سير وأعلام

سعيد بن سعد بن سعيد وفقه المسابقة والمسارعة!

دعني أحدثنك عن رجل ينتمي لأسرة نجدية وجيهة عريقة وثيقة الصلة بحكام البلاد، ولها تاريخ في المناصب الرفيعة والأعمال التجارية والمجتمعية، ولا يذهبن بك الظنّ أن رجلًا هذه صفته قد اكتفى بما وهب، وعلى نفسه انكفأ، وبمجد أسرته استغنى، كما قد يفعل كثيرون غيره، فلا يتبعها ألف من أخواتها وشبيهاتها النافية بجزم، إذ أن الرجل عمل دون فتور، وببكور وسبق، ولكن بصمت وهدوء، فلا يهمه أن تبرز له صورة، أو ينحت له اسم، أو يجري على الألسنة حوله الثناء والإطراء، إني أحسبه كذلك والله حسبه وحسيبه.

هو الشيخ سعيد بن سعد بن سعيد (1354-1443) من أسر الرياض الكبيرة المعروفة، وأحد رجال الدولة في السعودية من خلال منصبه وكيلًا لوزارة المالية؛ وهي وزارة مهمة لتخصصها وسابقتها ولأمومتها لكثير من الوزارات. كما أنه ينتمي لأسرة طيبة المنبت حميدة السيرة أبًا وجدًا وإخوة وعمومة وسائر القرابة والآل، ولهم مشاركات مجتمعية وخيرية ورسمية ورياضية لا يكاد يجهلها أحد؛ فمن لا يعرف شيخ الرياضيين؟ ومن يجهل أن هيئة الخبراء في مجلس الوزراء وهي جهاز مهم للغاية قد انيطت بأحد بنيهم النابهين ثم غدا وزيرًا عقب ذلك؟ ومن يغيب عنه أسماء العقاريين والمهنيين والكتّاب من هذه الأسرة العزيزة؟

أما الشيخ سعيد بذاته فله شأن عجيب، فمع أنه ابن صحراء نجد المتهمة -زورًا وتضليلًا- بالقسوة والحزونة حتى لو خرج منها أعذب الشعر وأرق الغزل، إلّا أنه انفتح على العالم الخارجي البعيد من خلال مسارين عظيمين لا يقوى عليهما إلّا كريم معطاء، وذو همة لا يصدها عائق من عمل، أو يحول دونها كبر سن أو بعد مسافة. ومصداق ذلك أن أبا طارق قد فتح بيته في الرياض، ومزرعته في العمارية، للطلاب الوافدين من أجل الدراسة من جميع الجنسيات الإفريقية والآسيوية والأوروبية؛ بل وساعد قسمًا منهم على ضمان القبول في الجامعات، وكانت أماكنه موئلًا لهم ولأسرهم يأنسون بها، ويفرحون ويسعدون؛ حتى قال بعضهم: إن بيته بيتنا، وما أجدرنا بإشاعة ثقافة استضافة الوافدين من أجل العلم والعمل المبارك. ولم يكتف بذلك إذ طاف أرجاء الدنيا لزيارة بلادهم، وبناء المساجد، والمدارس ودور الأيتام، وغيرها من مشروعات النماء والبقاء والثبات، وأنجز هذه المشروعات الجليلة بصمت وخفاء وسعة صدر مع صبر وطول نفس.

لذلك عرفه المسلمون في روسيا وألبانيا والبوسنة وكوسوفا وقرغيزيا ونيجيريا وبورما وأمريكا وغيرها من أيّ ديار فيها مسلمون، ثم بكوا عليه حينما رحل وهو في عشر التسعين عمرًا، وروحه باقية في نشاط الشباب وقوة الرجولة، وتواترت كلمات الثناء والتزكية منهم عليه، ثمّ شاركهم في نشر عبير الراحل عدد من العرب العاملين في الدعوة ونشر الخير من داخل المملكة وخارجها، وتوارد مديحه والتعزية به على لسان ملوك وأمراء وعلماء ودعاة ومثقفين ونشطاء في صنائع المعروف؛ فمَنْ أحسن ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين؟!

ولا يذهبنّ بك الفكر إلى أن ابن سعيد – وحاشاه- قد أهمل شأن أسرته وركن إلى جهود غيره، فبيته مفتوح لأقاربه بمختلف أعمارهم، وليس هذا فقط إذ عقد لهم مجلسًا علميًا كل يوم اثنين، واستضاف في مزرعته أهل الفضل والحكمة ليسمع أفراد الأسرة منهم ويحاوروهم بما يرتقي بالذائقة والعقل والسلوك. وإذا علم عن موهبة أو نجاح لأحد من أسرته بادر بالتهنئة وطلب منه تعريف البقية بها، وله حنان بالغ تجاه أخواته وعامة النساء والأطفال وإن كانوا أصغر منه سنًا، والحق له بالأولوية، ولا عجب أن تكون رحمته بالقريب بالغة إذا كانت على البعيد سابغة، فخيارنا خيارنا لأهاليهم.

