ذكريات مع مؤرخ كبير!
كنت أستعد لإقفال جهاز الجوال بعد أن استويت على المقعد في الطائرة العائدة من أبها إلى الرياض عقب منتصف ليلة الأحد الخامس من رجب المصادف للسادس من فبراير، ولكني انشغلت بشرب فنجال قهوة قدم لي، وبفتح مادة حفظتها مسبقًا للاستماع إليها في رحلة العودة، وهي لقاء تلفزيوني مع الأديب المعتني بتاريخ منطقته الشيخ عبدالله بن عبدالمحسن الماضي، استثمارًا لوقت المكوث في الطائرة والجو؛ لأن القراءة في الطائرة تتعبني، مع أنها فرصة سانحة لمن تتيسر له.
وقبل إغلاق الجهاز نظرت في مدونتي، فراعني ارتفاع عدد قراءات مقالة كتبتها قبل أزيد من عام عن المؤرخ البروفيسور عبدالعزيز بن عبدالغني بن إبراهيم (1363-1443=1944-2022م)، ولم أجد في نفسي راحة لذلكم الارتفاع مع أن كلّ ذي إنتاج يطرب لزيادة عدد المتفاعلين مع مخرجاته. وبعد وصولي إلى الرياض بحثت على عجل في الانترنت فلم أجد أيّ خبر، بيد أني بت تلك الليلة الشاتية الباردة وفي نفسي خوف ولا راد لقضاء الله.
ثمّ بعد أن أصبحت أعدت كرة البحث، فكانت الفاجعة بوجود خبر عن وفاته يوم أمس السبت الرابع من شهر رجب، فاتصلت بصديق في قطر وهو وثيق الصلة بمؤرخنا لأتأكد، وأخبرني الرجل أن عهده بالمؤرخ الكبير قريب، وأن صحته كانت جيدة، ولو كان ما قرأته صحيحًا لورده النبأ عن طريق نجل أستاذنا المهندس الدكتور فيصل. ومع ذلك طلبت منه التحري، وعقب صلاة الظهر أخبرني بما لا يُفزع منه إلى تكذيب، وأردف بأن جثمان الراحل ذهب أو سيذهب إلى السودان العزيز للصلاة والدفن، حيث مسقط الرأس، ومرابع الصبا، وديار الأهل وذكريات العمر.
عقب ذلك أخبرني الأستاذ مهند حمدون وهو أحد أقارب المؤرخ الحبيب -مشكورًا مأجورًا- في تواصل كريم منه عبر تويتر بأن جثمانه سوف يصل للسودان ظهر الاثنين، ثمّ يوارى تحت الثرى بعد صلاة العصر في مقبرة البكري بأم درمان. ومن الموافقات أن المشيعين تمكنوا من إيجاد قبر للمؤرخ بجوار قبر والدته الحاجة فاطمة بنت منصور التي توفيت عام (1988م)، ليكون بجوار أمه التي رعته صغيرًا، وأهدى لها أحد أهم كتبه، وكتبه كلها ذات قيمة ومكان.
ومع أن أستاذنا يناهز الثمانين إلّا أنه كان مقبلًا على الحياة العلمية بحثًا وتأليفًا وتواصلًا، ولم يكن يبخل بشيء من علمه وفضله حسبما أعلم يقينًا، ولذلك رأيت تسجيل ذكرياتي معه التي تمتد إلى قريب من عشرة أعوام أكثرها عن بُعد. والبداية كانت من ملاحظتي كثرة كتبه عن تاريخ الجزيرة العربية والخليج، فخشيت من بلاء التكرار والاختصار الذي يصيب المؤلفين، ومن جريمة استسهال التأليف، فأخذت واحدًا منها لقراءة فاحصة، فأعجبني منه الإحاطة، والتحري، وأصالة المراجع، وعلو اللغة، والاعتزاز العظيم بعراقة أمته ومرجعيتها.
فكتبت عن بعض كتبه، وراسلت إحدى دور النشر طالبًا وسيلة تواصل معه، فأعطوني بريده الإليكتروني واعتذروا عن الرقم مع أنه أيسر وأسرع. وكتبت له بريدًا إلكترونيًا بيد أنه لم يصل إذ رجعت رسالتي لي ومعها ما يشعرني بوجود مشكلة. ولم يدركني اليأس، وسألت بعض أهل السودان عن رقم له، وبعد متابعة حثيثة وصلني رقم وتواصلت معه غير مرة دون جدوى. وفي أيام عيد فطر سعيد وردني اتصال من السودان، وإذا بالمتحدث هو أستاذنا الذي شكرني على ما كتبت مثنيًا بود، ومعتذرًا عمّا واجهته من صعوبة التواصل معه، والحقيقة أني لا أعرف كيف توصل هو لي؛ لأنه هاتفني من رقم غير الذي أُعطي له على أنه رقمه، ولم يكتف المؤرخ الودود بذلك إذ أرسل لي رقمه في قطر حيث يعمل هناك ويقيم.
