مواسم ومجتمع

حكايات في الحج والعمرة

حكايات في الحج والعمرة

كلما حلّ موسم الحج ازداد حنين القلوب إلى موافاة الموسم ورؤية البيت العتيق والطواف به والسعي عند الصفا والمروة، وشهود وقفة عرفة ومبيت مزدلفة -وهي أجمل ليلة- وأيام منى ورمي الجمار، ثمّ الوداع المهيب بالطواف مع بقاء تعلّق النفس والمشاعر بتلك البقاع الطاهرة المباركة، فاللهم اكتب لكلّ مريد بلوغها أن يصل إليها على خير وصلاح حال حتى لا يدرك مؤمن ولا مؤمنة فوت، وينال المسلمون مشتهى الأفئدة بالحلول في تلك الديار والبلاد المقدسة.

ولرحلة الحج والعمرة ذكريات لا تُنسى، وفيما سلف كتبت مقالتين عن تلك المواقف والذكريات، وهذه ثالثة الأختين، ذلك أن التثليث جميل في بعض المواضع، وعليه ترتكز شؤون وتهدأ شجون، وآمل ألّا تذهب التفاسير يمنة أو يسرة، فالموضوع لا يتجاوز المقالات والكتابة، وهل شيء ألذ من الخلوة مع كتاب، أو الشروع في كتابة، أو ما اتصل بهما بنسب أو سبب أو غير ذلك؟

فمما أذكره حول الحج أني كنت أكتب مختارات ثقافية متنوعة على ورقة كي يكتبها الزميل الأثير خالد بن حمزة المدني بخطه الجميل وبروحه الأجمل على سبورة غرفة اللجان الثقافية في كلية الصيدلة، وتظلّ اللوحة مقروءة متاحة للجميع خلال الأسبوع إلى أن يأتي السبت القادم -وكان هو أول أيام الدراسة والعمل- فأحضر معي ورقتي الصغيرة الجديدة، ويتولى المدني كتابتها بجمال يخطف الأبصار، وتحوي الورقة غالبًا سبع فوائد شرعية ولغوية وتاريخية وثقافية.

وذات مرة قبيل شهور الحج كتبت أن العرب تسمي الذي لا يحج “صارورة” أو” صارور” ومثله الذي لا يتزوج، والحج مع الزواج من القضايا التي أسأل عنها أيّ شاب لحثه عليهما ففيهما خير الدين والدنيا للفتى والفتاة والمجتمع. المهم أنه في مغرب ذلك اليوم اتصل بي زميل وقال بأن لدى والده قهوة مغرب كلّ سبت، وهو قد دأب على قراءة الفوائد السبتية لهم، وفي هذا اليوم انتفض بعض الحضور وفيهم من تجاوز الأربعين أو الخمسين؛ لأنهم لم يحجوا من قبل وكرهوا أن يُقال عنهم “صارور”! فقرروا الحج تلك السنة خروجًا من معرة مشابهة النطق العامي لحشرة بغيضة مكروهة، وعسى أن أكون والمدني وزميلي شركاء في أجر حجتهم الفرض.

أما في حج عام (1419) وهو أول موسم اكتمل فيه نصب الخيام المقاومة للحريق في مشعر منى عقب الحريق الكبير عام (1417)، علمًا أنها نُصبت جزئيًا بداية من موسم عام (1418)، فقد جاورنا في تلك الخيام ثلاث أسر كانوا كأنهم في بيوتهم وليسوا في عبادة الحج، ومعهم طفل صغير اسمه أديب ليس له من اسمه نصيب؛ فهو كثير البكاء والإزعاج خاصة ليلًا. ولذا فحين دخل علينا مرة يريد الكرة الواقعة في خيمتنا قلنا له: سنعطيك الكرة ومعها مشروب غازي شريطة ألّا تصرخ ولا تبكي ليلًا فوافق، ثمّ رجع إلينا يطلب مشروبًا آخر لابن خالته فأعطيناه مع تكرار أخذ العهد عليه بالسكوت، وقد التزم به.

