سير وأعلام شريعة وقانون

الشيخ عبدالرحمن العجلان: علم وزهد وجوار

الشيخ عبدالرحمن العجلان: علم وزهد وجوار

خبرٌ ما نابنا عقب فجر اليوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان عام (1442) فأودى بالرّقاد مع توافر دواعيه الكثيرة، فاللهم ارحم عبدك الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله العجلان (1357-1442)، الذي وفد إليك في يوم جمعة عسى أن يكون علامة له على حسن الختام، وقضى نحبه في أيام فاضلة من شهر رمضان وهو شهر مغفرة تفتح فيه أبواب الجنة وتغلّق غيرها، وعسى أن تستقبل روحه جنانُ عدن بنعيمها من أبوابها الثمانية، والله يعظم أجره ويضاعفه بكثرة المصلين والمستغفرين له عقب صلاة الجمعة بالحرم الأقدس والمسجد الأعظم.

ولد سماحة العم الشيخ عبدالرحمن في عيون الجواء بالقصيم، وتلقى أول علومه في كتاتيبها على إمام جامعها الشيخ عبدالله بن سايح، ولحرص والده على تعليمه انتقل به إلى بريدة ليلتحق بالمدارس الرسمية، وكم يجني الآباء والمعلمون والمربون من ثمار أبنائهم وطلابهم الذين يبارك الله في همتهم؛ فتتغازر علومهم، وتتكاثر منافعهم، وهذا ملمح جليٌّ في مسيرة أعلام التاريخ الذين تخرجوا في كتاتيب وحلقٍ ومدارس وجامعات، وسيبقى التعليم دومًا مأرزًا لطلّاب النجاة والثبات والتفوق، وسبيل الحضارات للبقاء والارتقاء.

ثمّ واصل الشيخ الشغوف بالعلم الدراسة وطلب العلم في المعاهد الأوليّة والكليات والمعاهد العليا التي بادر إليها بمجرد افتتاحها عام (1386)، ولم يقف عند هذا الحدّ، بل سلك دروبًا عديدة في طلب العلم بثني الركب في حلق علماء كبار مثل ابن حميد وابن باز والشنقيطي والخريصي وعفيفي والسبّيل وغيرهم. وبقي له في قلبه توقيرهم وتعظيمهم حتى بعد وفاتهم، ومن ذلك رفضه الجلوس على كرسي ابن عثيمين في الحرم المكي خلفًا له بعد مماته في شوال سنة (1421).

وإن ارتباط الشيخ بالعلماء في جميع مراحل عمره وبطلبة العلم صغارهم وكبارهم ليؤكد بأننا سنظلّ أمة التلّقي والمشافهة والرواية حتى مع وجود الكتب بأنواعها، وتيسر سبل تحصيل المعرفة عبر وسائط وقنوات وأجهزة؛ ذلك أن سمت العلماء وأدبهم وحكمتهم لا تُكتسب بغير المصاحبة والمعايشة، والفهم العميق لا يُنال دون مباحثة ومحاورة، وحفظ الديانة واجب يتعاقب عليه من كل جيل العدول الذين اجتباهم الله لتلك المهمة الجسيمة.

وكان للشيخ مكتبة كبيرة يجد فيها أنسه وخلوته المثمرة، فيطالع الكتب ويراجعها. ومع ضخامة الأعمال الرسمية والتطوعية التي حملها على عاتقه، إلّا أنه واظب على مسيرته العلمية متعلّمًا ثمّ معلّمًا، وشهدت له جنبات المسجد الحرام بالدروس المتينة المحكمة خلال أيام الأسبوع السبعة، ولم يمنعه العائق الصحي الأخير عن نشر العلم، فجاء لدروسه على كرسي متحرك بروح وثابة نحو العلم والعطاء. وحينما أصابت العالم جائحة كورونا لم يركن إلى سنّه وبعده عن التقنية، بل استمر بالتدريس عن بُعد؛ ولكأنه يردد مقولة عظماء مجدنا العلمي بأننا قوم مع المحبرة إلى المقبرة. وشملت قوائم الأماكن التي درّس فيها الحرمين الشريفين، وجامعتين في الرياض ومكة، وعدة كليات، ومعاهد، ومدارس، بل إنه أول معلّم رسمي في ثرمداء حسبما قرأت.

