سياسة واقتصاد عرض كتاب

نفوذ الأتراك في الخلافة العباسية

نفوذ الأتراك في الخلافة العباسية

التاريخ حقل مهم من حقول المعرفة والعلم، وهو ركن من أركان ثقافة أيّ أمة، ومن يفهمه فقد أوتي حظًا عظيمًا، وأما من يعرفه دون فهم أو انتفاع به فستكون معرفته شاهدة عليه عند التاريخ قبل أن تصبح حجة ضده بين يدي رب العالمين. وما أحوج تاريخنا الإسلامي الطويل إلى كتابة وقراءة وتفسير يمتاز بالخلوص من شوائب السياسة والمال والتيارات الفكرية والعقدية، ويبتعد عن كذب أتباع الطوائف والفرق، ويسلم من إفك المستشرقين وتخرصاتهم، ويخلو من المبالغات في التقديس أو التدنيس، وهي مهمة جليلة وواجبة في أعناق القادرين من أهل العلم بالمنهج التاريخي رواية ودراية؛ كي تكون الأجيال عظيمة الثقة بتاريخها، دائمة الاستمداد الإيجابي منه، وترجع فيه للأمناء من أهل الدين واللسان، وتعرض عن سواهم من الدخلاء الغششة.

وبين يدي كتاب من هذا القبيل الحسن بتوفيق من الله وفضل، عنوانه: نفوذ الأتراك في الخلافة العباسية وأثره في قيام مدينة سامراء من 221-279، تأليف: عبدالعزيز محمد اللميلم، صدرت الطبعة الأولى منه عن مؤسسة الرسالة عام (1411=1991م) في جزءين، الأول يقع في (504) صفحات وبه يختتم الفصل الرابع بعد المقدمة والتمهيد والفصول الأولى، ويقع الثاني في (388) صفحة، وفيه ثلاثة فصول وخاتمة فملاحق بخرائط وصور ومسكوكات، ثمّ قائمة بالمصادر والمراجع بلغت على اختلاف أنواعها قريبًا من مئتين.

يبحث الفصل الأول موقف العرب والفرس من قيام الدولة العباسية عبر (101) صفحة، وهذا الفصل مهم لإسناد التحليل الوجيه الذي ذهب إليه المؤلف مفسرًا سبب اعتماد المعتصم على العنصر التركي، ثمّ يدرس الفصل الثاني في (60) صفحة موضوع الأتراك منذ الفتح الإسلامي إلى خلافة المعتصم، وفيه تعريف بالأمة التركية وقبائلها ومواطنها وخصائصها، وتاريخ الفتح الإسلامي لبلادهم وما أعقبه من اتصال الأتراك بدولة الإسلام في عهد بني أمية ثمّ في عهد بني العباس، وجزء من هذا الاتصال يقع في صلب هذه الدراسة المتينة الماتعة.

ولذا فمن الطبيعي تخصيص الفصل الثالث للحديث عن المعتصم والأتراك خلال (134) صفحة عانى فيها المؤلف من إطلاقات عامة رسخت في الثقافة الشعبية وفي كثير من الكتب والمناهج العلمية لتفسير ميل المعتصم للأتراك، وللحكم على الحقبة التركية ورجالاتها وآثارها، ولأجل هذا أسهب الباحث في عرضه لرأيه، ومن المؤكد أنه قرأ أضعافًا مضاعفة من الكتب والوثائق والمخطوطات حتى أنجز هذا الفصل الرئيس في هذه الدراسة التي حصل بموجبها د.اللميلم على درجة الدكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام (1400)، وخلاصة ما ذهب إليه أن قرار المعتصم الاستعانة بالعنصر التركي ليس تعصبًا لخؤولته الأتراك، ولا حبًا في الطبيعة العسكرية لهم لأنه رجل حرب وقوة وهم وافقوا ميوله وهواه، وإنما باعثه الأول دهاء سياسي من المعتصم لتنجو الدولة من العرب والفرس الذين ناكفوا دولة بني العباس وثاروا عليها مرارًا، وعقب ذلك أنصف الأتراك مبينًا حسناتهم والمآخذ عليهم.

ثمّ أتى الفصل الرابع في (148) صفحة عن الأتراك في عهدي الواثق والمتوكل، وهو أطول فصول الكتاب، وشمل البحث هنا النفوذ التركي وما تداخل معه من موضوعات أخرى مثل اغتيال المتوكل، وتعامل الخلفاء مع كبار القادة الأتراك ورجال الدولة بالسجن أو مصادرة الأموال. ولم يفت على فطنة المؤلف استقصاء موضوع فتنة خلق القرآن التي يجزم -وهو جزم وجيه- بأنها مسألة ذات غايات سياسية ومطامح شخصية أُلبست عباءة دينية لينشغل الناس بها زمنًا ويتطاحنون حولها، وهي كذلك حتى لو قُتل لأجلها القاضي أحمد بن نصر الخزاعي، وسجن وعذب من جرائها الإمام الكبير أحمد بن حنبل.

