مختارات من وثائق حكومة بومباي
منذ أن عرفت بصدور هذا الكتاب، سعيت للبحث عنه في المكتبات ومعارض الكتب المحلية والمصرية، ثمّ في مواقع البيع الإليكتروني دون جدوى، وحين كاد اليأس أن يستبدّ بي إلّا من رحمة الله وفضله وعونه، وردتني رسالة لطيفة من صديق تويتري كريم، ودارس للشؤون الدولية، وكاتب متدفق، أفادني فيها أنه سيرسل الكتاب لي من لندن عبر البريد السعودي، والله يعظم للكاتب الصديق عبدالرحمن المرّي الأجر والمثوبة على إحسانه الذي لم أكافئه عليه.
العنوان الخارجي للكتاب المراد: مختارات من وثائق حكومة بومباي، أما عنوانه الداخلي فهو: مخابرات الخليج العربي: مختارات من محفوظات حكومة بومباي، السلسلة الجديدة رقم (٢٤) لعام (1856م)، فيما يتعلق بشبه الجزيرة العربية، البحرين، الكويت، مسقط وعمان، قطر، الإمارات العربية المتحدة وجزر الخليج، جمع وتحرير “أر.هجيز طوماس”، وترجمة د.عبدالعزيز عبدالغني إبراهيم، قدّم لها وراجعها وعلّق عليها د.حسن بن محمد بن علي آل ثاني، وصدر هذا الكتاب الضخم عن مركز حسن بن محمد للدراسات التاريخية في قطر عام (2017م)، ويتكون من (559) صفحة ذات قطع كبير، وطباعة مريحة للعين.
ذكر الدكتور حسن في تقديمه أن مشروع ترجمة هذا الكتاب استهلك جهدًا ووقتًا، ويوازيه مشروع آخر بعنوان “قطر ودول الخليج العربي في الوثائق البريطانية”، ويدرس قرونًا تمتد من عام (1763م) حتى بداية القرن العشرين، وهما مشروعان مرتبطان يتناولان تقارير المقيمين السياسيين في منطقة الخليج العربي، وأشار بأن الأصل يقع في (688) صفحة، والغاية من الترجمة أن يسهُل على الباحثين الرجوع لهذا المصدر مترجمًا؛ نظرًا لصعوبة لغته الأصلية، وتحريف أسماء الأعلام والأمكنة أحيانًا؛ فحاجة الباحث لهذا الكتاب ضرورية، لأن جميع المؤرخين الرواد رجعوا إليه ونقلوا عنه.
كما نبه المقدّم إلى أن الطبعة المعادة لهذا الكتاب من قبل جامعة إكستر هي نسخة طبق الأصل، وصدرت في عام (1974م)، وقد تصدرتها مقدمة فخمة للمؤرخ الشهير “روبن بدول”، ولنفاستها وقيمة كاتبها؛ تُرجمت كما هي في الطبعة العربية، فضلًا عن أنها تحتوي على بضع إفادات مرتبطة بسير بعض المقيمين من ساسة الإنجليز وعسكرهم ومساحيهم، وهي إفادات توضح أهمية أولئك الرجال، ودقة ما كتبوه خدمة لحكومتهم وأهدافها في السيطرة الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
أما “روبين بيدول” – اسمه كُتب معربًا بطريقتين- فقال في مقدمته: إنّ كل من يعمل في تاريخ شرق الجزيرة العربية والخليج، وتاريخ شرق إفريقيا، سوف يجد إشارات متواترة إلى مختارات بومباي المجلد الرابع والعشرين، وهذه التقارير تلقتها حكومة بومباي من رجالاتها، وأعدتها لتصبح كتابًا مرجعيًا للمسؤولين العاملين في المنطقة، وأضحى الكتاب نادرًا حتى أن هذا المؤرخ لم يجده خلال سبعة عشر عامًا من البحث المتواصل لدى باعة الكتب القديمة إبان عمله مسؤولًا عن مكتبة الشرق الأوسط في كامبردج.
