بين أوراق السنهوري
بيني وبين نفسي اتفاق، أن اقرأ كتاباً في المذكرات والسير الشخصية كل فترة، وأجتهد في تحقيق ذلك؛ للترويح عن النفس من عناء الحياة، وعناء القراءة، وكم في التاريخ من متعة، وسلوان، وعبر، وحسن أحدوثة.
وكنت أبحث كثيراً عن مذكرات السنهوري، ومذكرات زوج ابنته، ويسر الله لي الحصول على الأولى، وحين فرغت منها، وتهيأت للكتابة عنها، وصلتني مذكرات صهره د.توفيق الشاوي، رحمة الله عليهم جميعاً؛ فالحمدلله، والله ييسر من الوقت، والصحة، ما يعين على القراءة، وهي لذة باقية؛ تربو على كثير من اللذائذ.
عنوان هذا الكتاب: السنهوري من خلال أوراقه الشخصية، وهو من إعداد نادية السنهوري وزوجها توفيق الشاوي، صدرت طبعته الثانية عام (2008) م، عن دار الشروق، ويقع في (371) صفحة، وله طبعة قديمة، عن طريق دار أخرى.
بدأ السنهوري تسطير يومياته في 11 أغسطس من عام (1921م)، الذي يوافق يوم ميلاده، وكان عمره حينها سبعة وعشرون عاماً، ويبدو أن آخر تدوينة له كانت في أغسطس عام (1969م)، حيث توفي في 21 يونيو 1971م، ومن الموافقات أني أكتب هذه المقالة قبل ثمانية أيام من تاريخ ميلاده؛ غفر الله له، وعفا عنه.
وكانت الأوراق متناثرة في غير موضع، ومكتوبة بخط يده، في عدة بلدان عربية وأجنبية، ويحرص في مستهل كل سنة جديدة من عمره أن يبتهل بين يدي الله، فيسأله التوفيق والمعونة، وينطرح بين يدي ربه متذللاً، وظل هذا الحس الإيماني يتنامى معه، علماً أنه حين ذكر ميلاده أول مرة، تمنى لو كان يعرف ما يقابله في التقويم الهجري، فلدى السنهوري اعتزاز كبير بدينه، وعروبته، وثقافة مجتمعه.
وبين أوراقه موضوعات مشتركة، ولم يكن ينوي نشرها، وإنما جعلها مستودعاً لخطراته، وموضعاً لبوحه، وكم يحتاج المرء للحديث، والبوح، كي يرتاح، وينفض عن عقله وروحه ما علق بهما من فكرة، أو هم، أو شعور، ولعل بعض بوارقه الفكرية أن تجد من ينهض بها، فتكون من الأجر الباقي.
تدور خواطر السنهوري كما يقول زوج ابنته البروفيسور توفيق الشاوي حول الفكر الإسلامي، والعمل الوطني، ثم تأملات فلسفية وتربوية وأدبية. ويتضح من سياقها بجلاء أن الرجل قد اختزن في ذهنه منذ شبابه الغض أهدافه التي يروم تحقيقها، وصرم عمره لتنفيذها أو أكثرها على الأقل.
وحظي موضوع الشريعة الإسلامية بأكبر قدر من يومياته إبان دراسته القانون في فرنسا، كما كان له عناية باللغة العربية، والتعليم، والاقتصاد. وقد حقق قدراً من أمنياته فيها باستثناء الاقتصاد، وساعده على ذلكم الإنجاز عمله وزيراً للمعارف أربع مرات، واختياره رئيساً لمجلس الدولة، وعضويته في مجمع اللغة العربية.
وفي أوراقه وبين سطوره، تأله، وخلق، وفكر، وأدب، وأجزم أن الفرصة لو أتيحت له لجعل القوانين التي صاغها مستقاة من الشريعة الإسلامية، كما يتضح في آرائه وأقواله، وخلال مساعيه في عدة بلاد عربية، وضمن تآليفه المتأخرة، وبجهوده لإنشاء المعهد التابع لجامعة الدول العربية، فضلاً عن شهادة من درس على يديه كالشيخ صالح الحصين، وهي شهادة منصفة ثمينة.
وحين قرأت هذه الأوراق، اخترت منها عبارات كثيرة، ثم اصطفيت من هذا الاختيار ما بدا لي أنه الأنسب، علماً أني تصرفت في صياغة بعضها تصرفاً يسيراً، وآمل ألا يخل بمراد أبي نادية، فمما جاء في أوراقه اللذيذة:
- القوة هي كل شيء، ومن العبث أن نقول قوة القانون، فهذه عبارات ابتدعها الأقوياء ليسخروا من الضعفاء والمظلومين، وليس للضعيف من دواء إلا أن يتقوى!
- بارك الله في القوة فهي سلاح من يريد الحياة.
- بعد النظر، وقوة الملاحظة، وسرعة الخاطر، إذا اتحدت في إنسان أوجدت فيه ذكاء مكتسباً.
- الأجدر بالإنسان أن يجعل غرضه في الحياة الوصول إلى الحقيقة.
- أفضل شكر للنعمة هو ألا تتخذها وسيلة للصلف والتكبر.
- كان يدعو لتضييق العمل الحكومي قدر الإمكان، وفتح الباب للعمل الشعبي تحت إشراف حكومي؛ منعاً لإثقال كاهل الحكومة، كي تتفرغ لمهامها العظمى.