أما الفصل الخامس وهو أول فصول الجزء الثاني فكان عن تفاقم النفوذ التركي من المنتصر إلى المهتدي وجاء في (95) صفحة تظهر غلو الأتراك في البحث عن سيادة تتجاوز الشؤون الحربية إلى إدارة الحكم واختيار الخليفة، وقاد هذا الأمر إلى جعل موضوع الفصل السادس في (82) صفحة عن انحسار النفوذ التركي في عهد المعتمد وأخيه الموفق الذي استطاع إخماد ثورة الزنج التي عجز عنها القادة الأتراك خلال أربعة عشر عامًا وهم الذين أخمدوا في عهد المعتصم جميع الثورات التي كان أكثرها مشتعلًا في عهد أخيه السابق عليه مباشرة الخليفة المأمون، ونتيجة لظهور ضعف الأتراك انحسر نفوذهم في هذا العهد حتى كاد أن يصير أثرًا بعد عين لولا حوادث لا تقع في نطاق الدراسة أشار إليها المؤلف عرضًا لمن شاء المتابعة.

وانفرد الفصل السابع بالحديث عن سامراء ومظاهر الحضارة فيها عبر (119) صفحة، وهدف المؤلف إلى تجلية حقيقة تاريخية تنتصر لهذه المدينة الباذخة في الحضارة والعمران والعلم وبيان عراقتها لا كما يشاع خاصة عندما تقارن بمدينة بغداد عاصمة المنصور والرشيد ذات التاريخ الحضاري الكبير. ولأجل هذه الغاية العلمية سافر الباحث إلى العراق وسامراء، والتقط مجموعة من الصور، وزار المتاحف والمكتبات، واطلع على عدد من المخطوطات بعضها لم يطبع حينذاك، وليت بعض الدارسين أن ينشط لإخراجها بمنهج علمي غير تجاري. وأبان الباحث في موقف اعتباري مهيب عن اجتماع الفزع والعظة من المصير المؤلم لمدينة مثل سامراء حين آلت إلى خرائب موحشة مقفرة، وأتصور أن هذا الفصل المعتنى به يمكن استلاله في كتاب خاص عن سامراء لو وفقت لذلك جامعة عراقية بعد التنسيق مع المؤلف د.عبدالعزيز اللميلم.

كما يبزغ في هذا الكتاب انتصار حقيقي لثقافتنا الإسلامية والعربية، ولتاريخنا الجميل الناصع في أكثره، وهو موقف يستند على الرواية والدليل والبحث المتأني، وفيه دفاع عن الدولة الأموية ضد مزاعم الشعوبية والموالي، واستنقاذ للدولة العباسية من براثن دعاوى الاستئثار الفارسي والتركي والديلمي الشائعة تاريخيًا دون تفصيل محقق. وكذلك أجاد الباحث في العودة إلى أصل فكرة قيام دولة على أنقاض دولة بني أمية حسبما انتهى إليه مؤتمر مكة المغفول عنه في دراسات كثيرة، وأيضًا أفاد د.اللميلم من أحكام السياسة الشرعية، وفهم دوافع النفس البشرية، وإدراك طبائع الدول والشعوب والحضارات، وظهر ذلك في التحليل والوصول إلى آراء يطمئن إليها بعد الفحص التاريخي العميق والنظر الفكري المستبصر، ولم يغلق الكاتب الباب بعده بل جعله مفتوحًا على مصراعيه لأيّ باحث صادق أمين مجتهد.

 إننا بحاجة إلى مثل هذه الدراسات العلمية الخالصة من أيّ غرض، لأن الأحوال تتقلّب، والآراء تتغير، ويغدو الحبب بغيضًا والعكس، بيد أن الحقيقة التاريخية مهما حاول الناس حجبها أو تزويرها فستبقى بنفسها أو بما يشير إليها من آثار العلم بدلالة صريحة أو ظنية، وبرأي يتناقل ويُروى أو بتحليل منطقي. ومن الخير للحاضر، والمستقبل، أن تكون جميع الدراسات نزيهة للغاية، علمية لأقصى درجة، حتى لو كانت بعض أجزائها لا تروق لوضع أو لا تتناسب مع زمان، ذلك أن الحكمة مطلوبة ممن كانت، وعمّن أتت، وكيفما توجهت، وأيّ عاقل بصير لا يرفض الحكم والفوائد والعبر، ويقتبس منها ما يفيده في شأنه كله.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الخميس 12 من شهرِ ذي الحجة عام 1442

22 من شهر يوليو عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)