جرير معي في جرير!
مكتبة جرير مشروع نفاخر به، وسيرة المكتبة جديرة بالتدوين والتوسع في تاريخها وأخبارها، وسبق لأحد القياديين من أنجال مؤسسها أن كتب سيرته الذاتية، وفيها شيء من حكاية المكتبة، ورحم الله ذلكم الشيخ البصير الذي كان في “بَيتِ مَكرُمَةٍ رَفيعِ السُلَّمِ”، وأصبح مع بنيه “كَالبَدرِ حُفَّ بِواضِحاتِ الأَنجُمِ”، والله يديم فيهم العراقة والنبل والفضل.
أما جرير الشاعر العربي الشهير، فهو المعروف بعذوبة الشعر فلكأنه يغرف من بحر، ولأجل هذه الخصيصة شاع شعره بين جميع الطبقات حتى رددته الجواري الصغيرات في البيوت، وناحت به النسوة على النوار زوجة غريمه الفرزدق بعد أن ماتت، ونسب إليه علماء كبار، ورواة حجج، أحسن ما قالته العرب في الفخر، والمدح، والغزل، والهجاء، وهو غزير الإنتاج، ذو منـطق جزلٍ إذا قال فصل، وغزله عفيف بعيد عن التفحش، وأما هجاؤه فسيوف مسلولة، ورماح مسمومة!
وفي زيارة قريبة لمكتبة جرير، طرأ على بالي خاطر وأنا أدخل وأتجاوز الفحص المرتبط بجائحة كورونا، وهو ماذا لو كان جرير الشاعر معي في زورتي السريعة تلك؟ أتخيله سيجول في بصره، ويقلّب ناظريه بلمحة خاطفة نحو أرجاء المكان، ثمّ يقول لنفسه ولي كلمتين دون ما قبلهما وما بعدهما: “فغضّ الطرف”، ولن أسأله السبب؛ إذ سيتنهد منشدًا بيته الذائع المحفوظ: “إنَّ العيـونَ التــي فـي طرفهــا حـورٌ *** قَتَلْنَنـــا ثــمَّ لَـــــــمْ يُحييـــنَ قَتْلانــا!”، ومن الطبيعي أن تقطع حجته أيّ حجه؛ وإنها لصبوة تزول أو تتهذب أو تحتشم، وتبقى القاعدة الجريرية الفطرية: “لا أَستَطيعُ لِهَذا الحُبُّ كِتمانا”، وإنّ الحرائر-وما أكثرهن- ليتقين غدرات العيون وعدوانها برداء ومعصم، وستر سابغ قبل ذلك.
ثمّ حين مررت برفوف الكتب المتراصة بمنظر بهيج، المُزَاحمة بغيرها من أجهزة، وأدوات، وألعاب، ومتع العين والذهن والأذن، همس جرير مترنمًا: “يا حبّـــذا جبـــلُ الرَّيـــانِ مِــن جَبــلٍ *** وحبّـــذا ســـاكِنُ الرّيــانِ مَــن كانَــا. وحبّـــذا نفحــــاتٌ مــــن يَمانيــــةٍ *** تأتيــكَ مِــن قِبَــــلِ الرّيـــانِ أحيانا”، بيد أن كثرة العوائق الحاجزة عن الكتاب وعالمه تحزن المرء، وتهيج وجده، وتبعث أحزانه، وأخال الكتب ترمق المارة من أصحابها وتصيح: “قالَت بَليتَ فَما نَراكَ كَعَهدِنا *** لَيتَ العُهودَ تَجَدَّدَت بَعدَ البِلى” فيتجاوب معها المحب العاشق مستعيرًا من جرير قوله: “أَمّا الفُؤادُ فَلَيسَ يَنسى ذِكرَكُم *** ما دامَ يَهتِفُ في الأَراكِ هَديلُ!”.
كما لفت نظري خلال التسوق العابر، أنّ هذه المكتبة مثل جرير تمامًا، يقصدها الناس من الطبقات كافة كما كان شعر جرير متداولًا بين شرائح الناس على اختلافها في العلم، والوجاهة، والسلطة، والنفوذ، والثراء، والعمر، وكذلك نجد الشاعر والمكتبة حاضرين في جهات الجزيرة العربية وما وراءها، وتماثل المكتبة سميّها في توافر أصناف كثيرة تحت سقفها، وهو الذي حوى ديوانه جميع أغراض الشعر تقريبًا، ولذلك فهي ليست مجرد مكتبة، وهو ليس شاعرًا في مجال واحد فحسب، وإن برع في نواح شعرية أكثر من غيرها، ولعّل أبا حرزة أن يطربه تميّز سميته الباذخ، ويسأل الله أن يحرزها من الشرور، ويصونها عن السوء، ويتغنى بقوله: “ولقد أَرَاكِ كُسِيتِ أجْملَ مَنظرٍ *** ومَعَ الجَمَالِ سَكِينةٌ وَوَقَارُ”.
