المحرج وسبعون بين قيم وقمم
ودعت الأرض يوم الثلاثاء قبل الماضي رجلًا كان يمشي فوق ظهرها فلا يثقل عليها، فاحتضنته في بطنها ولعل ضمتها له أن تكون رفيقة بفضل من الله وجود ورحمة. وإنه لمن رجال ساروا في الأرض بقيمة تتزايد في الميزان البعيد عن الماديات ورهقها، وهو الميزان الخالد بعد سقوط جميع الموازين الدنيوية هذا إن لم تكن على أهلها وبالًا وسؤالًا. وقد جاءت تلك القيمة السنية من قيم راسخة أصيلة صنعت لصاحبها قممًا رفيعة يراها من لم يخدعه زخرف الحياة الدنيا وزينتها، وإنها لبهية مضيئة، عليّة سامقة، وهي في الآخرة الباقية السابقة، والله يجعلنا منهم ولو بشعبة أو جذوة.
ذلكم هو الشيخ عبدالله بن محمد بن إبراهيم المحرج (1367-1443=1948م-2022م) الذي ولد في مكة مع أنه ينتمي لإحدى أسر قبيلة بني تميم التي ترجع أصولها لمنطقة الفرعة بالوشم، ونشأ يتيمًا في كنف والدته الصالحة حصة العصفور (1345-1400) التي حرصت على تربيته بما يرضي الله، فالتقط تلك التربية حتى حافظ على الصلوات منذ سنوات الطفولة؛ فخشيت عليه أمه من المشي وحيدًا في هاجرة أو ليل، وحتى لا يغضبها استشفع بطالب علم أقنع الوالدة الرؤوم بصواب فعل ابنها، وأمانه ذهابًا وإيابًا.
ولم تذهب تربية ابنة الأسرة الأحسائية العريقة سدى في وليدها، إذ ظلّ قلبه معلقًا بالمساجد ومرتبطًا بالصلاة، فهو يستعد للفريضة قبل دخول وقت الآذان بمدة حتى حفظ عنه سؤاله المتكرر: كم بقي من الوقت على الآذان وليس على الإقامة بينما لا ينهض بعض الصالحين للمسجد إلّا قبيل الإقامة! ولمركزية الصلاة لديه أكثر من البقاء في المسجد بين العشاءين، وواظب على التراويح والقيام في رمضان، وحرص على نصيبه من صلاة الليل ساعة هجوع الخلائق ونزول الرب العظيم سبحانه، والتزم بالتبكير للمسجد حتى أن المؤذن لا يدركه القلق إن أضطر للتأخر لوجوده في المسجد واستعداده لرفع الآذان، ولم يعهد عنه بنوه أيّ عقوبة إلّا في حال تأخرهم عن وقت الصلاة، أو تخلّفهم عن فضل الجماعة.
أما خلال عمله في القطاع الحكومي لمدة أربعين عامًا منذ عام (1387) في مصلحة عين زبيدة، مرورًا بديوان الموظفين العام سنة (1392) وهو ما عرف لاحقًا بديوان الخدمة المدنية ثمّ وزارة الخدمة المدنية التي تقاعد منها عام (1427) فله فيها شأن عجاب. فمن خبره ذهابه المبكر جدًا وعودته المتأخرة حتى أنه يضطر لتوصيل أولاده للمدارس قبل فتح أبوابها أحيانًا، وعلة هذا الفعل كي لا يبقى في ذمته شيء من الوقت الذي يذهب في الحديث والاتصال والطعام وغيرها، فمن يطيق مثل هذا الإجراء؟! ويكمل العمل حتى لو كان وحيدًا وبدون مقابل مادي أو تكليف يعلم عنه الجميع؛ ولذلك وردت إليه كتب شكر من رئيسه الأعلى على هذا النهج، وعلى الأداء المتقن.
وكان في عمله مثالًا للجدية والانضباط والسعي الحثيث في خدمة الآخرين خاصة الضعفة والمساكين وأصحاب المراتب المتدنية كما يشهد له زميله الأستاذ سالم باخيضر، ولو نطقت جدران بيته وفرش مجلسها لأخبرت عن العدد الذي استضافه من القادمين لطلب مساعدته وشفاعته بالمعروف حسب النظام، سواء من أهل مكة أو من غيرهم، فقد أضحى الرجل منارة يهتدي إليها من يعرفه أو يعرف عارفيه أو حتى سمع عنه بلا معرفة، وخير الخلق عند الله أنفعهم لعباده.
كما وصف راحلنا بأنه أهل في جميع ما أسند إليه من أعمال في اختبارات الموظفين وترقيتهم، وصفته الأبرز هي العدالة معهم دونما ميل أو هوى حسبما قال معالي الأستاذ عبدالله الملفي نائب وزير الخدمة المدنية الذي حصل على ترقية عام (1400) نافسه فيها موظف من زملاء المحرج، فلم يشفع له هذا القرب للفوز بغير وجه حق. ويضيف معاليه بأن المحرج عمل تحت إدارته لاحقًا فما وجد منه إلّا كل أداء فيه الإحسان والنصح والمسؤولية، وهو موضع الأمانة ومحل الثقة وصاحب المبادرة.