ويفترض بيدول أن هذه التقارير بدأت منذ عام (1805م)، وأول كتيب أُعد لتسترشد به الحملة البريطانية التي ستحارب رأس الخيمة ثلاث مرات أعنفها التي وقعت بعد ذلك بخمسة عشر عامًا تقريبًا، ثمّ اُستكملت الأوراق لإصدار مجلد يستعمله الرجال العاملون في موقع الحدث، وينظر فيه رؤساؤهم في بومباي، وبالتالي ينطلق فريق الاحتلال والتحكم من قاعدة معرفية واحدة، وتلك من حكمة الإنجليز حتى لا يتفرقوا في التصور، فيعظم خلافهم في الرأي، وإن كانوا من قومٍ يتقبلّون الآراء فيما بينهم؛ لأنها تصبّ في مصلحتهم، وتعزز التنوع والحوار ضمن نسيجهم.
وقد كتب الورقة الأولى الكابتن “روبرت تيلور”، وهو شخصية مثيرة ومثقفة، وصاحب مكتبة قيمة للغاية، ويجيد لغات تصل إلى تسع منها لغات محلية مثل لغة الصابئة، وذلك إبان عمله مساعدًا للوكيل السياسي في البصرة، ويحمل في نفسه ضغينة مضاعفة ضد القواسم؛ لأنهم أسروا زوجته الأرمينية الشابة وباعوها قبل أن يخلّصها بعد عام من الأسر، وله علاقات متينة بحكام عُمان والعراق، ولديه رؤية مستقبلية حالت دون احتلال محمد علي باشا للعراق، وظلّ يحذر من أيّ نفوذ أجنبي في فارس، ويجزم بخطر الوجود الروسي في فارس على أمن العراق، وفي نهاية خدمته الطويلة المخلصة أقيل من العمل؛ لاتهامه بتأييد وجهات النظر التركية!
أما الكاتب الثاني فهو “صموئيل هنيل” الموصوف بأنه أعظم مقيم لبريطانيا في الخليج، وكاتب أول تقرير مؤصل عن بني ياس، ويُعدّ المهندس الحقيقي للنظام التهادني بين مشيخات الخليج الذي استمر لأزيد من قرن، وهو ذو اجتهادات سياسية فردية دون الرجوع لحكومته، وبسبب تفاعله السريع مع المستجدات استطاع منع المصريين من الاستيلاء على البحرين، والحيلولة دون احتلال السعوديين لعمان، ومع ظهور صواب تصرفاته لصالح بلاده في الخليج وضدّ حكومة فارس إلّا أنه لم يُمنح وسام فارس، وهو الوسام الذي وهب لآخرين أقلّ منه في العطاء، ويبدو لي أن السبب يعود لوشاية، أو تنافس وحسد مغروز في الطبيعة البشرية.
بينما صار “اتكنز همرتون” آخر عسكري دوّن مادة لهذا التقرير، وهو أول أوروبي يزور البريمي، وكتب عنها تقريرًا غدا مرجعًا أثناء النزاع على ملكية الواحة، ولا يزال هذا التقرير مهمًا للباحثين في ذلك الشأن، وقبله وردت سيرة “أرنولد بروس كمبال” الذي وقع على اتفاقية السلام الدائم عام (1835م)، ورافق شاه إيران في زيارته الرسمية لبريطانيا عام (1873م)، وهي الزيارة التي رفض الشاه فيها النوم على السرير مفضلًا افتراش الأرض، مما أحرج موظفي قصر بكنجهام!
وعقب استتاب الأمن في الخليج، خطر للبحرية الهندية معالجة هذا القصور من خلال أعمال مسح بحرية أعانت على معرفة طبوغرافية المنطقة، ونجم عن بعض أعمالهم نجاح الهجوم الإنجليزي الضاري على القواسم، ومسح رأس الخيمة تمامًا، والله يرحم أولئك المسلمين، ويقتصّ لهم ممن شوّه سمعتهم، وقتلهم، وخرّب ديارهم، وسيبقى جهادهم وصمودهم، من المفاخر التي لا تنسى على ضفاف الخليج.