أيضًا ربما أنّ جرير الذي جدّع أنف الأخطل، وأسكت الراعي، وصدّ الفرزدق، ونهشه شعراء كثر فغلبهم واحدًا واحدًا، حتى حمد الله في بيته الذي يقول: “أعدّ الله للشعراء مني *** صواعق يخضعون لها الرقابا”، كان ينظر مثل مكتبته للمنافسين، ويعرف السوق وما يروج فيه، ويسابق للمعاني المبتكرة، والإشارات الدالة؛ ثمّ يهتف بأعلى صوته أن قد وجدتها، فتسير الركبان بأخبار جرير وبدائعه، ويردّد أيّ أحد قبل الدخول معه أو معها في المضمار: “وابن اللبون إذا ما لُّز في قرنٍ *** لم يستطع صولة البزل القناعيس”، وأتصوّر أنّ لدى أهل جرير الحاضرة من البصيرة ما يجعلهم لا يركنون لقول جرير الآنف، ولا لمقولته السائرة: “أبشر بطول سلامة يا مربع!”.
ولا أخفي القارئ بأنّ الأثمان في جرير تتفاوت؛ فأحيانًا تساوي غيرها، وربما تنقص عنه خاصة في عروضها الدورية الرائعة، ولربما أربت وزادت، بيد أن جملة الأسعار جرى عليها ما جعلها في سُعار، والله يعظم البركة، ويصلح الأحوال، وإني لمتفائل مع جرير الذي قال: “لَيتَ الزَمانَ لَنا يَعودُ بِيُسرِهِ”، وفوق ذلك أستفيد من بطاقة تخفيض كانت تمنحني خصمًا بخُمس القيمة، ثمّ هبطت إلى ما دونها وأكثر من العُشر، ولا يزال الأمل بالله قائمًا في النفس على غرار صنيع صاحبنا: “إني لأرجو منك خيراً عاجلًا *** والنفس مولعة بحب العاجل”، وتلك البطاقة يعرف بعض من حولي بركتها، والحمدلله.
وحين المغادرة، تلتفت العين إلى المكان الأنيس واللسان يردّد: “حَيِّ المَنازِلَ إِذ لا نَبتَغي بَدَلاً *** بِالدارِ داراً وَلا الجيران جيرانا”، ثمّ ترمق الأبصار القريبة كي لا يُلمح على المحيا الحزين بالفراق أثر، “ولولا الحياء لهاجني استعبار”، بَيْد أني أعلّل النفس إذا بدر منها ملامة على مشاعرها وعبراتها بأني “ما كنـتُ أوّلَ مشــــتاقٍ أخـا طـــربٍ *** هاجَـتْ لَـهُ غــــدواتُ البيـــنَ أحْزانـا”، وليس عجيبًا أن أكون إبان المغادَرة “مُرَوَّعاً مِن حِذارِ البَينِ مِحزانا”.
ولو سألني جرير عن نيتي المستقبلية تجاه صاحبته الشامخة في مواضع كثيرة، لأجبته بقوله: “لَقَد عَلِقَت بِالنَفسِ مِنها عَلائِقٌ *** أَبَت طولَ هَذا الدَهرِ أَن تَتَصَرَّما”، ولولا أني أخشى من أكون مثل غريمه الذي زأر الشاعر في وجهه باعتزاز منشدًا: “حسبت الناس كلهم غضابًا”؛ لوضعت صورة المكتبة على هذه المقالة، وما حالي إلّا قريبًا من قناعة الشاعر حينما خرج من مجلس الخليفة المجدد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله راضيًا عنه، غير نائلِ شيئًا من دنياه، فعَذره وبقي على محبته مخبرًا مَنْ وراءه بقول مختصر: “وَجَدْتُ رُقى الشيطانِ لا تستفزُّهُ *** وقد كان شيطاني من الجِنِّ راقِيا”.
أسأل الله مولاي العزيز الخبير، الحكيم الحميد، الملك المجيد، أن يديم علينا النعم والآلاء، ويكثر فينا المكتبات والقراء والعقلاء، ويحفظ البلاد والعباد بالأمن والإيمان ومكارم الأخلاق جميعها، وأن يعيذنا من النزغات والنوازع والأهواء، ويجعل الحكمة والمصلحة هي الرائد للجميع في كلّ قول وفعل، فبلادنا جديرة بذلك، وأهلها الأماجد يستحقون المكارم بفضل الله، وبما وفقهم إليه من صنائع المعروف، والنفرة من المنكرات، فهم بحقّ قوم يصدق عليهم قول الشاعر النجدي اليمامي: “ألستم خير من ركب المطايا *** وأندى العالمين بطون راح؟”.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 05 من شهرِ شعبان عام 1442
18 من شهر مارس عام 2021م