سير وأعلام

“هنا لندن” وقفا نبك!

هنا لندنوقفا نبك!

طبعًا لن أذرف دمعة من أجل فراق الإنجليز وأمثالهم؛ ولن أرسل أو أسبل الهوامل عليهم لا لأني منزوع الرحمة؛ وإنما لأن أحاسيسي محصورة بأهل بلدي وديني وقوميتي، وفي المسالمين من الناس أينما كانوا، وأما الغزاة المفسدين فلا مكان لهم من الفطرة السوية؛ ولذا يكرههم الشرفاء في أصقاع الأرض قاطبة، وبعض هؤلاء النبلاء من رحماء بني جلدتهم وعقلائهم الذين لم ينخدعوا بآلة الإعلام والكذب التي برع بها القوم حتى ضلّوا وأضلّوا.

إنما تذكرت والديجلّله الله برحمتهلصلته الوثيقة بالمذياع والاستماع إلى الإذاعة، ولم أكن قد نسيت وإنما بُعثت الذكرى أشدّ ما تكون حينما أُعلن في ماضي الأيام القريبة عن توقف بثّ هيئة الإذاعة البريطانية باللغة العربية عقب أربعة وثمانين عامًا من الإرسال الموجه في مضمونه ورسائله، وهي فيما قرأت أول إذاعة بلغة غير الإنجليزية من قبل تلك الإذاعة التي كانت مسيطرة متفردة، فزاحمها حتى دهمها ثمّ أقصاها الإعلام المرئي والإلكتروني والاجتماعي، مثلما أقصت هي الإعلام الورقي أو زاحمته، وتلك سنّة حياتية فيها المُعتبر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ولوالديغفر الله لهصلة وثيقة بالإذاعة، ويبدو لي أنه عرفها من مشاركاته المبكرة مع والده في قوافل العقيلات؛ لأن الإذاعة وأجهزة المذياع ظهرت وانتشرت في الشام والعراق ومصر قبل بلادنا، وكان الوالد طلعة لكل ما فيه علم ومعرفة، وعنده نهم بسماع ما يزيد ثقافته ويفتح له آفاق الفكر والتدبر. ومما أذكره في هذا الشأن أن والدي روى تعجب بعض الناس حينما أُعلنت أول موازنة حكومية رسمية في عهد الملك سعود عام (1374=1953م) حسبما أظنّ؛ لأنه أمر غير معهود، ثمّ اعتادوا عليه، بينما كانت الكلمة مسموعة في آذان أبي نقلًا عن الإذاعة.

ومما عاصرت طرفًا منه أن الوالد رحمه الله يستمع إلى هيئة الإذاعة البريطانية في موعد يومي مسائي ثابت، ويضع الجهاز قريبًا منه، ويضبطه بنفسه، كما يستمع لإذاعة القرآن الكريم وإذاعة نداء الإسلام خاصة لبرنامج نور على الدرب، وهو برنامج إفتاء شهير، ومن أقدم مشايخ الفتوى فيه الشيخان ابن حميد وابن باز، وهما موضع تقدير وإجلال من الوالد رحمهم الله جميعًا. وبعد بداية البث التلفزيوني صارت متابعة أخبار التاسعة والنصف ليلًا جزءًا من برنامجه اليومي، ولا أذكر أن الوالد استمع للإذاعة في النهار حتى لا ينشغل عن أعماله التجارية ومسؤولياته الأسرية؛ ولم يفعل ذلك إلّا عندما وقعت مصيبة احتلال الكويت اضطرارًا.

ومع أن أبي مستمع دائم للإذاعة البريطانية؛ إلّا أنه يعاملها كما يعامل علماء التفسير الإسرائيليات بتقسيم الأخبار وتصنيفها، وأحيانًا يعلّق على أخبارهم بما يجلّي قناعته التي لم تستسلم لسطوة الإنجليز أو إعلامهم المتقن. وكان الوالد يستمع إلى الأخبار، وبرنامج قول على قول لحسن الكرمي، وبرنامج السياسة بين السائل والمجيب، وبعد حذف كلمة السياسة من هذا البرنامج الأخير، وتوسيع نطاقه بجعله متاحًا لأيّ سؤال حتى الأسئلة الدينية؛ لم يرق لوالدي هذا الإجراء، فيغلق الصوت إذا كان السؤال شرعيًا ويقول ما معناه: وهل نأخذ ديننا عنكم؟!

