لغة وأدب

حكم من كلب أبي دلامة!

حكم من كلب أبي دلامة!

لا تخلو المجالس بعامة، ومجالس الساسة على وجه الخصوص من أصناف البشر كافة، إذ يحيط بهم حواريون على سبيلين؛ فمنهم من يأمر بخير وينهى عن ضده ويعين على ذلك مجتهدًا قدر وسعه وأجره على الله، وفيهم من يحضّ على الشر ويصرف عن الرشد ويزيّن هذا المسلك وحسابه على الله، وغير هؤلاء يكون في الجلاس عقلاء وظرفاء بحسب الأحوال والغاية المرادة من كلّ واحد ساعة الرأي، ووقت الأنس.

من هؤلاء الندماء المعروفين أبو دلامة الذي اشتهر بكنيته ولم يتفق الرواة على اسمه أو تفسير هذه الكنية، واكتفوا خروجًا من خلاف لا يضر ولا ينفع بحفظ ملحه وطرائفه المرتبطة بخلفاء بني العباس الثلاثة الأوائل السفاح والمنصور والمهدي، وربما زيد فيها أو نقص، ذلك أن تلك الحكايات لا ينبني عليها حكم شرعي ولا مسلّمة عقلية، وفائدتها من لبّها وأما الحواشي والزوائد فيمكن الخلاص منها بسهولة.

مما يروى عن أبي دلامة أنه دخل على الخليفة العباسي الأول السفاح فقال له: سلني حاجتك! فأجابه: أريد كلب صيد! فقال الخليفة لرجاله: أعطوه كلبًا، فأردف أبو دلامة: وأريد دابة أتصيّد عليها، فأمر الخليفة له بواحدة، ثمّ طلب أبو دلامة غلامًا حتى يقود الكلب ويصيد به، فاستجاب الخليفة لذلك من فوره، ولم تتوقف رغبات أبي دلامة عند هذا الحدّ؛ بل استوهب جارية تُصلح الصيد وتطعم أبا دلامة منه، فلم يتأخر الخليفة عن تلبية رغبات جليسه الفكه الظريف.

ثمّ قال أبو دلامة: هؤلاء يا أمير المؤمنين لا بدّ لهم من دار يسكنونها؛ فقال الخليفة لخدمه: أعطوه دارًا تجمعهم، فواصل أبو دلامة سلسلة أمنياته وخاطب الخليفة قائلًا: إن لم يكن لهم ضيعة فمن أين يعيشون؟ فأقطعه الخليفة عشر ضياع عامرة، فخرج أبو دلامة من مجلس سيده المعطاء بمكتسبات كثيرة فخمة ذات ريع متناسل، وإنما جاءت هذه المغانم في بدايتها عن طريق كلب لم يكن له وجود قبل طلبه.

وفي هذه القصة حكم كثيرة، ودروس مفيدة؛ فمنها أن التدرج يضمن بلوغ المآرب وتحقيق المنى، وهو سياسة متبعة في الخير والشر، ومن الإنس والجن. فالتدرج نحو التغيير والإصلاح الهادئ الناعم، البعيد عن أيّ بلبلة وتخريب، طريق حصيف رشيد يضمن النفع ويجلب المصالح ويدرأ المفاسد، كما يستعمل التدرج في الفساد والإفساد وحرمان الخلق من نعمة الهداية ومن نعمة الجنة، وهو بالضبط مثل خطوات الشيطان التي تبدأ بلحظة عين، أو لفظة لسان، أو تزيين قبيح، أو تقبيح حسن، ثم تورد صاحبها المهالك.

كذلك يمكن أن يستفاد من هذه القصة أهمية حسن ترتيب المطالب والآراء في الذهن، وصياغة مساراتها المحتملة على اختلافها، حتى يظفر بها المرء إذا حانت فرصة مصنوعة أو تلقائية جديرة بالاقتناص، وكي يجيد العاقل التعامل معها إن دهمته فجأة؛ فلا تضيع منه البوصلة بسبب عجلة أو ارتباك. وربما يناسب ألّا نغفل عن الكلب المسكين الذي حاز أبو دلامة بواسطته هذه الخيرات المتتابعة، وذلكم الصيد المتوقع، ثم لم يغدُ شريكًا ولا مشكورًا ولا موقرًا؛ فهو كلب يلهث ويستقذر، ويكفيه فتات أو بقايا مع الإقصاء عن جميل المكان وحسن الأحوال، أعاذنا الله من شرور حاله.

ويستفاد من أبي دلامة وكلبه عظم أثر الفصاحة والبيان وقدرتهما على التغيير، ومثلها الأدب والرواية والفكاهة والإمتاع وأسباب البهجة والضحك. وليس يخفى أن في أمة الإسلام من هو أحقّ بالمال من أبي دلامة وأمثاله الذين صرفت عليهم كنوز خزائن وثروات غيرهم بها أولى وهم لها أحوج، وإن الله لسائل كلّ ذي ولاية فيما استرعاه، والسؤال عن حقوق خلق كثير أمر عسير، والنجاة منه ليست مضمونة.

أخيرًا؛ فكم جعل الله في المرويات الأدبية والتاريخية وفي الأمثال والحكم من عبر ودروس يجدر أن يُقتبس منها دون محض تسليم بها وبصحتها كي لا نظلم أطرافها، وبغير انقياد تام لها، وهي من جملة مسامرات تؤنس المجالس، وتبهج الجلاس، وتأتي بالحكمة في إطار سردية تعين على الحفظ والانتشار والتأثير. وإن الحكمة لواقفة على شرف، بادية لمن نظر، واضحة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وإنما التوفيق للإدراك والعمل من ربنا العلي الأعلى سبحانه.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف -بيشكيك -قرغيزيا

 ahmalassaf@

الجمعة 10 من شهرِ صفر عام 1443

17 من شهر سبتمبر عام 2021م

Please follow and like us:

One Comment

  1. اعجبني المقال . صدقت والله . ان التدرج يضمن المارب وتحقيق المنى .جعلنا الله من المستفيدين من هذه السياسة في الخير والتغيير والاصلاح الهادئ الناعم بطريق يجلب المنافع ويجلب المصالح . جربتها مع والدتي رحمها الله عند ما كنت احتاج لشئ طريقة ناجحة للزوجة مع زوجها لحل مشاكل اولادي المالية .وللام مع اولادها. اقولها عن تجربي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)