سير وأعلام عرض كتاب

عيون الجواء: الواحة الفريدة

عيون الجواء: الواحة الفريدة

كم من رأي استقر أو كاد مع أنه إنما أتى على ظهر أحكام جاهزة أو أقوال متداولة دون تحقيق ولا فحص، ففات من أثر التسليم بها وبلواحقها علم وافر، وانطمست آثار وحجبت آراء ذات وجاهة. ولو استفدنا من كتاب ربنا الذي حث كثيرًا على النظر والتدبر والتعقل وابتغاء العلم، وطالب بإثبات الحقائق عبر برهان أو آثارة من علم لما وقع أحد في مزالق الدعوى. ولو استرشدنا بأسس البحث العلمي الذي يستلزم استعمال أدوات ومناهج لسلم الكافة من الغرق في مستنقع ذي أوشاب وشوائب.

وهذا الكتاب يعدُّ من الكتب الناجيةوالمنجيةمن ذلكم الوحل؛ إذ يطرح أسئلة ويورد احتمالات تذيب الرواسب أو تكاد حتى لو كانت راسخة قديمة متوارثة، وتدعو الناظر فيه إلى مزيد من التأمل والتفكير وتحطيم أيّ جمود يعوزه الدليل المنقول أو المعقول. والكتاب المراد عنوانه: عيون الجواء واحة نجدية بجذور أنباطية، تأليف: عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد الرشيد، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1443=2022م)، ويتكون من شكر وتقدير وفهرس المحتويات، ثمّ المقدمة فتسعة فصول تعقبها الخاتمة، ويقع الكتاب في (540) صفحة، وعلى غلافه الأمامي صورة جميلة من عيون الجواء تجمع بين بئر وقناة مائية، ومكتوب عليه اسم البلدة بحروف لغة الأنباط.

امتاز الكتاب بطباعة أنيقة، وحرف كبير يريح العيون، وورق ناصع، وفي أسلوبه يظهر أثر كثرة القراءة في الكتب الأجنبية المتميزة بأسلوب دقيق جدًا في صياغة الفكرة، وكتابة الفقرة، وإنهاء الجملة، مع التمكن من تراثنا الأصيل لسانًا ودينًا وتاريخًا وشعرًا؛ فلم تطغ عليه عجمة الأجانب وركاكة الغارقين في قفو طريقتهم، ونجى من عَمَهٍ يصيب السادرين خلف الآخر بلا بصيرة أو روية، ولذا استبقى معالي المؤلف لبحثه المعالي الوضيئة من الرونق العربي، والبهاء الديني، والاعتزاز بالأصل والمرجع، وليبارك ربنا أيّ كتاب جمع الحسنيين مع الافتخار بعراقتنا ومنطلقاتنا.

وقد عبّر المؤلف في مستهل كتابه عن شكر شخصيات كثيرة بأسمائها، وفيهم الحي ومنهم مَنْ سبق إلى الدار الآخرة، وهو منهج محبب غير شائع في بعض الكتب مع الأسف. ونالت زوجه الكريمة البارة هيلة بنت عبدالعزيز العثمان العساف أول الشكر والثناء عن استحقاق كتب الله أجرها وأعظم ثوابها. ثمّ شكر نجله سليمان على متابعة الكتاب والعناية به في جميع مراحله، وسرد أسماء آخرين أغلبهم من أهل الجواء، وأثنى على عونهم إياه بمعلومة أو دلالة أو رواية أو وثيقة، وختم بشكر أيّ باحث يخدم واحة عيون الجواء وتاريخها؛ لأنه جزء من خدمة بلادنا وتاريخها وعلومها البلدانية، وحضارتها.

ويهمني جدًا أن أقف بإجلال عند شكر المؤلف لمصدرين من مصادر إمداده العلمي بالرواية الشفهية وهما والده ووالدته الجليلة لولوة البراهيم العقيل (1328-1423) –رحمهما الله– . أما والده العم الشيخ عبدالعزيز المحمد الرشيد (1329-1423) فقد سمعت من والدي رحمه الله، ومن أناس آخرين من جيل العم عبدالعزيز أو من لدات أبنائه، الثناء العاطر على علمه وبصيرته ومخزونه من الروايات، ولو قدّر له أن يتفرغ للعلم والتاريخ والأدب لكان رمزا ثقافيا محليًا يحجب غيره أو يؤخر مرتبتهم على أقل تقدير.