ثمّ دع عنك أيّ عمل خيري فعله الرجل مع الإنسان أو العمران في بلاده أو في غيرها على فضل ذلكم العمل وخيريته وبركاته، واسمع مني هذه المفخرة التي لو كانت تباع وتشترى لسيق فيها غالي الأثمان، وخلاصتها أن الشيخ ابن سعيد لم توهنه السنون، ولم يحجزه بعد الشقة، ولم يفت في عضده تراجع بعض رفقته، فمضى إلى بلدة “كمشاتكا” في أقصي شرق روسيا مقابل شمال اليابان، وقابل المسؤولين وطلاب العلم والدعاة فيها، ودعم بناء أول مسجد في تلك البقعة، وهذا المسجد هو أول موضع في الأرض قاطبة يُرفع منه الآذان يوميًا، ومنارته أول منارة هدى تشرق عليها الشمس، فأيّ فخر يلامس هامة هذه المنقبة السنية السامية؟ ومثله يقال عن إسهام الشيخ في بناء أكبر جامع في “لوس أنجلوس” يحمل اسم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب.

فإذا أردنا استجلاء منابع هذه الخصال الكريمة في راحلنا العزيز، فسوف نجدها في تربية دينية كريمة من أبوين صالحين، إذ حفظ القرآن وجالس المشايخ صغيرًا، ثم داوم على حضور مجالس أسرته وكم تصنع المجالس من رجال وكم تنضج من عقول، وهي مما تواظب على فتحها ورعايتها الأسر العريقة. ويساند ذلك وجود بيئة مجتمعية عامرة بالخير سواء من ناحية شعبية أو رسمية، إضافة إلى زوج وفيّة ساندت بعلها وآزرت همته الشامخة في نشر العلم والاحتفاء بحملته وطلابه، وإنفاق المال عليهم، وبذل الجاه لأجلهم دون تردد.

كما لا يفوتني التنبيه إلى ملمحين أزعم أن التنبه لهما واجب؛ فأولهما أن الشيخ درس في بواكير شبابه بالجامعة الأمريكية في بيروت فلم ينسلخ عن هويته ومبادئه كما يفعل بعض حدثاء النعمة أو سفهاء العقول، أو المنكسرين حضاريًا، وهنا تبرز أهمية التنشئة المتينة، وتربية الروح والقلب والعقل؛ حتى يمتلك الإنسان مناعة ضدّ أي تغيير سلبي، ويحتفظ بعزته وأنفته وقيمه. والثاني أن أبا طارق لم يحتجز الخير لنفسه؛ إذ اشتهر بحث الوجهاء والأثرياء على المشاركة بالإنفاق والعمل، وتحسينه لهم، مع إزالة أيّ غبش جاءت به ريح سموم أو غبار كثيف.

وبعد مسارعة إلى الخير، ومسابقة إلى الإحسان، واستهداف جنة عرضها السماوات والأرض، مع ابتغاء نيل رضا الرحمن ومحبته، أجاب الرجل المحسن الفيّاض نداء ربه في يوم الجمعة السابع والعشرين من شهر جمادى الأولى عام (1443) الذي يصادفه آخر يوم من سنة (2021م)، ومضى إلى الله والدار الآخرة تحفه الدعوات من أقصى الأرض وأدناها، وترك من الآثار ذرية طيبة، وأعمالًا عظيمة خالدة، وسيرة نفيسة بمثلها يقتدى؛ ولعله كان ممن يدعو مولاه آناء الليل وأطراف النهار بأن يجعله للمتقين والمنفقين إمامًا وهاديًا.

 ahmalassaf@

الرياض – الخميس 03 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1443

06 من شهر يناير عام 2022م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. رحم الله الشيخ سعيد و إنا لله و إنا إليه راجعون و البقاء والدوام لله وحده. كان رحمه الله كريما عفيفا دمث الاخلاق. لا يتفوه بنابية. و يعف عن الذم أو الاقلال من شان أحد. و تلك أخلاق كبار النفوس.
    و إذا كانت النفوس كبارا…
    تعبت في مرادها الأجساد.
    رحم الله الفقيد. و اللهم طيب ثراه.
    كنا من جلساء مجالسه. مرارا و تكرارا. لم نسمعه قط تفوه بنابية أو أساء لأحد. اللهم ارحمه و اغفر له و أحسن إليه. إنك أنت الغفور الرحيم.

  2. رحم الله الشيخ سعيد بن سعد السعيد .اللهم طيب ثراه . واكرم مثواه . واجعل جنة الفردوس مستقره وماواه. اسم على مسمى فقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يحثنا عن التفاول في تسمية ابناءنا التي لها دلالات حسنة ومناسبة . فمن قرائتنا لسيرته العطرة . والخدمات التي قدمها .كان اسما على مسمى . كانوا مثلا اعلى لبلادهم ومجتمعهم ولاامتهم . كثر الله من امثالهم

  3. الشهادة لله. ان الشيخ سعيد رجل كرم واخلاق وتقوى لم ارى له مثيلا. أسأل الله له الرحمة والمغفرة. ومجاورة نبينا محمد (صل الله عليه وسلم)في الجنة. رحمة من الله واستحقاقا لسبقه في فعل الخيرات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)