سير وأعلام

حسن آل الشيخ: رجل دولة بالحب واللطف!

وهل يمكن أن يكون رجل الدولة لطيفًا؟ وهل يعرف رجل الدولة الحب ويستخدمه؟ اللهم نعم! فمقام النبوة أعظم مقامات العباد قاطبة، ومع ذلك امتن الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن رحمه فألانه لأصحابه الكرام -رضوان الله عليهم-، وأخبره العزيز سبحانه أنه لو كان فظًا غليظ القلب لا نفضوا من حوله وهو المؤيد بوحي السماء؛ فكيف بغيره من البشر؟ وختم الله آياته البينات تلك بأمر صريح يتكامل مع اللين وسلامة القلب وهو العفو والاستغفار والمشاورة من القائد لأتباعه؛ فما أعظم كتاب ربنا وأجلى دلائله. ومن المؤسف أن يظن أحد بأن العبوس والتقطيب دليل على الجدية وقوة الشخصية، وهما على التحقيق إلى معاني فساد النفوس وسوء الطوية أقرب، وشر من ذلك أن يعتقد إنسان بأن فظاظة القول وسقوط الألفاظ تعني الجرأة والبراعة والتمكن.

ولقد استوقفتني كثيرًا كلمة فاحصة قالها الشيخ جميل الحجيلان عن زميله الشيخ حسن آل الشيخ بعد أن تشاركا العضوية في مجلس الوزراء لمدة اثني عشر عامًا متواصلة (1382-1394)، وكلمته الجميلة هي: تجاوز الشيخ حسن الأمور الهامشية لتحقيق أحد أهدافه في التقريب بين الدولة والمواطن! ولا غرو أن يفعل الوزير الكاتب الأديب الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ (1352-1407) ذلك وهو الذي سطر مقولة ذات معنى سامٍ حين كتب: إذا أصبح المرء مصدر إساءة لوطنه أو منطلقًا لتحقيره وإهانته فهو أكبر عبء على الوطن.

هذا هو أعظم سر -فيما يبدو لي- جلب الخلود لشخصية الشيخ حسن، فمع أنه سليل أسرة عريقة شهيرة، ونجل عالم كبير، وفي إخوانه وبني عمه علماء وقضاة ومحتسبون ووزراء ووجهاء، إلّا أنه لم يجعل تلك المكاسب الموروثة تقعد به عن رفيع المعالي، وفخم المعاني، ولذلك يدلف الفتى الفقير النائي بثياب عادية ومنظر مكدود إلى مجلس غاص بكبراء فيسلّم عليهم مصافحًا دون أن ينهض له أحد أو ينتصف بعضهم في نهوض محدودب مكرهًا كما لو كان تحلّة قسم، وحين يصل الشاب إلى قبالة معالي الشيخ حسن ينتصب قائمًا، ويصافحه ويشدّ كفه على كفه، ويبادله أطيب الكلام، ثمّ يحقق له مطلوبه في القبول بكلية طبية، أو الظفر ببعثة دراسية، أو العودة لقريته ومعه أمر بافتتاح مدرسة، وذلكم الحسن من حسن جلب الثناء الوافر، وأثبت المحبة والولاء.

ولا يكتفِ ذو المحاسن بذلك، إذ رعى الابتعاث وسهل أمور المبتعثين وهو المنطلق من إرث مشيخي راسخ، ولم ينس له قدماء المبتعثين زياراته للاطمئنان والمعاونة، ورفضه قطع البعثة عمن تزوج من ألمانيا أو غيرها، وتمديد زمن الدراسة لذوي الجدية والأعذار الوجيهة، وإلحاق المتفوقين من خريجي الجامعات ببرنامج الابتعاث بعد التيقن من انتفاء المحسوبية في الترشيح، وسعيه لإضافة مبالغ خاصة بتعلّم اللغة الإنجليزية لمن درس في بلد أوروبي غير بريطانيا كي يعودوا لبلادهم بأكثر من لغة أجنبية. وأجلّ أعماله إقفال الباب عن الوشاة الذين يستقصون شطحات المبتعثين، ويفتشون عن مواضع الغرارة والزلل؛ وكم في التتبع من فساد وإفساد. وبعد ان أوصد هذا الباب المشين استوثق بالتأكيدات المتكررة من كبار المسؤولين على أن قدوم المبتعثين إلى البلاد ومغادرتهم إياها سيكون سلسلًا دون عقبات وتوقيفات وسؤال يتلمظ لمثلها بعض قصار النظر، المشحونين بهواجس حرب طواحين الهواء.

