رسيس الهوى وبقية تراث فخم
هذا كتاب دفع إليه الحب، وأخلق بالحب أن يكون دافعًا ومانعًا، وقد كان هذه المرة موجبًا لعمل يجمع الحب مع العلم والنبل والأدب، وعنوان الكتاب: رسيس الهوى: بقيّة تراث شيخ العربية محمود محمد شاكر، للدكتور عبدالرحمن بن حسن قائد، صدرت طبعته الأولى عام (1442=2021م) عن آفاق المعرفة، ويقع في (349) صفحة. ويبدأ هذا الرسيس بفاتحة من ثلاث وعشرين صفحة، يتلوها عدّة أقسام جمعت أعمالًا للعلامة أبي فهر محمود محمد شاكر (1327-1418=1909=1997م) لم تنشر من قبل في كتاب من الكتب التي جمعت جمهرة مقالاته، أو فهرست أعماله، أو نقلت بعضها، ومجموعها سبعة وثلاثون عملًا بما فيها من متين العلم، وجميل الخبر.
في الفاتحة استند د.عبدالرحمن إلى بيت قاله ذو الرمة في ميّة التي لم يبرح من حبها رسيس الهوى، وذكر الدكتور أن البين صدع شمل المحبين، ومع ذلك فنأي أبي فهر والاشتغال بغيره لا يذهبان بما له في القلب من قديم الوداد وهوى لا يبلى. وشرع بعد ذلك يعرف بأقسام الكتاب او أبوابه، وهو تعريف يغري القارئ بألّا يدع هذا الكتاب الشاكري دون قراءة، وسبحان من جعل سيرة أبي فهر حيّة حتى بعد عقود من رحيله.
أول قسم فيه ثمان مقدمات، منها الطويل المبسوط ومنها القصير المقتصد، وأشهرها مقدمته لكتاب الظاهرة القرآنية لصديقه مالك بن نبي، ومقدمته الطويلة لشرح الأشموني على ألفية ابن مالك بتحقيق صديقه محمد محي الدين عبدالحميد، واللافت أنه كتبها من تلقاء نفسه عام (1933م) وعمره أربع وعشرون سنة فقط، ومن أعلاها أسلوبًا مقدمته لكتاب حياة الرافعي للعريان وأضاف لها مقدمة مغمورة لرسالة الصلاة للإمام أحمد، وهذ الرسالة ومقدمتها مما غاب عن القوائم الخاصة بأعمال محمود شاكر. ومن الملاحظ أن مقدماته قليلة قياسًا إلى عمره الطويل، وعمقه العلمي واللغوي، وربما أنه لا يحفل لها، أو قد هابه المؤلفون.
ثمّ يأتي قسم المقالات وفيه أحد عشر مقالة غير منشورة في جمهرة المقالات المطبوعة في جزءين بجهد كبير من تلميذه الوفي د.عادل سليمان جمال، وبعض مقالات هذا القسم من أقدم ما وصل إلينا من مقالاته التي نشرها ولما يبلغ العشرين من عمره، وهي مبينة عن أسلوبه، كاشفة لحماسته للإسلام وغيرته على دينه، وقد نوّه صاحب الرسيس عن مقالة فاخرة ضمن هذا القسم في التأصيل لعلم التاريخ.
كما أشار د.قائد إلى غلبة الظن بانتساب مقالات لمحمود شاكر سواء من بريق أسلوبها، أو من طريقته في توقيعها، أو الإحالة عليها من قبل أبي فهر، بيد أن ذلك ظنٌّ لم يصل لمرحلة اليقين الجازم، فلم يضفها للمقالات مع أهميتها، وقد أحسن من انتهى إلى ما علم. وليت أن د.عبدالرحمن لم يحذف مقالة التحقيقات اللغوية بعد أن نبهه آخرون إلى ورودها في الطبعة الثالثة من جمهرة المقالات؛ لسببين أولهما: أن الرسيس فيه مقدمتان منشورتان في الجمهرة كما ذكر، والثاني: خدمة لمن ليس لديه إلّا طبعة الجمهرة الأولى.
أما ثالث الأقسام فيحوي نصوصه الأدبية التي أفرغها في القالب العربي كما يكتب أبو فهر في عبارته الطريفة التي يثبتها في توقيعه على هذه المقالات، وتعدادها ثلاثة نصوص لأدباء عالميين كبار، ويُحمد للباحث الكريم من محامده الجمّة أن بعثها من مرقدها بعد أن ظلّت حبيسة في مجلة المقتطف قريبًا من تسعة عقود، وافتتح شاكر النص الأول بآية قرآنية تحرجًا مما قد يوهمه النص المنقول من علم غير الله بالغيب.