كذلك من التقارير الثمينة ضمن هذا المجلد ما سطّره “جورج بارنز بركس” الذي عمل بجلد وجديّة في خدمة بلاده، وباء مثل غيره من طلائع العدوان بإثم ضرب مدينتي دبي والدوحة بالقنابل الإنجليزية، وقبيل وفاته كتب تقريره المشار إليه في مئة صفحة، ولم يغفل المؤرخ في تقديمه عن تمجيد “فيلكس جونز” بعد أن مسح جلّ خرائط المنطقة، علمًا أنه عمل في بحرية بلاده وهو في الخامسة عشرة من عمره.
ومن استعراض مكونات الكتاب الغزيرة نرى أنه يشتمل على خرائط تفصيلية، وتقارير سياسية، وتاريخية، وبلدانية، وأخرى عن الحملة البريطانية على رأس الخيمة، ووصف لجزر الخليج في جانبيه العربي والفارسي، مع عرض لتفاصيل بعض الصراعات المحلية، وإيراد تقارير عن السياسة البريطانية إزاء المشيخات المهادنة، وحول شركة الهند الشرقية، وتعريف بالقواسم وقبائل العتوب، والحركة السلفية النجدية، والأسر الحاكمة في مشيخات الخليج، ثمّ تعريج على تجارة الرقيق التي اتخذها الإنكليز حجة لاقتحام منطقتنا مع انهم في ذات الوقت سرقوا الأحرار من أفريقيا، واستعبدوهم فيما أسموه زورًا بالعالم الجديد.
وتكمن أهمية هذه المختارات في كونها من أوائل ما أصدره الإنجليز في الهند، ومن لم يستعن بهذا الكتاب فلن يجد شيئًا موثقًا عن تاريخ الخليج قبلها، وحتى “لوريمر” اعتمد على هذا الكتاب في موسوعته التاريخية والجغرافية الضخمة، ونقل عنه إلى عام (1853م)، وكان الكتاب ممنوعًا من التداول وليس للنشر، ومقصورًا على حكومة الهند الإنجليزية وموظفيها، وفيه دقة عالية لأن كتّابه قصدوا نفع إدارتهم عن منطقة مهمة، دخلت في الإستراتيجية البريطانية؛ لأنها طريق للبريد والتجارة البحرية، وتعين على التحكم السياسي من قبل الإنجليز في المناطق البعيدة بالشام والعراق.
ومما لفت نظري في الكتاب خلّوه من أيّ مقدمة بقلم مترجمه المؤرخ الكبير البروفيسور عبدالعزيز بن عبدالغني، واختلاف عناوينه في مواضعها الثلاثة اختلافًا يسيرًا، مع وجود أخطاء طباعية، واختلاف في بعض التواريخ الميلادية والهجرية، ولعلّ مثل هذا العمل الضخم الذي لا يخلو ما هو دونه من الملاحظة فضلًا عمّا يكون في مثل حجمه، وفي مستوى الجهد الذي استلزمه، أن يستدركها في قادم الطبعات المحررة، فهذا المرجع نفيس ومهم لأيّ قارئ في التاريخ أو مشارك فيه، فضلًا عن المؤرخين والساسة، وعسى أن نحيط بما قالوه عن بلادنا ومجتمعاتنا، ونسعى لكشف ما يقولونه؛ ففي مقولهم لأنفسهم وفي دوائرهم تبرز كثير من النوايا والخطط، والله خير حافظًا.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
السبت 24 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1442
06 من شهر فبراير عام 2021م
2 Comments
استاذ احمد السلام عليكم
سعدت بمقالة اليوم عن كتاب المختارات ترجمة عبدالعزيز عبدالغني ودائما تتحفنا رعاك الله بالمفيد هل ممكن نعرف دار النشر لطلب الكتاب
تحياتي
سعود الربيعة
أهلا وسهلا ومرحبا دوما: الناشر لهذا الكتاب الضخم هو مركز حسن بن محمد للدراسات التاريخية، وحسب البحث السريع فلهم موقع على الانترنت، وحساب في تويتر، ورأيت اليوم الكتاب معروضا في موقع جملون. والله يرعاكم.