سير وأعلام

ثلاثيّة النّجاح: زبادي وقصيدة ومأزم!

ثلاثيّة النّجاح: زبادي وقصيدة ومأزم!

لابأس من إيراد بعض الذكريات اللطيفة، خاصّة التي ترتبط بمراحل عمرية مؤثرة، مثل سنوات الجامعة، التي يعبر بها الشباب والشابات دون أن يعي بعضهم أهميتها إلّا بعد حين، وأستثني من ذلك مَنْ وهبه الله فكرًا استشرافيًا، أو رُزق بناصح أمين. وأيًا يكن فهي سنوات مهمّة وحاسمة أحيانًا، فيها دراسة، ونشاط، وثقافة، ووعي، وفيها ذكريات مع صحبٍ وأساتذة، ورحلات ومسامرات، والأصل في جلّ الذكريات أن تزداد الجميلة منها بهاءً بعد تباعد زمنها، وتبقى الطريفة على لذاذتها وإن مضى عهدها، وتذهب غصص الحزينة أو تذوي مع بقاء العبر منها.

وقد درست في كليّة الصيدلة، بجامعة الملك سعود، وجامعتنا هي أقدم جامعة سعوديّة تؤسس على أنها جامعة، إذ سبقتها في التعليم العالي كليّة الشريعة بمكة، وكليتنا هي أقدم كليّة طبيّة في المملكة، وربما أنهما أول مؤسستين في الجزيرة العربية كلّها على هذا النمط، ولهذه الأوليّة أهميّة تاريخيّة، وعراقة تزداد مع الأيام أو هكذا يجب، وينبني عليها مسؤولية تبعث الحرص على التجديد مع الرسوخ العلمي، والسبق إلى تبوء مكانة حاليّة ومستقبليّة ملائمة، دون الاتكاء على وهج التاريخ فقط.

وتحتفظ سنوات الدراسة بذكريات كثيرة، ربما آتي على بعضها تباعًا، حسب المناسبة، وانشراح النفس للكتابة، ولملمة أطراف الحوادث قدر المستطاع، مع جمع المتشابه منها، وبناء على ذلك فهاهنا حكاية نجاحي في ثلاث مواد دراسيّة بقصص لا تخلو من طرافة وفائدة، ولربما تعجب البعض منها، وقد يقع في نفوس آخرين شيء من شرعيتها، مع أنه نجاح مستحقٌّ بعيد عن التدليس، وليس كما حدث لأحدهم مما سأرويه في مكانه المناسب.

أول حكاية كانت في إحدى مواد علم الدواء، وهي مادة ثقيلة تعتمد على الحفظ السليم من الالتباس بسبب تشابه بعض الأسماء والمصطلحات، وضغط الدراسة بلغة أجنبية، ويزيد الأمر صعوبة في المواد التي تخلو من جزء عملي يختصّ بثلث الدرجة النهائية، ويكون فيه فرصة لكسب درجات مرتفعة؛ لأنه يعتمد على التطبيق والتجربة، وفي يوم الامتحان الأول سألنا أستاذ المادة العالم السوداني الخلوق د.كمال الدين حسين الطاهر عن مادته، فقلت له: هي صعبة، وليس فيها قسم عملي، وهاجس الرسوب يزداد قوة لدي!

فقال من فوره: أيّ واحد يشعر بصعوبة وخوف من الرسوب، يمكن تكليفه بواجب يتحصّل منه على درجات إضافيّة، ثمّ سألني: هل ترغب بذلك؟ فقلت أمام الجميع: نعم، فقال: عندي دراسة عن تأثير اللبن ومشتقاته على تناول الأدوية، فهل تستطيع كتابة بحث مختصر عن الزبادي؟ ومن الطبيعي أن أهتبل الفرصة وأوافق؛ لأضمن درجات زائدة تنقذني من شبح هذه المادة التي لم أستطع التعايش الآمن معها.

