الشَّيخ محمد السّبيعي والرَّحيل الفخم!
في يوم الجمعة السادس والعشرين من شهر ذي القعدة عام (1438)، توفي الشيخ محمد بن إبراهيم السبيعي (1333-1438) عن عمر تجاوز المئة ببضعة أعوام، بعد حياة عامرة بالمكارم، مليئة بالفضائل، محاطة بالغنى، مزدانة بالجاه العريض، وإن كانت بداياتها متشابكة مع الفقر، واليتم، وشظف العيش، وكثرة التنقل بحثاً عما يبقي على الحياء والحياة، فاللهم اجعل وفاته في هذا اليوم من حسن الخاتمة له؛ خاصة مع تداول خبر الوفاة في ساعة الاستجابة.
وحين توفي الشيخ السبيعي، كان له في كل خير سهم، وفي كل بلد أثر، ولو مررت بأكثر بقاع بلادنا الطاهرة، وسألت جلّ الأعمال الخيرية: الاجتماعية، والطبية، والتعليمية، والتطويرية، والدعوية، والإغاثية، لبرز لك اسم محمد بن إبراهيم السبيعي مع شقيقه عبدالله، فعليهما يصدق قول سيدنا -صلى الله عليه وسلم-: “نعم المال الصالح للعبد الصالح”، فاللهم تقبل العطاء، وضاعف الجزاء، وبارك فيما بقي، واجعل الشيخ ممن يُقال له: ربح البيع أبا إبراهيم.
وقد كان الشيخ الثري إماماً في العمل، والصبر، والتوكل، والاجتهاد، والتربية، والبر، والإنفاق، وصرم سني عمره بما يجعله مثالاً سابقاً، ونموذجاً سامقاً، للمروءة، والإنجاز، وطهارة السيرة، ونقاء السريرة كما نحسبه. وأيّ لسان صدق في الآخرين، وإمامة خير في الباقين، يحوزها من سبق غيره لميادين الجود، حتى شيَّد صرحاً يشار إليه بالبنان، ويسعى الأثرياء، والخيرة من الناس، إلى الاقتباس منه، والاقتداء به.
أيضًا للشيخ علاقات وثيقة جداً بأسرته، وجيرانه، وأصدقائه، وبعدد كبير من التجار، والعلماء، والأمراء، والملوك، ويكفي لمعرفة ذلك قراءة سيرته المختصرة التي أعدتها كريمته هدى، التي آمل تطويرها وتوسيعها لتكون معلَمَة عن حياة راحلنا الشهم، أو النظر في ديوان شعره بعنوان: تاجر وشاعر، والأدب مع المال قلما يجتمعان، حتى قالت العرب لمن افتقر: أدركته حرفة الأدب! وفي شعره عاطفة صادقة تجاه أسرته وبلاده وصحبه، وفيها طُرف كما في فروة السبيعي المبتلة في فجريات الشتاء الجميلة!
يمتاز الشيخ بهضم النفس، والتواضع، ونسبة إحسانه للغير، فحين افتتح وقفاً قرآنياً ضخماً باسم والدته نورة العماش رحمهما الله، كان يخاطب العاملين وكأن الفضل لهم وليس له. وإذا صدر تبرع مالي بشيك طلب أن يوقّع عليه عسى أن يكون شريكاً في الأجر مع أن المال ماله! ويتحفظ كثيراً على صرف الأموال على التقارير وفي الترتيبات الإدارية، بيد أنه أجود ما يكون إذا ما نادى داعي الخير والإنفاق، وأما الدعاية لنفسه فيمقتها جداً.
كذلك من أعظم سماته، علاقته الخاصة بشقيقه الشيخ عبدالله، ومقدار التطاوع بينهما، والثقة، والحب، وهي قصة جديرة بأن تدَّرس في زمن العقوق. ومنها وفاؤه الكبير لعمه ناصر؛ حتى أنه كان مستعداً لصرف الأموال الطائلة كي لا ينطمس اسم عمه الذي استنكر على ابن أخيه في طفولته، الانشغال برقم من أربع خانات، ولم يعلم العم ناصر، بأنَّ الطفل محمداً سيوقف له رقماً من تسع خانات!