ومن مواد هذه المجموعة النفيسة ملخصات تنشر لأول مرة كتبها محمود شاكر من بعض محاضرات أستاذه المستشرق الإيطالي كارلو نلينو التي ألقاها بكلية الآداب بالجامعة المصرية سنة (1927م) عن تاريخ اليمن قبل الإسلام، وهي محاضرات محررة غزيرة الفائدة. وينفرد رسيس الهوى من ضمن فرائده بحوار صحفي لمحمود شاكر لم يسبق نشره من قبل في كتاب، وأجرته معه مجلة الفيصل في شوال (1399) الذي يوافقه سبتمبر (1979م).
وهو خامس حوار ينشر للناس من حوارات الأستاذ الكبير محمود شاكر، وسبق تشر الأربعة في كتاب ظل النديم للأديب الأستاذ وجدان العلي، وأهمها الحوار مع إذاعة الكويت في عيد الأضحى سنة (1390=1971م) وهو حوار نشر في مصدرين باختصار وتصرف كثير، بينما جاء به صاحب ظل النديم بحروفه تامًا غير منقوص، وتلك محمدة له على أهل العربية، وأداء حق للراحل العلم.
كما يزدان الرسيس برسائل شاكرية دافئة وخاصة بعثها لشيوخه وإخوانه، وتظهر فيها شخصيته على سجيتها بدعابتها ومشاعرها ومواقفها، وأخشى أنّ هذا الفن يندثر بسطوة الواتساب وإخوانه. وتطوف الرسائل في بلدان المسلمين من المغرب إلى الهند، وتعبر بالأردن وسورية، حتى يستقر بها المقام في خاتمتها بالحجاز عند وجيهها الشيخ محمد حسين نصيف.
ومن فوائد هذه الرسائل موقفه من تغيير كلام المؤلفين، وهو موقف رافض صارم مهما كان النص المراد تغييره وحذفه، ومنها ثناؤه على الشاعر الكبير محمد إقبال ووصفه بالعبقري، مع الاندهاش بمقولته لما رفض دخول مسجد باريس قائلًا: إن هذا المسجد ثمن رخيص لتدمير دمشق! ويالها من لفتة بصيرة من شاعرنا المتأله. ولم يستقص الجامع المحب جميع الرسائل، واكتفى منها بما فيها إمتاع وتاريخ وفائدة.
أما آخر أبواب الكتاب وخاتمته فتصحيحات واستدراكات كتبها شيخ العربية لبعض الكتب التي ينشرها صديقه الكتبي الكبير محمد أمين الخانجي، الذي كان بشاكر حفيًا، وبموضعه عارفًا. والمذهل أن عمر محمود شاكر حين كتبها لا يتخطى عتبة الخامسة والعشرين، والمحزن أن بعض من طبع هذه الكتب فيما بعد نقل ما كتبه أبو فهر ولم يشر إليه، أو وصفه ببعضهم فقط!
وهذا مالم يفعله العلامة الدكتور إحسان عباس الذي أثبت تعليقات شاكر وتصحيحاته كما هي، ونسبها صراحة لأبي فهر، وفرق الكبار عن غيرهم يستبين في مثل هذه المواضع والدقائق. وألحق د.قائد بهذا القسم جوابًا محررًا لأبي فهر عن سؤال للشيخ عبدالفتاح أبو غدة حول بيت ورد في حديث مروي في مسند أحمد، وساقه الشيخ عبدالفتاح في تعليقه على كتاب المنار المنيف لابن القيم.
سلّم الله يدي د.عبدالرحمن قائد الذي أخرج لأهل العلم كنوزًا كثيرة، وأخرج لأهل الأدب مقدمات العقاد، وسيرة الزيات بعد أن جمع شتاتها واستخرج رفاتها، ثمّ توجه نحو بقيّة تراث حبه محمود شاكر، وذلكم عمل كريم غرسه الحب، وروّاه رسيسه، ورعاه الوفاء والبر، والاعتراف بالفضل لعَلَم من أعلام الأمة الكبار، وحارس أمين للغتها، وشهاب من شهبها الثواقب؛ ليبقى فينا محمود شاكر كما قال هو نفسه في شيخه الرافعي :”ميراثًا نتوارثه، وأدبًا نتدارسه، وحنانًا نأوي إليه”، والله يديم المحبة حتى يلتقي الأحبّة مع نبيهم عند كوثره الشريف.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء غرة شهرِ رمضان المبارك عام 1442
13 من شهر أبريل عام 2021م