وحين خرجت من الجامعة تواصلت مع صديق قديم اسمه مجدي الجهني، ممن تخرجوا من قسم التغذية العلاجية في كليّة العلوم الطبية التطبيقية، وهو بارع في تخصصه عارف به، وقصصت عليه الخبر طالبًا منه تزويدي بمراجع لأكتب بحثي، فوعدني خيرًا، وخلال أقلّ من أسبوع زارني زيارة خاطفة، وأعطاني بحثًا مكتملًا كتبه بنفسه، فشكرت له ذلك، ولا أنسى إلى اليوم فضله مع انقطاع الصلة به جزاه الله خيرًا وأحسن إليه، فسلّمت البحث لأستاذي الذي فرح به، وأحاط الزملاء بذلك علمًا، ونجوت من حيص بيص في ذلكم المقرر الدراسي، علمًا أني أضفت إليه مقدمة وخاتمة، ومعلومات شرعيّة، ولغوية، وأدبيّة، وأعدت تحرير مواضع يسيرة منه.

أما ثاني المواقف، فوقع لي مع الأستاذ الصالح-أحسبه والله حسيبه- د.محمد عبدالغني، الذي درسنا مادة علم الأمراض، فقبل أيام قليلة من موعد الامتحان الأول المتفق عليه سلفًا، طلب منه الزملاء تقديم الموعد من الحادية عشرة صباحًا إلى التاسعة؛ كي يتمكنوا من الانصراف بعد نهايته مباشرة؛ لأن يوم الأربعاء آنذاك هو آخر أيام الأسبوع، وبعضهم يرجع لمدينته وأسرته، وفيهم من يتشوق إلى زوجته البعيدة، فتوافق الجميع على التغيير دون إخباري أو الإعلان عنه، وكنت غائبًا عن المحاضرة التي جرى فيها هذا التداول بخصوص الموعد الجديد.

لأجل ذلك فاتني الامتحان، ورفض أستاذ المادة إعادته لي، لأني كنت الغائب الوحيد، وحتى لا يُفهم من صنيعه التحيّز لي، وكررت عليه بعد الامتحان الثاني طلبي بمضاعفة نتيجة الامتحان الثاني فرفض، وأصبح وضعي حرجًا، وكنت قاب قوسين أو أدنى من الرسوب إلّا بمعجزة تنتشلني، وفي ليلة الامتحان النهائي، كتبت أبياتًا من الشعر المصنوع البارد من ناحية فنية، والساخن جدًا بالعاطفة، وشرحت فيها تظلّمي، وأن إنصافي ليس فيه أيّ محاباة؛ لأني لم أعلم بتغيير الموعد الأساسي.

وبعد أن ظهرت النتائج نجحت والحمدلله، ولم أقابل د.عبدالغني بعد ذلك، وفيما بعد درست مادة مكونة من خمس ساعات، يستظرف الطلاب بتسميتها “أم خمس” وهو وصف يُطلق على بندقية قاتلة معروفة في تاريخ صحراء الجزيرة العربية، وكان يدرس هذه المادة عدة أساتذة كما هو الحال في أكثر مواد كليتنا، وعلمت آنفًا أن هذه المادة قد انقسمت إلى مادتين أو أكثر.

وذات يوم حدث تغيير في موعد أحد امتحانات “أم خمس”، وحين رآني أستاذ المادة الرزين د.أسامة إبراهيم بادرني قائلًا: آمل أنك قد عرفت عن تعديل الموعد حتى لا تكون ممن نجح بالقصيدة! فأجبته مؤكدًا معرفتي، مضمرًا استغرابي من بلوغ خبر القصيدة إليه، وكاتمًا في نفسي الابتسامة من تشابه قوله مع جملة قيلت عمّن جُرح جسده بالنقطة من أهل الغناء في المدينة حسبما يرويه أدبنا العربي.

