سجل الزلازل العربي
ما أنفعَ كتابات العلماء العاكفين على تخصصاتهم حين يستلّ الواحد منهم قلمه، ويغمده في بياض القرطاس كي ينير بالسواد مشاعل تعلّم وتنفع، وما أعظم أجور المخلصين عند رب العالمين، والله يزيدهم عددًا وعدة وتوفيقًا وإحسانًا؛ فإن الأمة بحاجة إلى حدب أبنائها ونصحهم، وإن الأجيال الحالية والقادمة لمتعلقة بصنيع سابقيها، فمنهم يكون الاقتباس، وبهم يبدأ الاقتداء، ومن استشعر هذا المعنى عظم لديه الأمر وجلّ الخطب، وزادت فرصته للمتاجرة بنيته الصالحة عند مولاه.
ومن الكتب التي أحسبها تقع ضمن الوصف أعلاه -ولا أزكي على الله أحدًا- كتاب قرأته قديمًا عنوانه: سجل الزلازل العربي: أحداث الزلازل وآثارها في المصادر العربية، تأليف العالم البلداني أ.د.عبدالله بن يوسف الغنيم. وهذا الكتاب واحد ضمن سلسلة علمية تصدر عن وحدة البحث والترجمة في قسم الجغرافيا بجامعة الكويت بالتعاون مع الجمعية الجغرافية الكويتية، وظهرت الطبعة الأولى منه عام (2002م) بدعم كريم من مؤسسة الكويت للتقدم، وإذا لم تكن الجامعات منارات للعلم والبحث والتجربة فمن سيكون؟
يقع هذا الكتاب في (470) صفحة مكونة من إهداء إلى معالي الأستاذ الدكتور البلداني محمد صفي الدين أبو العز، وتمهيد فخمس موضوعات ثمّ بيان بالمصادر العربية والأجنبية وهي كثيرة، وأخيرًا الفهارس وعددها خمسة فهارس كاشفة أولها لمواقع الزلازل وسنوات حدوثها، ثم فهرس البلدان والأماكن، ويتلوه فهرس الأعلام، ففهرس الكتب، وأخيرًا فهرس الموضوعات.
يعقب الفهارس نبذة تعريفية بالمؤلف من صفحة واحدة فقط، وهو وزير سابق للتربية والتعليم العالي، وأستاذ جامعي له أبحاث وكتب واهتمام علمي ظاهر. وهو شقيق الدكتور يعقوب الغنيم المؤرخ والأديب والوزير السابق للتربية، وهما -خاصة الأخير- من حواريي العلامة محمود شاكر الحاضرين في مجلسه، ولهما علاقات وثيقة بتلميذ شاكر البارز الراحل الدكتور محمود الطناحي. وسبق للمؤلف الفوز بجائزة الملك فيصل، وجائزة الملك سلمان، ومن المؤكد أن تاريخ الأخوين العلمي حافل لا تكفيه هذه العجالة، وإن رجلًا واحدًا أنجز من الجهد ما ينوء به مركز بحثي لحقيق بالتقدير والتكريم.
ذكر المؤلف في التمهيد اهتمامه بالموضوع إلى أن حدث الزلزال المدمر في اليمن عام (1982م) فحفزه للبحث العميق والنشر فيما بعد، ولذلك تفرغ تفرغًا علميًا عام (1986م)، وأمضى تفرغه في مكتبة جامعة “هارفارد”، وجمع كل ما كتب عن الموضوع من القرن الأول الهجري حتى الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري مما استطاع الوصول إليه، وأصدر كتابه المرجعي بعد رحلة تنقيب مدتها ربع قرن، وهو جهد جدير بالتقدير، والحمدلله أن أمتنا تحتضن مثل أولئك الصامدين في عالم تموج به التفاهة موجًا، وتمور به السفاهة مورًا.
أما موضوعات الكتاب فهي أولًا: أسباب الزلازل عند العرب، وثانيًا: أحداث الزلازل في الكتابات العربية، وثالثًا: السجل العربي للزلازل، ورابعًا: سجل الأحداث الزلزالية، وخامسًا: تحليل السجل ونتائجه. وحصر المؤلف الكتب والرسائل المختصة بالزلازل، وبدأ بالعربية القديمة إذ أن أقدم مصنف عربي مختص بالزلازل هي رسالة نسبها ابن النديم إلى أبي يوسف الكندي المتوفى عام (254). وذكر أ.د.الغنيم من المراجع العربية عشرة وفيها أن أول زلزلة حدثت في الإسلام كانت في سنة (20) كما قال السيوطي، وتعقبه المؤلف بحدوث زلزلة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في العام الهجري الخامس، وأخرى في عهد أبي بكر الصديق رضوان الله عليه عام (13).
