في اجتماع مختصر اقتصر علينا نحن بني أبوينا، وأحاط به الألم المبكي بُعيد وفاة الوالدة رحمة الله ورضوانه عليها، ذكر شقيقي عبدالرحمن كلمة معبرة تصف الحال وصفًا مبينًا إذ قال: توفي والدي وعمري خمسة عشر عامًا؛ فكأني آنذاك ابن خمسين سنة من التجلّد الذي حلّ بي وقوة الشكيمة التي لازمتني، ثمّ توفيت والدتي وأنا دون الخمسين من العمر؛ فكأن عمري يوم وفاتها خمس سنوات من الفجيعة التي أصابتني، والحزن الذي تغشاني!
والحقيقة التي يعلمها كلّ من أصيب بأمه أن ذلكم السهم النافذ الذي انغرز في القلب حتى مزقه، لم يخرج ولم ينتزع، بل إنه يعاود الطعان بين فينة وأخرى، حتى لكأنه يحول دون السلوان والنسيان، فيظلّ القلب في حريق متجدد، وتلسع قروح الكبد صاحبها، فلا تكفّ مآقيه عن تذراف الدموع السواخن السواجم في الخلوات، بل وأينما جاشت به الذكرى ولو في جلوة مشهودة، ومحفل حاشد، أو في مناسبة لا يجتمع مع جنسها الكدر.
فيا أيها الأبناء من أولاد وبنات، أدركوا أبويكم ما داموا أحياء، وسابقوا إلى مرضاتهم وسارعوا إلى البر بهم؛ فلعمركم إن يومًا آت عليكم سيكون فيه بينكما افتراق دنيوي دائم؛ فحين تدرج أبويك في القبر وتحثو عليهما التراب؛ تُحرم من أجر إدخال السرور عليهما، ويمتنع عليك تحصيل ثواب إسعادهما، وإن كان باب البر بهما مفتوحًا لا يغلق، وصحائف أعمالهم منشورة لم تطوَ بعدُ، ويمكنك أن تكتب فيها المزيد من الاستغفار لهما، والعمل الصالح عنهما.
أما أنا فحين ترحلت أمي عن وجه هذه الأرض، ولم تعد ممن يمشي فوقها أو ينادي برفق بين جنباتها، شعرت كأن الشمس التي تهب للأرض الدفء والضياء قد احتجبت حتى أصاب جسدي زمهرير لا يقاوم، وأصبحت كسائر في أحراش مخيفة، أو ماشٍ في صحاري مقفرة، وفوقه سماء مظلمة لا بدرًا فيها ينير الدروب، ولا حتى نجمًا يضيء المسالك أو يرجم الشياطين، وصدقًا فإن مذاق الدنيا بأسرها لمتغير مستنكر بعد أمي، فلا حلاوته كالسابق المعهود، وليس له من اللذة مثلما مضى من طعم، ومن جرب عرف.
وحين ماتت أمي غاب الإنسان الوحيد الذي منحني دومًا من الحب أصفاه، ومن النصح أصدقه، ومن الود أخلصه، دون أن يرتقب مني جزاء منتظرًا، أو يرتجي شكورًا نظير إحسانه، وبغياب هذا الإنسان العلي العزيز صار الشك في المحبة المعلنة هو الأصل، وسوء الظن في الخلق من الفطنة التي ينبغي ألّا يأفنها شيء ولو استطال بطن المرء حتى امتدّ أمامه شبرًا -لا قدر الله-، ولقد ابتلع الوفاء، وأقلع الوداد، وغاض ماء الحب السامي بعد حلول يومها، وإيداع جثمانها في قبرها، واستوت الدنيا أمامي فوق جبل تبرز منه حقيقتها فلا تحتجب.