وهذا الرأي أسوقه بناء على سماع ورواية، وعن معايشة يسيرة لم تطل مع الأسف، وليت أن أمثاله قد سجلوا ما لديهم من ذخائر وكنوز، وليت أن الكم المسجل معهم يصان عن الأخطار المحتملة؛ فالمسن مكتبة ثرية بحكم عمره، فإذا جمع مع العمر علمًا ورواية وعقلًا فسوف تغدو مكتبته أثرى وأنفع. وبعد ذلك فللقارئ أن يتصور تلك الانطلاقة القوية التي ساندت المؤلف؛ وهو الذي عاش في كنف أبوين يجيدان حمل العلم والرواية، ويضبطان الأداء، ومحفوظهما غزير يتجاوز حواجز الزمان والمكان.

يقوم الكتاب على افتراضات سعى المؤلف لإثباتها، أو تقريب احتماليتها، وقد كررّ أبو عبدالعزيز في سياق كتابه عبارات احترازية حذرة إجلالًا للعلم والتاريخ، وتوقيرًا للقارئ، وأشار إلى أنه قصر دراسته على عيون الجواء دون ما يحيط بها، ووقف عند حدود منتصف القرن الرابع عشر دون تعيين سنوات لبداية هذه الواحة القديمة، وأما ما بعد هذا الزمان فموثق بحكم وجود إدارة محلية، وما سوى العيون من مناطق فلها أناسها الذين لديهم أهلية البحث والتأليف.

وهو كتاب جمع إلى التاريخ علم البلدان والمكان، وحفظ أخبار السكان، وطرائق المعيشة والتعامل، ومستوى الخط ولغة التوثيق، وأثر الدين مع سلطة القضاء والأئمة، وصولًا إلى العلاقات السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية مع المحيط القريب والبعيد سواء عن طريق تجار (إعقيل) أو عن طريق غيرهم. كما حوى كتابنا كمًّا غير قليل من الوثائق والروايات والمعلومات، إضافة إلى ما أجراه الباحث عليها من توضيح أو تحليل أو استنتاج.

كذلك اشتمل هذا الكتاب على توثيق سيرة أحد عشر أميرًا للبلدة خلال قرنين، علمًا أن إمارة رجلين منهم ناهزت مدتها مئة عام وهما الأميران عبدالله المحمد العساف، ومحمد الحمد الرشيد. وأثبتت هذه الدراسة أيضًا أسماء المشاركين في قوافل العقيلات من أهل العيون، وبعثت من خلال الوثائق والأخبار أسماء أسر وأشخاص بعد أن اندثرت أو اختفت أو رحلت، ومن المؤكد أن هذا الكتاب سيكون مرجعًا مهمًا في مكتبة أيّ مهتم بتاريخ المملكة أو القصيم أو الجواء.

يتحدث الفصل الأول عن الموقع والخلفية التاريخية، ويبحث الثاني الآبار والقنوات الأرضية والخلفية الأنباطية، بينما يقف الفصل الثالث مع الآبار والقنوات الأرضية والعمق التاريخي. ويرتكز عمود هذه الفصول على رفض الأفكار الجاهزة عن صحرائنا قبل تمحيصها، ثمّ يربط بين ثقافة تطويع الصخور وشقّ القنوات في عيون الجواء وفي ديار الأنباط إن في البتراء أو في شمال غرب المملكة؛ ليكون الاحتمال واردًا بأن الجواء محطة مهمة للأنباط على طريق تجارتهم، ولذا صنعوا فيها مثل ما فعلوا بديارهم، أو أنهم خرجوا منها فنقلوا ثقافتها المعمارية وحضارتها معهم أينما حلوا، وقد ساند المؤلف هذا الرأي بنصوص عن مؤلفين عرب وأجانب ناقلًا كلماتهم ومحيلًا على كتبهم.

ثمّ بعد أن حصر سبعين بئرًا تميز عيون الجواء عن محيطها، ويمكن النزول إليها بلا حبل أو سلم، ومثلها عدد من القنوات الأرضية التي تسمىالمشقوق، خلص المؤلف إلى رأي مفاده أن تلك الشواهد وفي بعضها فكرة وهندسة وأثر معرفة سابقة ليست نتاج حضارة بدوية فيها ارتحال وتحول، بل هي حضارة استقرار وبقاء، ولذا أعاد التأكيد على أن رمال الجزيرة العربية تخفي من الحقائق مالو انكشف جزء منه لغيّر كثيرًا من الظنون، فجزيرتنا العربية طريق تجاري قديم ومهم، وهي ذات عهد بالقوافل وبالتجارة حتى أنه يصعب تحديد بداية تاريخها التجاري أو زمن الاستقرار في بعض بقاعها ومن وفد إليها أولًا.