كما يستبين من سيرته حبه لزوجه الراحلة والباقية، وعاطفته الفياضة تجاه أولاده وبناته، ونبله مع أصدقائه الذين كانوا معه في بداياته العملية على وجه الخصوص، ومن قرأ وصيته تيقن أنه أمام رجل تجري المروءة في دمه، ويختلط النبل مع أمشاجه، وأن الوفاء يلتصق به حتى لا يفارق أحدهما الآخر، ولن يستطيع قارئ الوصية منع عينيه عن سواجم الدمع وسواخنه، ولا غرو فالشيخ يحسن اختيار الأصدقاء والرجال، وهم أهل لمعروفه وصلته وكرمه.
ومع أن سنَّه كانت مرتفعة، إلا أنه كان حريصاً على الذهاب لمقرات عمله يوميًا، وأداء الصلاة مع الموظفين، ورفع الآذان والإقامة لصلاة الظهر، وحثّ العاملين على المبادرة للفرض وترك العمل، وفي صوته جمال الأداء النجدي القديم، وروحانية المشتاق للقاء ربه، فاللهم ضاعف حسناته، وتقبل إحسانه.
وفي حياته؛ كان المشي للمسجد البعيد رياضة لديه وعبادة، ومن قوة حافظته أنه يصحح أشعاره لأبنائه وهم يقرؤونها عليه، وتسعد نفسه بأسمار الأدباء والشعراء. وفي شراكاته التجارية عجب عاجب، فالشيخ سليمان الراجحي يمارس الصيرفة، وينافس السبيعي في التجارة، ويتخذ من منزل السبيعي بيتاً له، ومن دكانه مقراً له! ومن النوادر البهية أنه اختلف مرة واحدة مع شريكه العصامي الكبير الشيخ سليمان الغنيم رحمه الله، وكان خلافهما على ثلاثين ألفاً، وهو مبلغ كبير في حينها، وأغرب ما في هذا الاختلاف، أن كل واحد منهما؛ يقول لصاحبه: هي لك!
ولا نملك مع حلول ساعة الجمعة، وقرب وقت الصلاة عليه مغرب هذا اليوم، إلّا أن ندعو للشيخ بالرحمة والقبول، والتثبيت على القول الثابت، وأن تكون ليلته سعيدة أنيسة. ونضرع لربنا أن ينير مرقده، ويبرد ضريحه، ويجري ثوابه، ويحسن عزاء شقيقه، وزوجه الوفية، وأنجاله الأماجد: إبراهيم، وناصر، وعبد العزيز، وأخواتهم الكريمات، وأحفاده وأسباطه، وكلّ من اتصل بهذا الرجل النادر بنسب، أو سبب، أو عمل.
ثمّ إنه حقيق بكلّ ذي ثروة ألا ينتظر الخير من غيره، فمهما كان برّ بنيه، فالأفضل له أن يوقِف ويتصدق، ويرى ثمار ماله، وبركات وقفه، ويتخذ من الشيخ السبيعي قدوة وإماماً، فمع اشتهار بنيه بالبر، وحب الخير، والهبَّة للإنفاق، إلّا أنه قدم وقفه في حياته، كي يعظم أجره، فهو الذي وقف المال على شدة حب الإنسان للمال، وكم من ثري ركن إلى ورثته، فما أنصفوه ولا أكرموه. فيا أصحاب الأموال، قدموا لآخرتكم، فهي الباقية، واحذروا إحالة الأمر لمن بعدكم؛ فالمال فتنة قلّما ينجو من حبالها أحد.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الجمعة 26 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1438
18 من شهر أغسطس عام 2017م
5 Comments
هدى بنت محمد السبيعي