وحين ماتت أمي فقدت الإحساس بالشباب وحيويته، وتسارع داخلي شيخ كان شبحه يتوارى؛ وكيف لا يكون ذلك وقد حرمت للأبد من أن أنادي سيدتي الكبيرة كما كنت أفعل قائلًا: يمه، ماما، أماه، الماما، يوم، وهكذا في تنويعات تعاهدت مسامعها الكريمة بها تلطفًا؛ فلعمركم إن انقطاع هذه الكلمة من قاموس المرء المستعمل ليمزق من الأحشاء عروقًا كانت نابضة، وينتزع من الكلام إحدى ألطف مفرداته؛ حتى كاد أن يعمه الجفاف والجفاء فيغدو مثل معاني أصل حروفه كلْمًا أو لكمًا! ولولا ترطيب اللسان بذكر الله لاستحال هذا العضو الرطب خِلقة بعد انحسار لفظ الأم عنه إلى ما يشبه جلد الضب في خشونته ويبسوته!
ومع انقطاع هذا الاسم المتعلق بالصفة الحنونة، تتلاشى رائحة الأم، وهي والله أنفذ من أيّ رائحة، وأزكى من أيّ عطر، وأرق من أيّ نسيم، وآنس من أيّ شيء، وإذا كان الصغار يطمئنون ويسكنون وينامون بعد احتضان شيء من ملابس أمهاتهم، فاعلموا علم اليقين أن الكبار كذلك وربما أعظم، وما أسرع النعاس فالرقاد إلى عين إنسان وقلبه بعد أن يتلفع بسجادة أمه، أو ثوب صلاتها، فيا لله أيّ رائحة آتية من الجنة تلك التي كانت تحتفظ بها الأم، وتفيض منها على محيطها ولو كانوا بالعشرات أو المئات! وإن السعيد لمن استبقى له من آثار والديه ما يؤنسه من وحشة البعد، ويبقي على الذكرى حية نضرة لا تهرم ولا تنكسف.
ثمّ إن وفاة الأم تعني ذهاب مَنْ يخاف عليك ولو اكتهلت أو حتى اشتعل الرأس منك شيبًا، أو أحاط بك الحراس من كل ناحية، وبوفاتها يختفي من الأرض وجه رؤيته تجلو الهم، وتجلب الطمأنينة، وينقطع صوت لطالما ضج لله بالدعاء والابتهال لك وربما كفاك بتضرعه لمولاه، وبذهابها تذوب الحجة التي بها تلغي أيّ موعد، ولأجلها تترك أيّ مهمة، وبمصابك بها تعرف معنى الجرح الذي لا يندمل، وربما لا يصدق على شأنك وأمك قولهم السائر: إن هذا الوقت سيمضي!
وعقب انتهاء أيام أمي من الحياة الدنيا لم تعد محبوباتها تلفت النظر، ولو كانت الرطب جنيًا، والتين الأبيض شهيًا، والرمان المكتنز ممتلئًا، والبطيخ أحمرًا سكرًا، والخضار ناضجة، فقد سقطت عندي قيمتها المعنوية بعد أن أصبح العالم في نظري سواسية أمام أشياء من تفضيلات الغالية العالية البهية السنية أجزل الله مثوبتها وضاعف حسناتها؛ فلمن أهرع مسابقًا غيري من السفرة الكرام البررة بشيء من رطب الصيف اللاهب وفواكهه العِذاب؟! ولمن أقدّم الشيء اليسير عسى أن يقع من أمنا موقع الرضا والحبور؟!
لقد زاد لدي إكبار الأم وموقعها ومكانتها بعد وفاة الوالدة غفر الله لها؛ وكنت أظنّ أني قد بلغت أعلى درجة من ذلكم التصور إبان محياها؛ فأثبت لي مماتها أن البون بعيد، وأن الخُبر ليس كالخبر أبدًا. وبعد رحيل أمي ارتفع لدي مستوى رحمة من تنزل به نازلة موت أمه، وأيقنت عين اليقين بعد الخامس من رمضان المنصرم أن الأم هي الأمان، وأن الأمان بلا أم محض وهم وخيال، بل إنه أنات مكتومة جاء أولها صريحًا على هيئة ألف ونون، وإنهما في اللغة لصفة حميم آنٍ حمانا الله وإياكم من لواهبه الحامية في الدنيا والآخرة.