وأذكر أنه مع بداية إزعاجهم وصعوبة نومنا بسبب أصواتهم المتداخلة حتى لا يستطيع المرء تمييز سامع من متكلم، قلت لصاحبنا الذي يدير رحلتنا: لو ترسل لهم وفدًا رفيع المستوى لعلهم أن يخفضوا أصواتهم! فسمعنا إحداهنّ تقول لمن معها بصوت مرتفع: اسكتوا! سيرسلون لكم وفدًا رفيع المستوى! فضحكنا والنتيجة أننا كُفينا بذلك ونمنا بهناء. وحين كان زميلنا يحدثنا عن الشفاعة والتوسل بنغمته الآسرة، دخل علينا أديب كالسهم وقال: جدتي تطلب منكم أن ترفعوا صوتكم وتقول: نريد أن نستفيد من الدرس! ولم يسلم الصاحب الحبيب سليمان بن موسى النجدي من تعليقاتنا آنذاك.

أيضًا من أخبار الحج أن رجلًا ناهز عمره الستين حج معي ومع أخيه وابنه فقط، وقد فرحت والدته الصالحة بحج ابنها البكر كثيرًا كثيرًا لأنه تأخر في أداء فرضه، ولي في تلك الرحلة طرائف بعضها يُروى ولا يكتب، ومن المتاح منها أن شقيق هذا الستيني كان يقود السيارة بين عرفة ومزدلفة قيادة لا تخلو من خشونة وجرأة بسبب ازدحام السيارات؛ فقال لي رفيقنا: أخي أكاديمي وطبيب وحسن المعشر؛ بيد أني في غاية العجب أن تكون طريقته في القيادة كذلك! وكان هذا الرجل إذا أطلنا الدعاء بعد رمي الجمرتين الصغرى والوسطى يقول بلغته الإنجليزية كلمة معناها: ما أكثر مشكلاتكم ولذا تسهبون في الدعاء!

كذلك من الطرائف والمواقف المرتبطة بالحج أن زميلًا صاحب أفكار إبداعية للغاية شطح مرة مقترحًا تركيب شفاطات فوق الجمرات بحيث تسحب الجمار عن بُعد وتخفف من الزحام! ومرة رجعنا إلى الرياض بالسيارة فرأينا سيارة صغيرة تتراقص وقائدها العربي يملؤه النعاس وربما النوم؛ فنبهناه لكنه غضب مدعيًا أنه في قمة التركيز! وتشاركنا الحج مع شباب وأطفال فالتقطوا كلمات يقولها أحد رفقتنا مثل “البستوك” وَ “المكصمات” وهي تعني البسكويت والمكسرات!

كما صادف أن حججت في موسم شتاء، فأخذت معي جوخًا نجفيًا أسود اللون، وهبته لي والدتي -شفاها الله وعافاها وأطال على خير عمرها- وهو قد آل إليها بعد وفاة والدتها –جدتي رحمة الله عليها– التي اشترته من أحد أسواق الأحساء عام (1388) بأكثر من ثلاثمئة ريال وهذا السعر مرتفع آنذاك. ولبست هذا الجوخ في الخيمة فوق ثوب أسود وعلى رأسي طربوش أسود، ثمّ نسيت وخرجت دون نزعه فرآني بعض الجيران، وجاء أحدهم إلى صاحبيّ الكريمين د.خالد بن عبدالله الفوزان، وخالد بن ناصر الزامل يسألانهما عن خبر “آية الله” الذي يسكن معهما!

إن المواقف في الحياة كثيرة خاصة في الأسفار، وهي فيما يخصّ الحج والعمرة تكتسب قدرًا من الأهمية والثبات دون نسيان لارتباطها بالشرف في الزمان والمكان والحال، مع الأنس بالصحبة والرفقة والمسير، فاللهم تقبل منا ومنهم، واحفظ الجميع أينما كانوا، ويسر لنا الحج والعمرة والمجاورة ولإخواننا المسلمين، واجعلها من الأعمال الصالحة المبرورة التي نقفل منها للديار والبيوت كيوم ولدتنا أمهاتنا، وليحفظ الله أمهاتنا آمين آمين آمين.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الأربعاء 19 من شهرِ ذي الحجة عام 1442

29 من شهر يوليو عام 2021م

Please follow and like us:

7 Comments

  1. اللهم لاتحرمني من حجة مبرورة او عمرة مقبولة قبل وفاتي . واكتب لي ان اموت وادفن في تراب احد حرميك امين . وارزق كل مشتاق ومتوق لاادااء الحج . واحفظ بلاد الحرمين حكاما وشعبا ومقيميها المخلصين . و امنن عليها بالامن والسلام والخير والبركة والازدهار . امين .

    1. الله ييسر لكم الحج والعمرة، ويطيل على طاعة أعماركم، ويتقبل جميع أعمالكم، ولربما يبلغ المرء بالنية مبلغ العمل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)