وآخر ما أرويه حصل لي مع أستاذي الموهوب د.هشام أبو عودة، إذ كان يدرسنا مادة حركيّة الدواء بالتقاسم مع أستاذ أمريكي من أصول هندية، وخلال محاضرته الأسبوعية الوحيدة عقب ظهر كلّ يوم أحد، شرح لنا وهو يرسم على السبورة درسه حول مستوى الدواء في جسم الإنسان، وأنه يتراوح ما بين ارتفاع “قمّة”، وانخفاض “قاع”، بيد أنه استثقلّ متنهدًا كلمة القاع، وقال بأنها لا تعبّر عن المعنى المطلوب بدقة، وأردف أنّ الخلل فينا وليس في لغتنا العربية.

فقلت له من فوري: هذه المنطقة حسب ما رسمته لنا يصدق عليه اسم “مأزم”، وهو المنخفض الواقع في مكان ضيق بين مرتفعين أو نحو هذا! فشخص ببصره نحوي، ورمقني بنظرة مغضب غيور على العربية وقال لي: لغتنا لغة مقدسة وغالية علينا، ولا نرضى أن يعبث بها أحد، فإما أن تثبت صحة كلامك، أو تتحمّل عاقبته! وحينها خطر في نفسي قولهم: كم من كلمة قالت لصاحبها دعني! ولكنّ لوم النفس وتقريعها انتهى عند ثقتي بصحة المعلومة؛ لكثرة مراجعتي لمعاجم اللغة آنذاك.

ثمّ نبشت مكتبتي بمجرد عودتي للبيت، وصورت من أربعة معاجم كبرى أوراقًا فيها تأييد لكلامي، وذهبت بالأوراق المصورة لمكتب د.هشام وأعطيتها له يوم الثلاثاء، وفي محاضرة الأحد القادم شكرني أمام الزملاء، وأخبرهم بما أعطيته، ووعد بأن يستخدم هذه الكلمة دومًا، وذُكر لي نقلًا عن زملاء أتوا بعدنا مباشرة أنه يستخدمها، والشاهد أن أستاذنا أعلن أمام الجميع أني ناجح في المادة مقدمًا! وحين عُقد الامتحان النهائي بقاعة كبيرة تُدعى قاعة القراءة مع أن أحدًا لا يقرأ فيها حسبما رأيت، جلس د.هشام على الكرسي، وبعد خروجي سألني: كيف أداؤك؟ فقلت له: لا يسر! فأعاد عليّ وعده، ونجحت فعلًا.

ربما تُغضب هذه القصص بعض المتشبثين بالأعراف الأكاديمية، مع أني لا أرى فيها بأسًا عليّ أو على الأساتذة، ولا أدري ماذا سيقولون إذا علموا أنّ طالبًا أكبر مني سنًّا، وأقدم دراسة، وهو ليس من كليتنا ولا من جوارها، أخبرني في ساعة مصارحة وندم، أنه نجح في مواد دراسيّة بدرجة امتياز، ونجا من فخ الحرمان الذي يستحقه عدّة مرات، والذي أعانه على ذلك أنه أوقع أحد أساتذته في شَرَك حضور حفلات مختلطة ماجنة تجتمع فيها المحظورات، وصوّر هذا الطالب أستاذه حتى غدا الأستاذ مطيعًا لتلميذه، منفذًا لرغباته.

 يا رعى الله تلك الأيام -أيامي وليست أيام الجليس قبل توبته-، وجزى الله خيرًا جميع الذين تشاركوا في تدريسنا وتوجيهنا في التعليم العام والجامعي وغيره، وهي فرصة لذكر أساتذتي هاهنا، وسؤال الله أن يرحم المتوفى منهم، ويشفي المريض، ويوفق الحي، ويحفظ الغائب الذي لا نعلم عنه، وإنها لدعوة نبتهل لربنا ومولانا أن تمتد لتشمل جميع الزملاء الذين عاصرتهم ممن سبقني أو لحقني أو وافقني، والله يتولانا جميعًا بما يحب ويرضى من خيري الدنيا والآخرة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

السبت 29 من شهرِ رجب عام 1442

13 من شهر مارس عام 2021م 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)