ومما رسخ في ذهني أن حكايات أمي المعتادة انقلبت بعد وفاتها إلى إرث نتداوله، وحنان نأوي إليه، وسكينة نركن لها، وحلاوة لها من الطعم مالم نجده مسبقًا، وقصة مستعذبة مستطرفة نبحث عنها، وسبب من أسباب الانشراح نفزع له كلما أردنا طرد الغم، والترويح عن القلب، وإسعاد الخاطر ولو بطرف خبر عابر؛ بل إن اسمها الجميل ينشط النفس ويبعث على الأنس.
وإن الواحد ليتمنى لو رجعت به الأيام والليالي؛ كي يجلس بين يديها مستمعًا وسائلًا وحافظًا بأيّ وسيلة يمكنه الحفظ بها والاحتفاظ منها بشيء مهما قلّ؛ وإنها لنصيحة لكلّ ذي أبوين أو أحدهما ألّا يغفل عن النهل والاقتباس منهما وعنهما قبل أن يستحيل ذلك بعجز أو وفاة؛ فكلامهما هو العميقة معانيه، الصادقة إشاراته، الشفيقة عباراته، السليمة مراميه.
إني أكتب كلماتي هذه ولم أكن سلوت أو نسيت أو حتى تقاربت من شاطئ السلوان والنسيان، وإنما هزني لنفثي المصدور هذا أن يومنا هو الخامس والعشرون من شهر صفر الذي يوافق يوم ميلاد أمي الحبيبة حسبما هو مدون في أوراقها الرسمية، وزاد في هاجس الكتابة لديّ أن منظر الوالدة وهي مسجاة لم يغب عن عيني وذاكرتي وأحاسيسي؛ ذلك أن هذه المرأة الأبية الزكية هي أول متوفى من أقاربي الأقربين أحضره؛ فجميع من سبقها حال دون حضوري يوم وفاتهم الأول سفر أو صغر سنٍّ أو بُعد مكان؛ فاللهم اغفر لوالديّ، وارحمهما، وجِد عليهما بالمزيد من رضوانك وإحسانك، واجعلهما من السعداء في مثواهم، الآمنين بعد مبعثهم، الناجين من أهوال يوم العرض، واشمل بهذا الدعاء مَنْ كتب وقرأ، ومن أمّن ونشر، ووالديهم وأجدادهم، وكلّ مسلم ومسلمة من السابقين أو الحاضرين أو القادمين.
الرياض
الأربعاء 25 من شهرِ صفر عام 1444
21 من شهر سبتمبر عام 2022م
21 Comments
وأنا كذلك أمي الكريمة الزكية هي أول متوفى من أقاربي الأقربين أحضره وتلتها أختي…
كم كان أمر عسير وشاق فوق كاهلي أن أنقل خبر وفاة أمي وبعدها خبر موت أختي
ااااه يا جسمي الذي أصابته الفواجع
شعور يزلزل كيان الانسان عند فقد حلاوة الحياة ألا وهي الام ففقدها لفحة حارقة تغشى الانسان سنوات طويلة وهو من اقسى المشاعر التي تؤلم القلب ونعلم أن هذا قضاء الله وقدره المحتوم لكل ماهو حي فنحن أموات أبناء اموات فالحمد لله على كل حال وشأن نسأل الله العظيم رب العرش الكريم ان يرحمها ويغفر لها ويسكنها فسيح جناته ويحشرها مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
رحمهم الله وغفر لهم
ماذا صنعت بي مقالتك.. لقد فجرت بركانًا كان ساكنا بالصبر والرضا ومازال..
أيقظت ياأخي أحساسي الطفولي واحتياجي لأعظم ملاذ بعد الله،
ياالله كم خلق الله لهذه الأم من مكانة. ..رب ارحمهما كنا ربياني صغيرا
رحمة الله على الأمهات والآباء.
تقطر احساساً
وتنفيض مشاعراً
لقد لامست قلباً وشجوناً واشياءً لاتقال
ابدعت وسموت للافق
رحم الله والديك
ووالدينا
وجميع المسلمين
نشرته
رحم الله الوالد والوالدة وأسكنهم جنات النعيم ..
بارك الله في أعماركم على طاعته ورضوانه وزادكم من فضله
وأكرمنا وإياكم والمسلمين ببر والدينا الأحياء منهم ومن سبقونا منهم إلى لقاء الرحيم الكريم سبحانه ..