تلك البداية التي يصعب تحديدها تبرز جليّة في تأريخ عيون الجواء الضارب بالقدم دون جزم بتحديد سنة معينة؛ مما منحها خصيصة فريدة باستحالة ادعاء التأسيس أو السبق إليها من قبل أسرة أو قبيلة، وجعل إمارتها متداولة بالتراضي والقبول من أهلها عبر طريقة رفيعة من الإدارة والشورى، وإن كان جلّ أمرائها المحفوظين خلال القرون السالفة يرجعون لجدهم الأكبر عجلان بن مسند وذريته من أسر العجلان والعساف والرشيد، ومنهم جدّ المؤلف وعمه اللذين تأمرا على التوالي من عام (1336-1384) ومن عام (1384-1404)، ولذلك خصص المؤلف هذه المسائل بالنظر في الفصل الرابع عن السكان وبعض الجوانب الاجتماعية، وفي خامس الفصول الذي سرد أمراء عيون الجواء والأحداث التي واكبت إماراتهم.

أما أطول فصول الكتاب فهو السادس بعنوان الوثائق كنافذة على الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ويقع بين صفحتي  (175-420)، واستعرض المؤلف فيه (64) وثيقة يعود أقدمها إلى عام (1212). ووقف الكتاب مع مضمونها ودلالاتها وأسماء الأشخاص الواردين فيها، وأرشد القارئ إلى ترابط بعض الوثائق حتى ينظر فيها جميعًا لتكتمل الصورة لديه، وأبان عن تكرار كتابة بعضها بالنسخ المتكرر حفظًا لها إذا تلفت أصولها. وفي قراءة الوثائق من المؤلف تتبع العلائق مع الجوار القريب والبعيد، وتلمس أثر توقير القضاء، والنزاهة، وإبراء الذمة، والحرص على الصلة وفعل الخير من خلال الصدقات والأوقاف والهبات. ومن جميل ملامحها الحرص على ملك الأسرة بشراء نصيب البنات حتى لا يشارك الورثة من الرجال في ملكها آخرون، وفي هذا الصنيع عدالة مع المرأة ومتابعة للشرع بمنحها حقها غير منقوص، وفيه عراقة الحفاظ على إرث الأسرة واسمها.

وحتى لا يدركنا النسيان أو الغفلة جاء الفصل السابع عن علاقات أسرية موروثة وأسماء ومواقع يوشك أن يطويها النسيان بعد تتابع الليالي والأيام وتعاقب الشهور والسنين، ولعلّ جهود الإخوة المباركين في لجنة أهل الجواء بالتعاون مع المحافظة والإمارة والوزارات المعنية أن تؤدي إلى صيانة ذلكم التاريخ، وإشراع أبوابه للبحوث الاستكشافية الرصينة؛ والأعمال ذات المسلك الحضاري الراقي؛ فلربما تصير واحتنا بوابة سياحية واقتصادية ذات جاذبية ومرابح.

ولأن أهل عيون الجواء تربطهم بالتجارة عروق وطبائع وطرق قديمة وحديثة كان من المنطقي تخصيص الفصلين الثامن والتاسع للحديث عن عيون الجواء ورحلات إعقيل، ثمّ عن إعقيل من أهالي عيون الجواء، إذ حصر المؤلف في مبحث قديم المئات منهم، وروى بالسند حكاياتهم المشرفة العبقة بالفضائل وأحسن السير، ولم يدع القارئ دون أن يتحفه بشيء من طرائفهم وأخبارهم الملاح الحسنة، التي تدل على كرم وشجاعة وذكاء وبديهة وحميّة وإيمان، وجرأة تثبتها وقائع كثيرة أبرزها قصة المسافر إلى الأرجنتين.

ثمّ أعاد المؤلف في الخاتمة الإشارة إلى شح المصادر المكتوبة، وذكر أن الاعتماد في التأليف كان على الوثائق المتوافرة والروايات المتواترة، مع التأكيد على أنها وما جاء في الكتاب ليست لإثبات حقٍّ أو نفيه، وسيبقى الباب مفتوحًا لكل من أراد المشاركة في هذا الميدان بعلم وعدل، بعيدًا عن الدعوى وعن العاطفة، وإنه لميدان جاذب وفيه متسع لمن شاء المواصلة، مع الشكر والدعاء لمعالي الأستاذ عبدالله العبدالعزيز الرشيد حين فتح هذه النافذة متكئًا لا على كونه من أسرة الإمارة في أجداد وأعمام قريبين وبعيدين، وإنما مقتبسًا جذوات من العلم المروي والمكتوب، حتى كتب غير مرة بعد أن أجال النظر عبارة تحفيزية خلاصتها أن رمالنا تخفي الجواب عن تساؤلات واستفهامات كثيرة وجيهة، بيد أن آبار عيون الجواء وقنواتها قد تكون أحد المفاتيح للإجابة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

 ahmalassaf@

الثلاثاء 29 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1443

01 من شهر فبراير عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)