- لا أحسب المرأة تدخل في عمل إلا وتلونه بلونها الخاص: رقة في ضعف في تقلب.
- لا حق للإنسان في أن يحتقر شيئاً قبل أن يعرفه.
- النفوس الحزينة أبعد في الغور وأقرب إلى الحقيقة من غيرها.
- الإسلام دين ومدنية، ومدنيته أرقى وأكثر تهذيباً من مدنية الحضارات الأخرى.
- في نفس الإنسان شيء غير المادة يتألم من تحكم المادة فيه.
- في كل إنسان خلق متأصل؛ وعنه تتفرع مزايا الإنسان وعيوبه.
- ليس أنفع للدارس من التطبيق في المحاكم، فالكتب نظرية فقط.
- يقترح على ملك مصر اصطفاء مربين من صميم الأمة، وليسوا من الحاشية؛ لتربية الأمراء الصغار ومنهم ولي العهد في طفولته، تربيةً يراعون فيها صالح الأمة قبل كل شيء. وقرأتُ أن الملك فيصل الأول فعل ذلك مع الأمير غازي حين هيأه لولاية العهد.
- يكفيك شرف الغرس حتى لو لم تستمع بالثمرة.
- خير ما يفعله الرجال للنساء هو أن يربوهن تربية صحيحة.
- ظهور شخصية الإنسان في عمله دليل على قوة الإرادة حتى لو كان العمل تقليدياً.
- لا أفْعَلَ من الوقت في تضميد الجروح.
- يجب أن يكون لتكويننا ومزاجنا أثر فيما ننقله عن الغرب.
- حتى تزداد كفاءة القاضي يجب أن يقرأ في الاجتماع والاقتصاد.
- لا تجعل من تقدير الناس ميزاناً لقدراتك؛ فلربما بخسوك أو أوهنوك.
- شيء من الغرور قد يكون لازماً للطموح والإقدام.
- كان يدعو لتكوين جامعة عربية تكون طريقاً للوحدة الإسلامية.
- على مَن يسعى لإنشاء جامعة عربية أن يحقق أمرين: تحسين العلاقة مع تركيا، والحذر من الإنجليز.
- جمعية الأمم أداة للتفاهم بين الدول القوية؛ كي تسود العالم، ولا عزاء للضعفاء.
- موقف الفرد في النظام الإسلامي-يعني الشورى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- إيجابي للغاية، حيث أنه ملزم بطاعة الشريعة، والعمل على حمل الغير لإطاعتها.
- حين تسير ومعك الإيمان والأمل يقوى عزمك، فاللهم اجعل إيماننا قوياً، ففيه كل الأمل.
- متى يحين الوقت الذي تخدم السياسة فيه العلم؟
- من الحزم تخفيف أثر ما سيقع من شر إذا كان وقوعه حتمياً.
- حتى تستطيع أن تغلب خصمك اجتهد أن تفهمه أولاً.
- صيانة الوفاق بين المواطنين شرط أساسي للسلم الاجتماعي.
- لأن تكون موضعاً للحقد والغيرة، خير من أن تكون موضعاً للرثاء والشفقة.
- لا يستحث العزيمة ويشحذ الهمة إلا المثل الأعلى.
- لا تنتصر الفكرة المعنوية إلا إذا سارت في خدمتها القوة المادية، ولا تدوم القوة المادية إذا لم تكن في خدمة الفكرة المعنوية.
- لا يعترف الإنسان غالباً بنقيصة فيه إلا حينما يشعر بأنه أصبح أقوى منها.
- يستمد الإنسان السعادة الحقيقة من داخل نفسه.
- الخوف من الخطر هو الخطر.
- يجب أن تعرف كيف توفق بين الصداقة وطبيعة البشر؛ كي تحافظ على أصدقائك.
- لا يعترف الناس بمزايا رجل إلا إذا غاب بموت أو ضعف؛ لأنها انتفت حينذاك!
- استخذاء المحكومين هو سبب الذل وليس عسف الحكام فقط، فلو قاوم كل واحد العسف، وتحمل العنت، لما عاش عمره كله في الضيم والهوان.
- العمل، والصبر، والتفاؤل، هي أدوات النجاح، وقبلها ومعها وبعدها الإيمان بالله.
- يقوم المجتمع على دعامتين: التعاون والتنافس.
- هنيئاً لحكومتنا المظفرة أنها دائما على حق، وتكسب الرهان.
- نحن أمة فذة: ثلاثون مليوناً ينظرون بعين واحدة، ويسمعون بأذن واحدة، ويتكلمون بنفس اللسان.
وقد كان في صنيع الفقيه القانوني الكبير د.السنهوري سنَّة لمن لا يستطيع الكتابة الطويلة، بسبب ضيق الوقت، أو الخوف من السلطة، أو فقدان مهارة الكتابة. وما أحرى أصحاب الأفكار أن يدونوا خواطرهم وأفكارهم، وما أجدر أهل الأخبار والذكريات أن يسطروها، كي تخرج للناس ولو بعد حين، فتكون من العلم الذي يُنتفع به، ولعلها أن تكون لسان صدق لصاحبها في الآخرين.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 11 من شهر ذي القعدة الحرام عام 1438
03 من شهر أغسطس عام 2017م
6 Comments