مقالات رحيل والدي محمد السبيعي…شكر وعتاب..!كان لرحيل والدي محمد إبراهيم السبيعي، رحمه الله، الأسبوع الماضي أثره البالغ في نفسي ونفوس محبيه، الذين التقط البعض منهم أقلامهم، معبِّرين شعرًا ونثرًا عن مشاعرهم الصادقة تجاهه، مستعرضين شيئًا من مواقفه الخيرة؛ وسيرته العطرة؛ وكفاحه الممتد لقرابة العشرة عقود من الزمن. وكم كان لهذه المقالات والقصائد من أثر كبير في المجتمع؛ إذ سارت بها الركبان وتناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي وبسببها؛ انهالت الدعوات بالمغفرة والرحمات على الفقيد الغالي، رحمه الله، فلأصحابها مني ومن إخواني خالص الشكر والتقدير. وقد كان من أبرز هذه المقالات، وأكثرها انتشارًا مقالة الكاتب الأستاذ/ أحمد العساف، المعنونة بــ (الشيخ السبيعي والرحيل الفخم)، والتي تناول فيها الكاتب مشكورًا شيئًا من مسيرة الوالد الحافلة بالعمل الخيري، كما أوضح فيها، جزاه الله خيرًا، عاداته الاجتماعية، وعرض للقارئ تفاصيل يومياته، مبيِّنــًا حُسن علاقته بأخيه وأقاربه وجيرانه والعاملين معه… إلى آخر ما تضمَّنته المقالة من دعوات صادقة لوالدي بالرحمة، ومن حثٍ لرجال الأعمال واليسر على الاقتداء به. غير أن الكاتب الذي كتب مقاله يوم الوفاة والدفن اختار لمقاله عنواناً غير ملائم للحدث -من وجهة نظري- وغير متسق، في الوقت نفسه، مع شخصية الفقيد، رحمه الله.. التي كانت تتسم بالبساطة والتواضع في شأنه كله، وهو الذي كان يفخر دومًا برواية بداياته البسيطة بشغف.. إذ نظم عن نفسه يومًا بيت شعر غدا ملخصاً لحياته كلها، إذ قال رحمه الله :ما ورثت ولا درست ولست غنياً .. بل بفضله وامتنانه هو هداني!كما أن وصف الرحيل عن الدنيا واستقبال الآخرة بـ ( الفخامة) هو وصف فيه شيء من التعالي والعُجب الذي لا يليق بوقار الموت، وحال المؤمن الخائف المُقبل على ربه، رغبةً في عفوه، ومتطلعًا لرحماته؛ وخوفًا من عذابه. ولئن كان للعنوان وجه تأويل آخر؛ فربما يكون كاتبها قد قصد أن توديع محبيه له كان توديعًا فخمًا من حيث كثافة المصلين وتعدد الشرائح الاجتماعية المشاركة، وتواجد جميع طبقات المجتمع، غير أني أتطلع من الكاتب إلى مراجعة العنوان وتغييره إلى عنوان أكثر ملاءمة لمضمون المقالة، الذي كان مضمونًا، يستحق التداول الواسع في وسائل التواصل من باب القدوة. ومن جهة أخرى أطلقت الجمعيات والمؤسسات الخيرية في المملكة، العنان لتغريداتها وحساباتها على شبكات التواصل للحديث عن الجانب الخيري لحياة الوالد الراحل، ومن ضمنها (مؤسسة محمد وعبدالله إبراهيم السبيعي الخيرية)، واستخدمت في هذه التغريدات والمقالات والرسائل ألقاب لم يكن الفقيد يستسيغها، ولا يقبلها أبناؤه، فعمل الخير بصمت كان سمة من سماته الشخصية، وعتبنا عليهم أكبر لأنهم يعرفون هذه الخصلة فيه. آملين من الجميع الامتناع عن هذا الغلو، الذي قد يؤذي ممدوحه، ويذهب عنه الأجر المنشود، وآمل تعديل وإصلاح ما أمكن على هذه المواقع. وختامًا..؛ أكرر شكري باسمي وباسم إخواني وأخواتي لكل من كتب وعبَّر عن مشاعره تجاه الفقيد، وأدعوا الجميع للاطلاع على كتابه (محمد إبراهيم السبيعي.. رحلة الفقر والغنى)، ليجدوا فيه معلومات موثقة عن الراحل، رحمه الله، وتتبعًا تاريخيًا دقيقًا لنشأته ومسيرته الاجتماعية والعملية والاقتصادية. رحم الله والدي محمد البراهيم السبيعي، ورفع درجاته في عليين وجزاه عنَّا خير ما جزى والد عن ولده وجزاه عن أحبابه ومحبيه خير الجزاء.