ثمّ أورد كتبًا عربية ورسائل وبحوثًا حديثة تعتني بالموضوع وخصّ منها ثمانية بالعرض، وسرد أسماء كتب ودراسات مؤلفة بلغات أجنبية أقدمها دراسة “أرفانيتكس” عام (1903م) وذكر منها ستة كتب. كما رجع المؤلف لحوليات تاريخية وأفاد من خمسة عشر حولية، ومما يضاف إلى مراجع الباحث كتب بعيدة عن الموضوع، وفيها شيء من خبره مثل يوميات حلاق دمشقي وغيرها من المؤلفات، وهذا صنيع يوقفنا على عظيم العناء وكبير الجهد، وخليق بمن رام التميز أن يحذو حذوه، فهذا مسار يستلزم الجلد والجدية، وله عاقبة لذيذة للغاية.
وقد رتب البروفيسور السجل العربي للزلازل وفق سنوات حدوثها بعد جمع الروايات وتمحيصها وحساب المقابل الميلادي للتاريخ الهجري، وينتهي السجل عام (1318) المصادف لعام (1900م)؛ ففي تلكم السنة بدأ الرصد العلمي المنتظم لأحداث الزلازل. وأقدم مرصد عربي نقل لحلوان عام (1903م) بعد أن كان في العباسية بالقاهرة عام (1868م)، والثاني هو مرصد كسارا في لبنان وهو أحد المراصد التي أنشأها الآباء اليسوعيون عام (1906م) وأنجز في عام (1910م)، والثالث هو مرصد إسطنبول المجهز عام (1934م) وقيل عام (1895م).
كما اعتمد المؤلف على المصدر الأوفى والأكثر تحديدًا ولو كان المتأخر في زمنه، وحاول الجمع ين الروايات على طول بعضها، وأضاف خرائط توضيحية، وشروحات مختصرة ضرورية. ويستبين لنا من السجل أن أكثر قرن وقعت فيه الزلازل من حيث تكرارها في السنوات هو القرن السادس الذي وقعت فيه الزلازل خلال (39) سنة أي ما يقارب خمسي سنوات القرن، ويليه القرن العاشر الذي وقعت فيه الزلازل خلال (38) عامًا. وأقلّ القرون هو القرن الأول الهجري بواقع تسع سنوات روي فيها وقوع زلازل، ثمّ القرن الثاني وفيه وقعت الزلازل خلال إثني عشرة سنة.
كذلك نقل المؤلف مرويات الخوف والدمار والوفيات والفزع الناجمة عن الزلازل، وتهدم المساجد والمنائر والكنائس والنخيل والآثار، وتوافُد الناس على المساجد يصلون ويبكون، وارتفاع الأصوات بقراءة القرآن الكريم وصحيح البخاري والتكبير، مع المبادرة للتوبة والخوف من العقوبة الأليمة وغضب الله، ذلكم الخوف الذي جعل الفاروق عمر بن الخطاب رضوان الله عليه يقول لأهل المدينة بعد زلزال عام (20): يا أهل المدينة ما أسرع ما أحدثتم والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم! هذا قول عمر المبشر بالجنة، بينما بعض مخازن الإثم والفحش يستنكف-بدعوى الفكر والعلم- حين يُربط بين الأحداث العصيبة والمعاصي.
ومما جاء في الكتاب أن معاوية بن سفيان رضي الله عنه أمر بعمارة كنائس الرها حين هدمها زلزال عام (57)، وأحصي بمصر يوميًا ألف جنازة، وفي بعض القرى لم ينج إلّا رجل وحمار، وفي موانئ بحرية هرب الناس إلى البحر، وقذفت المقابر عظام الموتى، ووقعت الحجارة على رؤوس الناس، ونبذ البحر سمكة طولها مئة ذراع. ومن أحزنها أن وقعت بالرملة زلزلة عظيمة وكان في مكتبها نحو مئتي صبي سقط عليهم البناء فما سأل أحد عنهم لأن أهلهم قد ماتوا أجمعين! واجتاحت مرعش زلزلة عنيفة صيرتها مقبرة لأهلها بلا استثناء، وقدم تجار مسافرون على بلدتهم ولزموا المقابر يبكون دمعًا ساكبًا على أهلهم الذين ماتوا ودفنوا، وقبر رجل بيديه من أولاده ستة هلكوا تحت أنقاض الزلزال.