ولا تزال دقات الساعة ترنّ في مسامعي، وصوت ماجد سرحان الجهير يجلجل لابتداء النشرة، أو شروع هدى الرشيد بنغمتها الحادة في قراءة الأخبار، ولربما أرعبنا محمد الصالح الصيد بصوته الذي ينبئ عن قوع أمر جلل، وهكذا في سلسلة من المذيعين المجيدين، ولتميزهم انتقل قسم منهم إلى قنوات تلفزيونية عربية أو مستعربة، ومنهم من كتب سيرته الذاتية، وفيها جزء من خبره مع هذه الإذاعة كما فعل عيسى صباغ، وقد عثرت على سيرته بقصة لطيفة ربما أني كتبتها فيما كتبته عن قصصي مع مطاردات الكتب.

من طريف ما أذكره عن الإذاعة البريطانية لأن والدي رحمة الله عليه يستمع إليها وأنا قريب جدًا منه، أن المذيع أو مراسلها المشهور سألوا أحد رجال الدولة عن تسلسل الحكم الوراثي في أسرته، فقال السائل: الحاكم فلان ثمّ ولي عهده، وبعده فلان، ثمّ أنت، فمن بعدك؟ والسؤال ماكر على طريقة الإنجليز لأنه يوقع المجيب في شَرَك تأكيد معلومة السؤال؛ بيد أن رجل الدولة المعروف بطول صماته، وحسن إصغائه، وقلة كلامه، أجاب سائله بما يلجمه قائلًا: ما ذكرته أنت من ترتيب غير صحيح، والأمر لا يعنيك، ولا حاجة لبحثه الآن، وحينما تنجم الحاجة إليه فنحن نعرف كيف نديره ونتدبره!

ومرة أوردت الإذاعة خبرًا نقلًا عن تلفزيون رسمي عربي مفاده أن حاكم تلك الدولة دخل المستشفى الأكثر تقدمًا في عاصمة بلاده لإجراء عملية استئصال مرارة، وبعد نقل الخبر كما هو، قال المذيعولربما أنه كان يتبسم حينها-: علمًا أن تلفزيون تلك البلاد قد أعلن قبل عشرين سنة أن هذا الزعيم أجرى عملية استئصال مرارة! وأردف المذيع بنبرة لا تخلو من خبث وتضاحك: ومن المعروف طبيًا أن جسد الإنسان ليس فيه سوى مرارة واحدة! ولكأني أتذكر عجب والدي من مكرهم بإيراد الخبر، وبطريقة التعليق عليه!

لقد كان الوالد يستمع لهذه الإذاعة مع تقديم جانب الحذر من الخديعة والتلبيس، ولم يكن يكثر الرواية عنها، أو يصدق جميع مقولها ثقة بمهنية مزعومة، أو اندفاعًا خلف مصدرها الغربي الذي يخلب ألبابًا، ويخطف أبصارًا. واللطيف أنه اختارها من بين عدة إذاعات كان والدهجدي سعود يرحمه اللهيستمع إليها مثل صوت أمريكا، ومونت كارلو، وأورشليم القدس، وإذاعة لندن طبعًا؛ فمسطرة الجدّ الثقافية واسعة جدًا، ومنهج الوالد قام على الاستقلالية الرشيدة، والاكتفاء بواحدة رأى أنها أصرح من غيرها، وأسرع متابعة، وأكثر رزانة، إضافة إلى تناسب وقتها مع جدوله اليومي.

بقي أن أشير إلى أني أحببت أجهزة المذياع في صغري بسبب هذه العلاقة الأبوية مع هذا الجهاز، ولي مع المذياع قصص سأرويها بإذن الله. وفيما بعد اشتريت كتاب الكرميقول على قول، وما وقع لي من أجزاء منشورة لبرنامجالسياسة بين السائل والمجيب“. وخاتمة القول توجب أخذ العظة من احتجاب بعد طول ظهور، وأهمية مراقبة التطورات ومواكبتها بما يناسب إن في التفكير أو العمل، وهكذا فعلت هذه الإذاعة حينما تحولت إلى نهج عصري، ولم تأسف على تاريخ لها فيه صولات وجولات ومكاسب ونقائص أيضًا. والله يغفر لوالديّ ويرحمهما، ولجيل الآباء الذين كانوا يستقبلون الأخبار والبرامج المؤنسة المثقفة بالمتاح من وسائل فيها قدر من الوقار وحسن الإعداد، وبعدٍ عمّا يوصم بالسفاهة والفهاهة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الأحد 06 من شهرِ ربيع الأول عام 1444

02 من شهر أكتوبر عام 2022م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. ذكريات جميلة وأيام خوالي ذهبت أدراجها بما فيها من جميع الجوانب والمواقف والأحداث
    غفر الله لهما واسكنهما الفردوس الألى من الجنه ووالديهم ووالدي والديهم وجميع موتى المسلمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)