ثمّ إنه عندما كتب له قاضي القصيم الشيخ صالح الخريصي ناقلًا رغبة أهالي إحدى المناطق بإعفاء بنيهم من حصة مادة الرياضة البدنية كي يستثمروا الوقت والنشاط في الزراعة وأعمال الفلاحة التي تعود على الأهالي بالرزق والمال لم يتعنت ولم يصدر عنه إساءة للقاضي او للأهالي-وحاشاه-، وإنما حثّ المسؤولين عن التعليم هناك على مراعاة هذا الأمر بما يحقق المصلحة مع أن الطلب غريب، بيد أن بصيرة الرجل أبعد، والعلاج الحكيم يسير غير عسير، وإنما التوفيق من الله الحكيم العليم.

أما في العمل الحكومي؛ فنقرأ في سيرة الوزير البروفيسور أسامة شبكشي أن الوزير حسن حضه على العودة إلى ألمانيا لإكمال الدراسة في التخصص الدقيق، ويخبرنا الوزير الدكتور محمد الرشيد في مسيرته أنه تلقى كتاب تحفيز وشكر من الوزير آل الشيخ حينما لاحظ همته ودأبه في أحد المؤتمرات دون سابق علاقة بينهما. وفي سيرة رجال راحلين عظماء تعرضوا لمضايقة أو وشاية نقف على خبر مفاده أنهم وجدوا إحسان الظن من الشيخ حسن، ثمّ الاحتضان في مناصب عالية يستأهلونها؛ ولعمركم إن العمل العام ليسعد برجل دولة ذي حنان وحب ولطف، يخلص في النصح، ويصدق في الاصطفاء، ويصيب في العمل والأداء.

وإن من خصائص رجل الدولة الذي يحب بلاده وحكومته ومواطنيه حرصه على خدمة الناس بسماحة نفس، فقلما يمر عليه يوم دون أداء شيء من جنس هذه الخدمات، وعندما زار الوزير مريضًا في لندن يعالج على حسابه وهما لا يعرفان بعضهما، استصدر من الملك خالد أمرًا بعلاجه على نفقة الدولة، وأتاه شاب حديث التخرج في الجامعة دون سابق معرفة يطلب ابتعاثه، فلبى طلبه لما آنس منه الجدية مع شح موارد الدولة آنذاك بسبب انخفاض سعر النفط، وشفع لرجل من عامة الناس حتى تنقل زوجته إلى مكان قريب يتناسب مع أحوال الأسرة؛ ومن عجب أن يجف حبر كتاب الشفاعة فيكون من آخر عمل الشيخ الوزير، وتنفذ شفاعته وهو مدرج في قبره خلال اليوم التالي لكتابتها.

وكما قال شاعر قديم؛ فيا صاحب المركز والجاه والمال تكلّم فليس يضيرك الكلام، وتبسم إذ لا يمحو محاسنك الابتسام، وسلّم أو ردّ التحية بمثلها على أقل تقدير إن لم يكن الرد بأحسن منها، واعلم علم اليقين أنه كلما ارتفع المرء ازداد عدد الناظرين إليه ليس إعجابًا وانبهارًا به فقط، وإنما هم في غالبهم شهود لهم آذان وأعين وألسن وأقلام وأذهان، والحياة بطولها وعرضها سجل فيه أحاديث وأخبار وروايات، فمن لم يرد ما عند الله والدار الآخرة؛ فلا أقلّ من أن يستحصل شيئًا من ثناء الدنيا، ويحجز له موقعًا مع عظمائها ونبلائها؛ فالخاسر من باء بأحدوثة سوء دنيوية متوارثة لا تبلى، ومآل كئيب في الآخرة خالد لا يفنى.

ahmalassaf@

الرياض- الخميس 06 من شهرِ ربيع الآخر عام 1443

11 من شهر نوفمبر عام 2021م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. جازاك الله الثواب المستحق علي كلمات الحق والوفاء في سيرة الراحل ذو الأخلاق الرفيعة حسن بن عبدالله آل الشيخ رحمه الله وغفر له. جميع ما ذكرته عنه من افعال حسنة وخصال حميدة عايشتها لسنوات تحت مظلة قيادته الرزينة بوزارة اامعارف كمسؤول اولةعنوقطاع الاثار والمتاحف. وكان راندا في هذا المضمار بأفعالك ومبادراته. اسكنه الله الجنة في زمرة الصالحين
    د.عبدالله حسن مصرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)