وأطال الكاتب الموفق في سرد روايات خبر النار التي أضاءت من المدينة وضج الناس بالبكاء والتوبة، وأفادوا منها بالكتابة على ضوئها، وهي من نبوءات الرسول عليه الصلاة والسلام التي وقعت منتصف القرن الهجري السابع. ومن المروع استغاثة الناس في بلدة بالعربي والكردي والفارسي، وحال آخرين الذي صار إلى غمٍ بوقوع الزلزال متصاحب مع غم آخر بنقص المياه لانسداد مجاريها العذبة. ولم يقتصر المؤلف على آثار الزلازل عند المسلمين، بل أورد ما يخصّ اليهود والنصارى وغيرهم سواء في أشخاصهم أو في معابدهم.
ومن أعظم العبر الواردة في الكتاب الذي يُعدّ من مبتدئه إلى منتهاه عبرة لمن كان له قلب ما نقله المؤلف عن المشقة في البحث عن الطعام خلال الزلازل، حتى تسول الأغنياء الخبز مثل الفقراء تمامًا في حلب. وعندما نظر رجل من أكمة إلى صفد عقب زلزال عنيف آمن بأن الله قادر على إنزال أكبر نقمة في لحظة دون أن يحسب الناس لوقوعها أي حساب. ولبقاء شيء من الفطرة وآثارها حتى لدى العصاة لجأ الناس إلى الله بالدعاء حينما زلزلت الأرض، وقصدوا المساجد يصلون ويبكون، ولم يخل الأمر من بدع في القبور والاستغاثة وأمثالها.
أيضًا لم تنعدم الطرائف حتى ونحن في حراك الزلازل المخيفة، إذ استثمر أمير من الأمراء وقوع الزلزال فهدم أحد المباني وأشاع أن الزلزلة هدمته! ولم يستيقظ العالم البغدادي ابن الجوزي من نومه الثقيل حينما وقع زلزال قوي، ثمّ أفاق منزعجًا بعد سقوطه على الأرض من سريره، وفي بعض الزلازل التي وقعت لم يشعر بها البتة وإنما رواها عن الناس الذين يعيشون معه في المدينة ذاتها، وثقل نوم ابن الجوزي مقبول حينما نرى تراثه العلمي فليس بحجة لأي ثقيل في النوم أو غيره!
وفي إحدى البلاد اجتمع بعض أهلها على قرد يرقصونه وهم لاهين سادرين فوقع عليه البناء وهلكوا جميعًا مع القرد المسكين المنحوس برفقتهم. وحين وقع زلزال عظيم بمصر تراجع أهلها عما عزموا عليه من احتفالات غاصة بالمنكرات والملاهي، وبمناسبة مصر أورد الكاتب في إحدى الحواشي أن صحيفة الأهرام المصرية نشرت له مقالًا بعد حذف شيء عن الزلازل في مصر وآثارها! وأوضح في الحواشي معنى “شخشير” وهو من السراويل الواسعة جدًا المشهور لبسها في سورية.
أخيرًا خلص معالي المؤلف الكبير في ختام كتابه إلى نتائج منها وجود زلازل إقليمية وأخرى عامة، وأن شرق الجزيرة العربية لم يرد عنها فيما وقع عليه إلّا خبر واحد فقط عام (265)، وأشار لدراسات خاصة بمناطق معينة من غرب الجزيرة ووسطها وشرقها. كما ترافقت ظواهر جوية مع الزلازل قبلها أو بعدها مثل الكسوف والخسوف وظهور الشهب وسقوط النيازك والعواصف والأمطار ووميض الزلزال، وغور بعض المياه، وحدوث زلازل بحرية “تسونامي”. وأمكن منذ العام الهجري (702) قياس زمن الزلازل، أما التنبؤ بالزلزال فبدأ من تجربة صينية ناجحة هي الأولى عام (1975م)، وأخيرًا فإن الزلازل تميل للظهور في مناطق سبق لها أن وقعت فيها، والله يحمينا وبلاد العرب والمسلمين والمسالمين.
هذا كتاب فيه علم وتاريخ وأدب وإيمان وطريقة لمن رام الاهتداء لطرق البحث، والله يجعل غالب المؤلفات أو غالب المقروء منها على نطاق واسع مثل هذا الكتاب في علميته وفائدته، دون أن ينقطع الناس عما يمتع بلا إسفاف. والله يحمي العالم من الكوارث الطبيعية والبيئية والصحية وغيرها، ويجعل الأمن والسلامة مع العدل والرغد مصير هذه الأرض وساكنيها تحت ظلال شريعة الله ووفق أمره وهديه.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأحد 26 من شهرِ صفر عام 1443
03 من شهر أكتوبر عام 2021م
2 Comments
مقال مفيد، شكرا للكاتب.
حياكم الله دوما