أما منهج شيخنا في العلم فيقوم على ركائز أساسية، منها العلم قبل العمل والتعليم، وبذل الجهد الذاتي في التحصيل، ثمّ نشر العلوم التي فتح الله بها عليه. ولم يأنف من تدريس كتب ألفها أشياخ من طبقة طلابه، وتلك لعمر الله خلّة قلّما توجد بين أصحاب المجال الواحد من المتعاصرين، فالاشتراك في التخصص حجاب، وكذا المعاصرة حجاب أغلظ إلّا عند من تسامى وأخلص فيما نحسب. واستثمر الشيخ أيّ لحظة ووسيلة لبثّ العلم حتى في يوم العيد، وفي الجلسات الخاصة، وأنعم وأكرم بمثل هذا الشغف.

ومن أظهر خصائص الشيخ العلمية أنه صان العلم عن غروره وزغله وطبولياته ومفاتن الشهرة فيه، وجعله في حرز أمين عن الابتذال والعرض في السوق حسب هوى المشتري أو القادر، فغدا حجة على غيره بمنهجه المزْوَّر عن تضييع العلم والاستهانة به، وأصبح قدوة في تنوع علومه، واتساع رقعة خريطة طلابه المواظبين على الحضور في دروسه، أو المتابعين لها عبر الوسائط والوسائل التقنية والإعلامية، مع أنه زهد في جميع المواقع الوظيفية؛ لأن العلم يبين عن أهله دون حاجة لإعلان أو هالة من الألقاب والمناصب، وصدق الإمام الغزالي حين قال بان الأرض لاتخلو من قائم لله بحجّة.

فما أعظم الإرث الذي تركه الشيخ القاضي العالم، وهو إرث متصل دون انقطاع بالنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، وبالرعيل الأول من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم. وصار له هذا الميراث -بإذن الله- من العمل الباقي عقب رحيله عن الدنيا، فالشيخ متبحر في علوم شرعية كثيرة تفصح عنها دروسه المتنوعة في الفقه، والتفسير، والعقيدة، والسيرة، والفرائض، مع حضور طلبة العلم والعامة الكثيف لها، وتوافرها عبر عدّة منصات حديثة وقديمة، وإنما القبول من الله يهبه لعباده المخلصين الصادقين، وتبدو محبتهم للعيان حتى وإن غابوا عن العيون.

كما عمل الشيخ بالقضاء في مكة عام (1405)، وفي القصيم رئيسًا لمحاكمها (1410-1420)، وافتتح قبل ذلك محكمة شرعية في الفجيرة عام (1389) بتكليف من الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ثمّ افتتح محكمة أخرى في عجمان عام (1393) بتوجيه من الملك فيصل، وناهيك برجل يصطفيه للقضاء رجلا دولة مثلهما. ومما لاحظه الشيخ العجلان حبّ الناس للحكم الشرعي والقضاء المنبثق عن نصوص الوحيين الشريفين، وحصول الرضا منهم مع التسليم، وهذا ديدن عباد الله مسلمهم ومؤمنهم ومحسنهم، فلا ينفر من حكم الله غير منافق أو كافر أو ملحد. وللشيخ نصائح ثمينة للقضاة لأن عملهم ولاية وليس وظيفة، يأتي على رأسها التزود من العلم، وتسريع الإجراءات، والتعاون على البر والتقوى، وغيرها ضمن جملة من درر النصائح المنشورة في حوار أجرته معه مجلة وزارة العدل.

ويبرز في سيرة الشيخ شغفه الكبير بمكة وجوار بيتها الحرام والتدريس فيه، ويتضح ذلك من حرصه على العودة من الإمارات إلى مكة، ثمّ بعد أن أمضى عشر سنوات في القصيم ألح طالبًا الاستعفاء مع تكرار رفض الملك فهد لذلك ضنًّا بمثله أن تفقده ساحات القضاء والعدل. ولم يدركه اليأس فاستشفع بالأمير سلطان مرتين حتى استطاع إقناع الملك فهد بقبول استقالته، ويالها من فرحة ملأت قلبه حينما تهيأت له الفرصة كي يعود إلى مكة التي سكنت فؤاده كما سكن قلبه في أرجائها الطاهرة، ولأجل ذلك أبقى مسكنه في أرضها المباركة ثقة برجوعه إليها، وقد كان، ثمّ حرص ألّا يبرحها رجاء أن تُقبض روحه فيها، وهو الذي حدث.