وفي حياته الاجتماعية بسط أبو خالد وجهه ويده للناس من القرابات قدر استطاعته، فهذا يشفع له، وذاك يعينه بالصدقة من ماله سنوات عددًا، وذلكم يتبسم له وما أبخل بعض الناس بها، وللرابع منه كلمة طيبة شفيقة وما أضن بعض بني آدم بها، وإن تبحث عن فريدة من فرائدة فدونك صنيعه مع قريب له شاخ وكبر، فأصر راحلنا أن يحلق له رأسه في منزله، ويقلم أظافره، حتى توفي القريب المسن، وثابر على هذا العمل أسبوعيًا سنوات متوالية دون انقطاع بلا ضجر ولا منة.
ولم يقف عند هذا الحد ويقتنع به، فإذا ما سمع عن تقاعد إنسان من ذوي الفضل والمروءة والنفع العام بادر للتبرع باستكمال أوراقه كي يحصل على استحقاقه المالي ولا يهدر وقته في مراجعات تحول بينه وبين إفادة المجتمع والناس، وكم في القيام بمثل هذه المهام من أجور تغيب، والموفق من سهل على القائمين بالمنافع العامة لعله أن يكون شريكًا في حسناتهم. كما كان للشيخ لطف ظاهر في التعامل مع العمالة والوافدين في منزله ومسجده وعمله ومكان سكنه وضمن طاقم شركة نجله حتى حلت محبته في قلوبهم، وسعدوا بمقدمه وحديثه وحنانه.
بقي أن أخبركم عن الرجل داخل منزله، وهي الحال التي تصف المرء كما هو دون تصنع أو تظاهر. فقد كان الشيخ ودودًا مع زوجه، حنونًا على بنيه، مربيًا لهم بفعله وسمته قبل كلامه، ولم يحفظوا عنه كلمة غريبة، أو سعيًا جامحًا خلف مظهر أو محفل دنيوي. وهو مع الأطفال سبب بهجة، ومصدر سعادة، وأيّ نقاء فيمن لا يرى الأطفال منه غير الرحمة والأنس والرفق. وله شأن لافت مع أغراضه الشخصية من أوراق وملابس إذ ان سمتها الأساسية هي الترتيب والتنظيم، فكل مالديه معروف، وبالتالي يسهل البحث عنه، ويصعب فقد شيء منه، وتلك صفة الإنسان الذي يرغب ألّا يكلف أحدًا، أو يجعل من خدمته عنتًا ومشقة على غيره. ومما كتمه من خبره ما أصيب به من أمراض، وما أجراه من عمليات جراحية، فلم يتبرم أو يكثر الشكوى، ومن رأى البسمة تكسو محياه ظنه بلا متاعب، والله يجعل ما أصابه في عقده الأخير من حياته سببًا لرفعة درجاته، وزيادة حسناته.
سوف يرحل البشر، وتموت الخلائق، وكل من عليها فان، وإنما يبقى الذكر الحسن، وتبقى الأحدوثة الآسرة، وتستمر مواضع الاقتداء، ومواطن الاحتجاج، والسعيد الموفق من اختاره الله ليكون من أئمة الهدى ولو لم ينطق بكلمة محفوظة، أو يترك أثرًا مكتوبًا، وإنما يكفيه حميد السيرة، وجميل المسيرة، وتلك الآثار المباركة من البنين والحفدة الذين لا يكفون عن الدعاء لراحليهم، أو استجلاب الدعاء لهم بكريم أخلاقهم، وعلو هممهم، وطيب مواقفهم.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 15 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1443
15 من شهر يونيو عام 2022م
12 Comments
هذه أبيات كتبتها على عجل في رثاء الفقيد، بعدما قرأت شيئا من سيرته العطرة،
وكم تمنيت أني عرفته والتقيت به
رحمه الله رحمة واسعة:
دنيا بزخرفها تغر وتبهجُ
وشباكُها تسبي العقولَ وتُنسَجُ
كم كبّلت بقيودها من عاقلٍ
ضل الطريقَ وضاع منه المنهجُ
هي فتنةٌ منها نجا ذو فطنةٍ
ما غرهُ فيها الغَرورُ المارجُ
رحم الإله أخا الفضيلة والتقى
والبرِ والمعروف ذاك (المحرجُ)
بالدين والأخلاق أشرق وجههُ
حتى بدا كالبدر أبيضُ أبلجُ
صان الأمانةَ حافظا لحقوقها
وإلى خصال الخير خيلٌ مسرَجُ
من زاره أو قد رآه أحبهُ
لم يَبد منه خنًا وفعلٌ أعوجُ
إحسانه شمل الجميع وبرُه
للجار والأقرابِ طبع يُنهَج
فلتقبلوا فيه العزاءَ جميعُكم
وبطيب سيرته الصدور ستُثلَجُ
وتقبّل الرحمنُ دعوةَ صادقٍ
لفقيدنا بدعائه يتلجلجُ
شعر:
حسان بن عبدالعزيز القاضي
الخميس ١٧ / ١١ / ١٤٤٣
اللهم اغفر له وارحمه رحمة واسعة وأدخله فسيح جناتك
اللهم آمين
رحم الله ابو خالد واسكنه فسيح جناته كان قمة في حرصه وتفانيه في كل ما يوكل له من اعمال .