فصبر جميل والله المستعان 🌷
مقال مبكي
يا معلمي.
عليها رحمة الله ورضوانه وربي يجعلها في عليين
رحم الله والديك وغفر لهم وجعل مثواهم جنة الفردوس . وحفظ العلي القدير لك زوجتك ام اولادك .واولادك . واطال الله في عمرك على طاعة وعمل الخير . ورحم الله وغفر لابائنا وامهاتنا وجميع اموات المسلمين
رحمها الله ووالديكم
رحم الله والدتكم وغفر لها وأفسح لها مد بصرها..
ولأحوز جماع دعواتكم فكنت القارئ المستمع والناشر الداعي..
كتب الله برك والديك وجمعك بهما بعد الفقد في ظلال الجنان على الارائك.
حينما يبدع الكاتب.
رحمها الله وشكر لكم
حزينة هي القراءة عن نصٍّ أموميّ مهما كانت فراهته!
استعادة الذكريات بحس من الحنين والرثاء واللوعة، يثقب في القلب جرح غائر، ينزف كلما غربت الشمس، مقالة ابكتنا وجعلت في الروح رضّة من الألم،وضعت بقلمك على الحزوز العميقة، على الجذور المتشعبة من اوردة الفقد، “وكما ذكرت ذلكم السهم النافذ يعاود الطعان بين فينة وأخرى، فيظلّ القلب في حريق متجدد”،إنها مشاعر الهوّة التي تُوتر الوجدان وتهز النفس فتصاب برعدة الشوق، ،لكن لنستحضر الغياب بالاحاسيس الحنونة التي تلازمنا تجاه من نحب، ما الذه من شعور أن ماء الحب لا يمكن أن يغيض وهي أول امرأة علمتك كيف الحب يكون!
اليقين والرضا يقيدنا لشكر الله بأن اشيائها ما زالت عالقة في صميم القلب والذاكرة، تتلمسها فتدعو لها، فالسعيد لمن استبقى له من آثار من يحب ما يؤنسه من وحشة البعد، ويبقى على الذكرى حية نضرة، تينها الشهي،والرطب الجنّي، والسكر الأحمر في سلة الفواكه، كلها مثقلة بالحب حين يرفرف ذكرها!
نصك يئن بالفجيعة، إلا أنه جعلنا ندعو كثيرا بل أكثر مما تتصور لها..
يظل هناك شيء واحد لا يفقد حلاوته كالسابق المعهود، و له من اللذة مثلما مضى من طعم، ومن جرب عرف! حين تردد بين شفتيك اسمها، داعياً لها..
غفر الله لها واسكنها فسيح جناته…
الحمدالله على نعمة اليقين، والرضا بقضاء الله،
تقبل الله الدعاء، وأبقى جميل الذكرى ودائم الود.
كلام أخافني أكثر مما هو أحزنني، حبذا لو تكلمنا عن الام في حياتها ، حتى لا يضيع منا اكثر مما ضاع. حفظ الله أمي ورحم أمك وجمعك بها في الجنة، ورحم كل امهات المسلمين.
شكرا لكم، وما تفضلتم به صحيح، والحمدلله أن السيدة الوالدة رحمها الله قد سمعت مثل هذا وأكثر.
حفظ الله والدتكم وكل أم، وغفر لوالدينا وكل مسلم ومسلمة.
يا الله يا الله
لقد أبدعت والله في الوصف البليغ وأبكيت والله القلوب قبل العيون
أجلست كل الأولاد وأمهم وتلوت عليهم شلال المشاعر الدافئة والتي تنم عن رقي مشاعرك وحنان قلبك وجميل وفاءك لسيدة أقل ما توصف به من الجمال أنها أم جليلة كريمة الخلق والمعشر
جمعنا الله معها على حوض نبينا وحبيبنا محمد عليه افضل الصلاة والسلام بعد عمر طويل بالطاعة كاتبنا الحبيب الغالي 💞 💞
الله يرحمها ويسكنها في الفردوس الاعلى اللهم آمين 🤲🏻