أيضًا اشتهر الشيخ بنشاط تطوعي، ومشاركة بنفسه وجاهه وماله في العمل الخيري سواء ما يخصّ الأوقاف، أو تحفيظ القرآن الكريم، أو العون على الزواج وتيسيره، أو في جمعيات البر، وضمن مجالس الإفتاء، حتى ليصدق عليه وصف الرجل المبارك المضيء حيثما وقع نفع. ولا عجب بعد ذلك أن تحزن عليه مؤسسات خيرية في مكة وعيون الجواء وبريدة وغيرها، ولا غرابة أن يروي المطلعون أنه صرف الملايين على الجمعيات الخيرية من جراء أرباح تجارية خالصة له، ولم يحتفظ بريال منها لنفسه.

وفي العبادة للشيخ باع يعرفه القريبون منه لحرصه على الاستخفاء، فمنها صيامه يومًا وإفطاره يومًا دون انقطاع، ومواظبته على قيام الليل والحج، وحرصه على دفع الصدقات للفقراء داخل الحرم الشريف، وختماته القرآنية المتوالية، وتواضعه لجيرانه وأهل مسجده التي شهد عليها جيرانه في الإمارات حينما كان قاضيهم ورئيس محكمتهم الشرعية، وهجره للغيبة والخوض في الأعراض، ولذلك حرص على حضور الصلاة عليه ودفنه جلّ أئمة الحرم وعلمائه وطلابه.

كذلك نهض الشيخ بخدمة ذوي الحاجات من الفقراء خاصة من طلبة العلم الذين تفرغوا له، ومما يُروى أنّ أيّ مالٍ يصل إليه يصرفه مباشرة على الفقراء وفي ميادين الإحسان، مع أن بعض الأموال المرسلة له تتخذ الصفة الشخصية، بيد أن زهده وورعه غلبا الطبيعة البشرية المحبة للمال فانفقه رجاء ما عند الله وتحرّزًا عن الدنيا وأوضارها. وإذ تسلّم مكافآت التدريس في الحرم وزعها على طلبته الفقراء والمحتاجين، ولا غرو أن يشعر طلبته بأبوته وحنانه لفرط عنايته بشؤونهم. ومن هذا الباب ما لاحظه بعض زملائه في الإمارات أنه يداوم حتى في أيام الإجازات، ولا ينشد لها بدلًا، وإنما يفعل ذلك حتى لا يتأخر عمل، ولتكون كفارة له واحتياطًا عن أيّ حضور متأخر أو انصراف مبكر إن حدث ذلك من مثله وهو الجاد المنضبط.

واليوم، عقب صلاة الجمعة، سيدخل سماحة الشيخ عبدالرحمن العبدالله العجلان إلى الحرم المكي ليس ماشيًا ولا على كرسي كما كان يفعل خلال ثلاثين عامًا، وسيأتي لا ليلقي درسه، ويبتهج باجتماع أهل العلم وسؤالات الطلاب بين يديه، وإنما سيكون محمولًا على الأكتاف، مدرجًا في كفن على نعش، ومقدّمًا بين يدي الإمام ليصلي عليه صلاة الجنازة، ثمّ يدفن في قبره الذي شاء الله أن يكون في البلد الحرام الذي أحبه، وتطلّعت له نفسه وأنفاسه وأشواقه، فاللهم أكرم وفادته، وأحسن نزله، وثبته بالقول الثابت، وافتح له بابًا إلى الجنة يجد منه السرور والرّوح والنور حتى يلقاك، واجعل عمله مستمرًا غير منقطع بذريته الصالحة الميمونة التي تدعو له، وبصدقاته، وبعلمه الذي نشره قدر استطاعته.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الجمعة 25 من شهرِ رمضان عام 1442

07 من شهر مايو عام 2021م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. رحم الله الشيخ عبد الرحمن العجلان برحمته الواسعة واسكنه جنة الفردوس الاعلى والهم اهله الصبر والسلوان . سيرة عطرة كثر الله من امثاله .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)