بداية تعييني حيث سبقني بسنوات كنت ارى ذلك الرجل الذي يعجبك بمظهره في هندامه وجماله وحيويته وبشاشته وترحيبه بمن يلقاه وتعرّفه عن من يقابله لأول وهله وسؤاله عن احواله واسداء المشورة له ، اول ما شاهدته وكانت بعض اقسام الديوان في حينه منتقلة للتو من مبنى صغير قديم في شارع الوشم إلى مبنى مجاور أكبر وأحدث وكنت في التوظيف ونعمل خارج وقت الدوام مساءاً وكان ابو خالد رحمه الله في ادارة أخرى تُعنى بسجلات موظفي الدوله وتحفظ في دوسيات وبكميات ضخمة جداً ، كنت اراه يعمل وبكل حماس وحرص وتشجيع من يعمل معه ونقل تلك الملفات مع زملاءه ويمشون بها على الاقدام مسافة بين البنايتين واراه يعمل بكل سرور دون تذمر ، واستمر على هذا المنوال من الحرص والتفاني حتى اواخر نهاية سنوات خدماته ولم تشغله كل هذه الاعمال عن اداء الفريضة بل شدة حرصه على التوجه لمسجد الوزارة حين وقتها ويتقدم لإمامة الجماعة في كثير من الأحيان ، وقد عانى رحمه الله من متاعب المرض كالسكر والضغط والمفاصل جعل الله ما اصابه تكفير ورفعة له في آخرته . رحمه الله رحمة واسعه واسكنه الفردوس الأعلى من الجنه.
تحياتي وعزائي لاسرته ومحبيه .
محمد بن فهد الفريح / ابو فهد
منذ أن رأيت وجهه رحمه الله في الصورة وأنا أقول سبحان الله وجه سمح ومنير وبشوش وينحب.
وبعد قراءة هذه النبذة الجميلة من سيرته تزداد له تقديراً وحباً لما كان يصنع ومانقول الا رحمه الله رحمة واسعة وجعل ماقدم في موازين حسناته.
اللهم اغفر لوالدكم وارحمه ، و ارفع درجاته في عليين ، واحشره في زمرة الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
اللهم احسن لجارنا ابو خالد ، واكرم نزله ووسع مدخله ، وجازه عنا خير من تجاز عبدا احسن لجاره.
واجمعنا واياكم ووالدينا و من نحب في مستقر رحمته في الفردوس الاعلى من الجنه.
رحم الله الشيخ الصالح عبد الله بن محمد المحرج واسكنه هو ووالديه جنات الفردوس . والهم عائلته الصبر والسلوان . سيرته العطرة تصيب اعماق الفطر السليمة وتبشرهم بان الدنيا لم تخلى منهم . وجزاك الله خيرا الكاتب الفاضل احمد وانت تكتب لقرائك عن هذه الشخصيات المثالية الجديرة بالاقتداء . ورحم الله والديك والمسلمين واسكنهم فسيح جنات الفردوس
اخت له في الله
اللهم آمين
ابو خالد معروف عندنا ببشاشة وجهه وحسن أخلاقة
وحرصة الطيب مع جيرانة نحسبة والله حسيبة انه من أهل الخير والصلاح والتقى
وهو والله محبوب عند جيرانةجميعا ونكن له كل الحب والتقدير والاحترام ونطلب من الله أن يجعلة في الفردوس الأعلى
امين
قرات المقالة هذا الصباح
واحسست بالحرمان من التعرف عليه عن قرب ولا ادري من ألوم في ذلك نفسي فحسب ام ابا معاذ معي
غفر الله ورحمه وانس وحشته وابدله نزلا خيرا من نزله وجعل الفردوس مستقرة وبارك في عقبه
وجمعنا واياه وامواتنا واحبابنا في النعيم المقيم
لم تزل بسمته لا تفارق محياه، وتبسطه مع القريب والبعيد قصة عجيبة، وحسن أخلاقه وتعامله أعجب.
في بدايات تعبه كنت أداعبه، وأقول له: سوف أبحث لك عن زوجة لعلك تنشط، فكان يعبر عن رفضه بابتسامة، وأسلوب جميل، فيقول: أم خالد (زوجته) تغليك، يقصد أن لي مكانة عندها، فلا تسمع بهذه الوصفة.
رحل عن دنيانا، ولا زلنا كلما تذكرناه نتذكر ابتسامته اللطيفة فنبتسم، وكلماته الجميلة، فنحزن عليه.
غفر الله له ورحمه، وجمعنا به في الجنة، وسائر موتانا.
رحم الله ابوخالد رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة بغير حساب ولا سابق عذاب.