة والإدارة، ولم يختم الفداغ زيارته حتى كلف البروفيسور قلعه جي بمحاضرتين خاصتين لكبار موظفي بيت التمويل، ثم اقترح طباعتهما لتعم الفائدة منهما، وهو ما كان. ومن المناسب الإشارة إلى أن التداخل بين موضوع الكتابين، والتشابه بين الشخصيتين الفريدتين، يشفعان لي في جعل العرض موحداً، إذ الغاية الإفادة والاقتداء، وليس الترجمة لأحد منهما.

تحدث الباحث الكبير عن العوامل المكونة للشخصية القيادية عند العمرين، وليت بعضها أن يوجد عند قادة المسلمين ليس في المجال السياسي فقط، بل في كل حقل، وذكر من هذه العوامل:

  • الخوف من الله: حيث كان للقرآن عليهما أثر، وينتفض الواحد منهما لذكر ربه خالياً أو مشهوداً، دون أن يشعر بأن هذا الخوف ينقص من هيبته.
  • التواضع والورع والزهد: فكل أحد يستطيع الوصول إلى الخليفة، ويناديه باسمه، وكانا أشد الخلفاء تحرزاً في شؤون الموارد، وإدارة بيت المال، ولم يتربعا على قائمة أغنى الزعماء في زمانهم! وكانت ملابسهم رخيصة الثمن.
  • الشفافية والحدس: فلهما من صواب الظن ما يشبه يقين العلم، وذلك فضل الله يعطيه للتقي حقاً.
  • العلم والحلم: وقد وافق القرآن المنزل الفاروق في غير ما موضع، ودخل العلماء على عمر بن عبد العزيز فكانوا بين يديه تلامذة، ومع شدتهما في أمر الله، إلا أنهما كان حليمين فيما يخص حقهما الشخصي. وبعض الزعماء المتأخرين يقدسون “ذواتهم”، ويحبسون الناس لأجلها، ولكنهم يتسامحون مع الاعتداء على الذات الإلهية المقدسة، أو على الجناب الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو تسامح لا يحمد لصاحبه.
  • سلامة التفكير: وهو نتيجة طبيعية للعلم، ومجانبة الاستبداد، والخضوع للوحي.
  • المربون المميزون: فالفاروق تربى في مدرسة محمد عليه الصلاة والسلام وحاز على أرقى أوسمة الثناء منه، وعمر الثاني درج في بيت صالح، ورباه بعض الصحابة وأكابر التابعين رضوان الله عليهم.
  • اتخاذ القدوة العالية: فما ظنكم برجل يقتدي بأمين الله على وحيه؟ وماذا سيكون حال رجل يقتدي بجده، وهو الزعيم العالم العادل الشهيد المبشر بالجنة؟
  • الهيبة: ويكفي أن الشياطين كانت تهرب من طريق الفاروق، وكان الناس يجترئون في غيبته، ويسكنون في حضوره.
  • البلاغة والفصاحة: ولهما كلمات محفوظة جامعة عالية، ولبعض من أتى بعدهما كلمات طويلة لا تكاد تخرج منها بفائدة، وبعض أقوالهم القصيرة لا يفهمها حتى عتاة وادي عبقر!

والملاحظ أن جل هذه الخصائص قابلة للاكتساب، أو إصلاح الخلل الموجود، فمن بلغ سدة الزعامة وليس بعالم، يصلح نقصه بتقريب العلماء، ومن ابتلي بالرئاسة ولم يشعر بخوف من الله، يجالس العبَّاد الصادقين وهكذا، ومثله فيمن يهيئ للمستقبل، وهذا أمره أيسر، إذا يسهل تربيته وتعليمه، وصناعته برفق وتدرج، ويصدق هذا على أجيال الحكم الوراثي، فلا أقل من تأهيل من يناسب للحكم مستقبلاً، إن كان فيهم من يحرص على استمرار الأمر في بيته.

ثمّ انتقل الباحث بعد ذلك لاستقراء الملامح القيادية عند الرجلين، وذكر بأنه استخلصها من الأفعال لا من الأقوال، فالفعل غالباً مصداق القول، والعكس ليس بصحيح؛ فكم نعاصر من فم يسبح ويد تذبح! ولو راجع بعضنا خطب أكابر المجرمين، ورصد الأقوال الجميلة فيها، والعبارات الحانية ضمنها، ثم بحث عن رصيد لها في الواقع، لما وجد ما يصدقها، فالسجون مليئة، والمذابح مستمرة، والظلم أصل، ونهب المال متأصل، وحسابهم على الله.

