خمس دقائق مليئة بطبائع البشر!
طُلب مني قبل سنوات إدارة لقاء سيعقد في نهار يوم سبت، فاستعرضت أسماء المشاركين فيه، ومحاور اللقاء وأهدافه، ثمّ وافقت فكلّهم أسماء كبيرة وبارزة في ميدانها، وخمنّت أني سوف أستزيد من علمهم، ورأيهم، وأدبهم، وطريقتهم في التفكير والعرض والحوار، ففي ملاقاة الأكابر فوائد جمّة، ولأجل تحصيلها سارت الرّكبان عبر رحلات طويلة شاقة، والحمدلله على تيسيره وفضله.
وصلت للقاعة المحجوزة مبكرًا في ذلكم الصباح الخريفي، فاستقبلني مدير المؤسسة التي ترعى المناسبة، وبعد السلام والمجاملة، أنبأني بأن أحد المشاركين يريد إلقاء كلمة قصيرة لمدة خمس دقائق فقط؛ ثمّ يخرج مضطرًا لسفر مفاجئ، فوافقت بناء على طلبه لأن التنسيق مسؤوليتهم، وهم المتكفلون بجميع لوازم اللقاء ومصاريفه، وحين لمحني الرجل المعني جاء إليّ وكرر الطلب ذاته، مشيرًا لعلّة السفر الاضطراري.
ثمّ دخلت إلى القاعة، وسعدت بوجود الصديق عمر بالسد الذي أُوكلت إليه مهمة تدوين الحوار ونتائجه، وكان هذا آخر لقاء بيننا قبل أن يختاره الله إلى جواره، فبدأ اللقاء حسب الوقت المحدد، وبعد تعارف قصير، منحت الكلمة لذلك المشارك بناء على طلبه، فتحدّث الرجل وأسهب، وتجاوز الدقائق الخمس، ولولا أني أظهرت له عامدًا التّضجر من إطالته لما توقف عن هديره الذي استمر لثلاثة أضعاف الوقت المقتطع المتفق عليه مسبقًا.
ليست المشكلة هنا فحسب؛ بل تكمن في أنه حين فرغ من كلمته الطويلة التي هي إلى الإملال أقرب منها إلى التشويق، توجه نحو المشاركين وجلّهم من أقرانه في العمر والدرجة والمكانة والتأثير، وبعضهم أرقى منزلة منه، وقال لهم بتصنّع بارد كلمة معناها أنه لم يكن يرغب في التحدّث بين أيديهم لما لهم من أقدار وخبرات وحضور لولا إصرار مدير جلسة الحوار -الذي هو أنا- عليه لإلقاء كلمة، وأبدى لهم فيوضًا دافقة من التزهد والتواضع، مع التقدير الكبير لإنصاتهم الذي أُكرهوا عليه!
فتعجبت من صنيعه غاية العجب، لكني لم أفوّت الموقف، وكبُرت عليّ دعواه الباطلة، وخشيت مما سيقع في نفوس الحاضرين، وتفسيرهم لتصرفي المزعوم بأيّ وجهة، ولذا قررت حماية نفسي وحمايتهم من سوء الظنّ؛ فأمسكت بيد المتحدث قبل أن يغادر مقدمة القاعة، وشكرته على مسمع من الجميع، وذكرت صراحة بأن الكلمة أُعطيت له بناء على طلبه وليس لأني أجبرته عليها، وأنها كانت خمس دقائق على أقصى حدّ بيد أنها تضاعفت، ولولا تدخلي لاستهلكت وقتًا أطول، مع أنه سيسافر كما قال!
وعقب ذلك لم يترك صاحبنا القاعة بسبب سفره الطارئ حسبما عللّ سالفًا، بل استمر وشارك في النقاش بحيويّة وتفاعل، وبعد أن قضت تلك المجموعة الباسقة عدّة ساعات في تداول فكري وعلمي وعملي مثمر، ختمت اللقاء مثنيًا على مخرجات عقولهم الاستثنائية اللافتة، وعلى إثرائهم الكبير الحقيقي، وشكرتهم على صبرهم وعطائهم، وسألتهم إن كان أحد منهم يرغب بحديث إضافي قبل إغلاق الجلسة، بيد أنهم غمروني بلطفهم، وجزموا أنهم استخرجوا أكثر ما في مكنونهم، وتكلموا بما زوّروه في نفوسهم وأزيد.
فانثنيت على المتحدث الأول -لأن في نفسي شيء من حتى- وشكرته كرّة أخرى، واهتبلت الفرصة للتأكيد على أنه هو الذي طلب الكلمة من تلقاء نفسه، ثمّ ذهب المشاركون إلى غداء جماعي، وحين فرغنا من الطعام، تبادلنا تحيّة الوداع، وسلّم الجمع الكريم عليّ بحرارة، ومنهم صاحبنا المتحدث الذي همس بأذني أن قد أحرجتني! فقلت له: يداك أوكتا وفوك نفخ! ومن الطّريف أني لمحت الإشراقة والبسمة، وعلامات الرضا والحبور، في وجوه بقيّة المشاركين كلّما ذكرت أن كلمة ذلكم الرجل كانت استجابة لرغبته، وليست فقرة مجدولة من برنامج اللقاء!
هذه بعض طبائع النفوس البشرية التي فضحتها خمس دقائق لا غير، فهي – في غالبها إلّا ما رحم ربي وقليل ما هم- تحب الشرف والتصدر، وتهفو إلى الاستئثار والإقصاء، وترى أن ما يصدر عنها ثمين جدير بالعناية، ومع ذلك تدّعي التواضع والزهد، وتهضم نفسها علانية وهي في السر أعظم عند صاحبها من جبال رضوى، إضافة إلى فرح الأقران بما يكبح نظراءهم سواء جمحوا أو طمحوا أو نجحوا، وقلّما يسلم من هذه النوازع البشرية أحد، ولا أنكر أن تعاملي مع طريقة صاحب الكلمة لا يخلو من انتصار للنفس، وانسياق لنزغة أو إلهام!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأحد 25 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1442
07 من شهر فبراير عام 2021م