ثمّ زرته والتقيت به، وسألته عن موضوعات فأجابني بصراحة الناصح وصدق العالم، وأخبرني عن مشاريعه التأليفية التي فرغ منها، وتلك التي يستعد لإنجازها، خاصة ما يتعلق بترجمات وثائق أجنبية تخصّ المنطقة وأقاليمها وحدودها، وبعضها طبع، وأما المشروع الأعظم منها فلما ينتهي بعد، وعسى أن يكون قد شارف على الاكتمال، وألّا يتعطل برحيل شيخنا عن الحياة الدنيا. ومع أنه لم يتيسر لي أيّ لقاء آخر معه فيما بعد، إلّا أن التواصل الهاتفي بيننا كان مستمرًا، ومن فرط لطفه أنه يبادرني بالتهنئة خلال بعض المناسبات، والحق له.
مما أذكره معه أن كثيرًا من الباحثين طلبوا مني وسيلة للتواصل معه؛ فكنت أستأذنه أولًا ثم أربطهم معه ثانيًا، حتى قال لي مرة: كل من يريدني لأجل العلم فأبلغه عن طرق التواصل معي ولا تستأذن فالعطاء في سبيل العلم واجب. وسألته مرة عن قضية مجلجلة خلاصتها خلاف حول كتاب، فأجابني بتفصيل وصراحة وأدب جم مع الطرف الثاني الغائب تمامًا عن حوارنا. وكان الرجل العالم يخبرني بتواضع عن أيّ كتاب جديد يصدره، أو كتاب قديم يعيد إصداره، وأهدى لي أحد كتبه التي يحبها، وسوف أكتب عنه بإذن الله قريبًا.
ولم أكتب عن شيء من كتبه –وقد كتبت قريبًا من عشر مقالات– إلّا عرضت عليه المقال ليصبح القارئ الأول له؛ فلا أجد منه إلّا التقدير لي ولما كتبته بعبارات أخجل من نشرها وأظنها من باب اللطف والتشجيع، ومع ثنائه على صنيع غيره يهضم نفسه وعمله في تواضع لا يُستغرب من العلماء أمثاله. ومما أخبرني به أنه رشح لجائزة خليجية مهمة وعزيزة على نفسه للاسم الذي تحمله ولمكانها. والذي يبدو لي أن بعض الأحداث قد حالت دون نيله تلك الجائزة الأثيرة لديه؛ وليتها أن تمنح له بعد وفاته.
ثم سألته ذات مرة عن منهجه في دراسة التاريخ وكتابته؛ لأهمية استجلاء هذا الأمر، فقال لي إنه سوف يصدر كتابًا يوضح منهجه التاريخي، ويبرز ما يرى أهميته للمؤرخ والقارئ للتاريخ. وحينما صدر الكتاب أعلمني بذلك، وكانت فرصة للنقاش المتواصل معه حول بعض ما في كتابه المهم هذا. ولأن الشيء بالشيء يذكر؛ فقد كان أستاذنا يتهرب من أيّ سؤال يشعر بأن وراءه نية للكتابة عنه، ولولا إلحاحي لما أجاب، ومن طريف ما قاله لي عن تاريخ ميلاده أن بعض المواقع خلطت بينه وبين السياسي اليمني عبدالعزيز عبدالغني.
أيَضًا من طريف ما أذكره أن أحد المغردين تواصل معي عبر تويتر طالبًا استعارة كتاب لمؤرخنا عن صراع الأمراء سبق لي الكتابة عنه، ففحصت حساب هذا المغرد، ووجدته كله أو جله يتحدث في الرياضة، وفوق هذا لاحظت أن لغته ضعيفة جدًا خلافًا لتلك اللغة المستخدمة بالتراسل معي. وحين أظهرت للطرف الآخر استغرابي من هذا التناقض اللغوي وغياب أثر الاهتمام التاريخي مما يكتبه، أنبأني أن الحساب لابن أخيه، وهو ليس لديه حساب ولذا يستخدم حساب قريبه الشاب، فأعرته الكتاب لأنه كان يدرس في إحدى جامعاتنا لنيل شهادة الماجستير أو الدكتوراة.
رحم الله مؤرخنا الكبير الذي أثرى المكتبة العربية والخليجية على وجه الخصوص بتآليف رصينة متبنة، وأسأل الله أن يحسن العزاء لأنجاله الميامين ذوي التأهيل العلمي والخلقي والتربوي، ويعم بالعزاء بقية أسرته وأهل منطقته وبلده وطلابه وقراءه وعامة المشتغلين بالتاريخ. وأثني بأن أتمنى ألّا تندثر مؤلفاته بموته، وأن يحرص الورثة على حسن تعاهدها لأنها من علم أبيهم الباقي وتراثه الذي ينبغي ان يكون خالدًا، ومن الموافقات أن قسمًا كبيرًا منها مهدى لأولاده بطريقة لافتة للنظر وفيها رسالة ثقافية وفكرية، كما أن في تلك الدراسات من العلم والشموخ والأنفة ما يجب أن يبقى فينا ولأجيالنا.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الأحد 05 من شهرِ رجب الحرام عام 1443
06 من شهر فبراير عام 2022م