فمن الملامح القيادية عندهما رضي الله عنهما:

  • حسن اختيار الأعوان: وليس من العدل اتهام مسؤول وتبرئة من اختاره وأبقاه، وصم أذنيه عمن يشكوه، ومن استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله كما حكم عمر. وكان من أول قرارات عمر بن عبدالعزيز عزل ولاة الجور الذين استعملهم من قبله، وللعمرين موقف رافض تجاه تولية من تورط بظلم المسلمين، فما يقال عمن يدعم من ولغ في دماء الناس، ودنس الأعراض، وانتهك الحقوق؟
  • التأني في تولية المراكز القيادية، واشترط عمر الثاني لمن يصحبه أن يوصل إليه حاجات الناس، ويدله على العدل، ويعينه على الحق، ويؤدي الأمانة، ولا يغتب أحداً، ويالها من شروط لو التزمها المقرِّبون والمقرَّبون!
  • الاستشارة: ليخرج الحاكم من حبس أفكاره، ولذا منع الفاروق الصحابة من مغادرة المدينة ليعرف رأيهم في الوقائع. ومن لوازم الشورى ألا يفرض القائد رأيه على المستشارين، وألا يتغير على من خالفه الرأي؛ لأن الشورى حينها لا قيمة لها.
  • تطبيق النظام على الجميع: ومنع الاستثناءات، وتشديد الرقابة على بيت الحكم، وتغليظ العقوبة للمتجاوز منهم.
  • الجرأة في اتخاذ القرار: وأي شيء يميز القائد سوى مضيه في الأمر الرشيد إذا استبان له، مع تحمل مسؤوليته؟
  • التعرف على حال الرعية: بزيارة الأقاليم، أو دعوة الأمراء لاجتماع سنوي، ومن خلال تلقي الوفود، وإرسال المندوبين للاستقصاء، فالحاكم مسؤول حتى عن الغنم في الأماكن البعيدة.
  • محاسبة المسؤولين مالياً وأدبياً: فكم من أمير كتب بياناً بثروته قبل المنصب، ثم شاطره عمر نصفها بعد الإعفاء؛ بحجة أن المسؤول تاجر مفيد من موقعه، أو مهمل عمله لصالح الارتزاق. ومن منهج عمر الثاني التوسعة على العمال حتى لا يخونوا، ومن خان منهم استحق أغلظ عقوبة شرعية.
  • تيسير وصول ذوي الحاجات للقائد وتقديم ما ينفعهم على غيرهم: والصورة معكوسة الآن في بعض الأماكن، فالزعماء لا يجالسون غالباً إلا الأثرياء، والاستثناء والعون يذهب للأقوياء؛ بينما يظل الضعفاء عاجزين بحسرة.
  • الوقوف مع الرعية في الأزمات: فالقائد يجوع قبل شعبه، وفي أيامنا تبتلى الرعية بحر لافح نهاراً، وبظلام دامس ليلاً، بينما تنعم إسطبلات خيول الحاكم بتبريد خاص، ولا تحرم “فقاسات” مزارعه من الأنوار حتى لا يخسر صوصاً أو أكثر!
  • رفع مستوى الشعب: إذا فاض المال زاد من عطاء رعيته بلا منة لأنه مالهم، ودون أن يتعالى صوت الناس؛ بأن الدخل لا يكفي للضروريات أحياناً، وهل هناك شيء ملح أكثر من السكن والزواج، والعلاج؟
  • الرجوع عن القرارات الخاطئة: فليس من بأس أن تصيب امرأة ويخطئ عمر.
  • رفض أي تدخل خارجي في القرارات: حيث نهر الفاروق زوجته عندما شفعت في رجل! فهل في الساسة من يكف شر ما تعورف عليه بالسيدة الأولى؟
  • المحافظة على قوة الجيش، والاهتمام بالكفاءات العالية، والحرص على التفوق المهني.
  • الإصلاح المتدرج، وفرض أمر الدين بتقديم شيء من الدنيا وبسطها للناس.
  • تطبيق العدل مع كل أحد ولو كان مخالفاً، وجعل العدل سمة الدولة ومؤسسة الحكم.

وفي الكتابين ملامح غير ما ذكر أعلاه، وإنما اقتصرت على أكثرها أهمية، ولا ريب لدي أن في سيرة هذين العلمين الكثير من الفوائد والعبر. واطلعت قديماً على رسالتي ماجستير ودكتوراه، للباحث اليمني د.غالب بن عبد الكافي القرشي، قدمهما للمعهد العالي للقضاء في الرياض، عن أوليات الفاروق في السياسة، ثم أولياته في القضاء والإدارة، وهما جديرتان بالقراءة والانتفاع منهما، ولا أظن دراسات السياسة الشرعية تخلو من مثيلاتها عن عمر بن عبد العزيز؛ خاصة فيما يُعنى بتخليص بيت المال من سطوة من لا يخاف الله، ولا يخشى العواقب، فاللهم ارض عن العمرين وارضهما، واجعلهما قدوة للزعماء والوزراء، والقادة.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الخميس 17 من شهرِ ربيع الأول عام 1436

08 يناير 2015م

Please follow and like us:
X (Twitter)