لا تفوتكم مقالات الطناحي!
لي مع هذا الكتاب عدة قصص، أولها أني في يوم الأربعاء الثامن عشر من شهر صفر عام (1423) دخلت إلى مكتبة التدمرية الشهيرة في شرق الرياض، فقابلني عند بابها الشيخ د.عبدالمحسن بن عبدالعزيز بن مقحم العسكر، وهو ممن جمع الله له علم الشريعة واللغة والنهل من كبار المشايخ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وسبق لي دراسة أحد متون النحو عليه وليتني أكملت الدرس معه، وكان الشيخ حين خروجه يحمل كتبًا بيديه، ومعه نجله الأكبر عبدالملك وربما أنه حمل كيسًا مليئة بالكتب، والله يحفظهما بالعلم والأمن والإيمان.
فسألني الشيخ سؤال المحب الناصح: هل أخذت مقالات الطناحي فيما مضى؟ فقلت: كلا! وحينها قال لي: لا تفوتك! وبعد أن رأيت الكتاب فككت التغليف الذي عليه، وقرأت منه مواضع في البداية والفهارس، ثمّ اشتريت نسخة منه، وقرأتها ثلاث مرات في الصحراء، وأمام البحر، وداخل البيت وبين جدرانه، وفي كل قراءة أستفيد وأستمتع. أما القصة الثانية فهي أني فرغت من إحدى القراءات في نفس اليوم الذي شاركت خلاله بالصلاة على والد شيخي د.عبدالمحسن ودفنه رحمه الله الذي يصادف يوم الاثنين الخامس من شهر شوال عام (1423).
أما القصة الثالثة فهي أن نسختي قُرأت قريبًا من عشر مرات من قبل فتيات وفتيان، ومن فرط الحماسة استأذن بعضهم ليكتب تعليقاته على حواشي الكتاب وهو ماكان. ورابع قصة مع هذا الكتاب الماتع أني أقول لمن يشارك معي في برنامج التدريب على الكتابة، واسترشدني بالسؤال عن كتاب فيه مقالات نافعة، عليك بمقالات الطناحي، ومن فضل الله أن أبدى جمع منهم سروره البالغ بما وجده في هذا الكتاب، والخير من أهله لا يستغرب. وتتركز قصتي الخامسة مع كتابي الأثير في أمنية الظفر بوقت لأبدأ معه القراءة الرابعة حتى أكملها.
عنوان هذا الكتاب كما بدا مما سبق طويل لكنه واضح وحقيقي: مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي: صفحات في التراث والتراجم واللغة والأدب، وقد اجتمع عليه ولده محمد، والشيخ محمد بن ناصر العجمي، والأديب عبدالحميد بسيوني، والشيخ أمين شحرور، وصدر عن دار البشائر الإسلامية في قسمين أنيقين عام (1422=2002م)، ومجموع صفحاتهما (810) صفحات مناصفة بينهما تقريبًا، ولهؤلاء الأطراف الخمسة عظيم الشكر والدعاء على وفائهم للعربية، وللأب، وللأستاذ الشيخ محمود محمد الطناحي، وللقراء العرب، وكم ضاع علم أناس فحول أهملهم الأبناء والطلاب.
يحوي القسم الأول تصديرًا كتبه الشيخ العجمي، ثم مقالة تأبينية بقلم أ.د. عبدالله حمد محارب منشورة ضمن كتاب فيه مقالات الأسى على رحيل عالمنا العَلَم، ويعقبها سيرة تعريفية بالطناحي، ولسيرته بإذن الله وقفة أخرى يستحقها هذا الطود العلمي الشامخ بإذن الله وتوفيقه. كما يوجد في بدايات القسم الأول نماذج من إهداء الكتب من الطناحي للعلماء بخطه الجميل، أو يكون الإهداء له من علماء وأدباء كبار، ويتلوها أربعة وثلاثون مقالًا. أما القسم الثاني ففيه تسعة وثلاثون مقالًا ثمّ ملحق بالصور الشخصية والأسرية والعلمية، فسبعة فهارس كاشفة، وثامنها فهرس عن موضوعات الكتاب.
يمتاز كتاب مقالات الطناحي بأنه قد حشي علمًا راسخًا في اللغة بأقسامها وفنونها، مع خبرة عميقة في التحقيق ومعرفة بالمخطوطات وأماكنها وتاريخها. وفيه ظرف تام غير متكلّف ولا سامج، مع متانة في الأسلوب الفريد، وقوة في حججه وشواهده. ولا تخطئ بصيرة القارئ قبل بصره الشعور بالعزة الإسلامية والعربية التي تسلّح بها الطناحي حتى أصبحت حضارته وثقافته ولغته المقدمة عنده على ما سواها، ولا يقبل انتقاصًا لها أو حطًا من قدرها العظيم.
وفي هذا الكتاب الماتع جدًا بقسميه مسائل لغوية وتراثية بعضها دقيق جدًا، ويدل جزء منها على بعد أغوار الرجل ودربته الطويلة مع التراث وقضاياه. كما يضم في أحشائه دررًا كثيرة منها التعريف بأعلام وأكثرهم ذكرًا في الكتاب شيخه العلامة محمود محمد شاكر الذي يوصف الطناحي بأنه من آخر حوارييه وخواتيم مدرسته العريقة، ولذلك فلا غرابة أن نجد أربع مقالات عنه. ومن الشخصيات المترجم لها أدباء ومحققون وقراء وكتّاب ومفسرون مثل الشعراوي الذي خُص بمقالتين.
كما أنه من البديهي أن يعمر الطناحي مقالاته بالحديث عن الكتب، فبعضها من القديم المشتهر مثل البيان والتبيين للجاحظ وهو من أحب الكتب لديه، وفيها من كتب المعاصرين المعروفين هم والمشهورة كتبهم. ولم يستنكف الطناحي من الكتابة الفخمة الاحتفائية بعلم وعدل عن كتاب صاحبه غير معروف، وموضوعه جديد يتحدث عن إعجاز القرآن في أعجمي القرآن، حتى جعل المؤلف مقالة الطناحي تقدمة لكتابه الفذ، ولي مع كتاب الإعجاز حكاية جميلة ذكرتها في موضعها.
فيا أيها المثقف ويا أيتها المثقفة، يا من تحبون ثقافتكم التي بمثلها يُفاخر، وعنها يجدر بالمرء أن ينافح، وتأرزون إليها كل حين وآن، وتنهلون من مصادرها وعلمائها وأدبائها، دونكم مائدة الطناحي الشهية بما فيها من طوال المقالات وقصارها، وإنها والله لمائدة عن مثلها لا يقوم القارئ إلّا وقد اكتسب علمًا وأدبًا وعزة، واقتبس من فنون القراءة والكتابة والبحث والحجاج على حسب اجتهاده، وسيعزم الحريص المجتهد على أن يكمل القراءة حتى يفرغ من القسمين، وإذا فرغ فربما يعود، وإذا عاد فالعود بإذن الله أحمد.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين 02 من شهرِ جمادى الأولى عام 1443
06 من شهر ديسمبر عام 2021م