إبراهيم العقيل: نظام عدل من الزُّبير
كتبت سابقًا مقالة عن وجيه الزُّبير الشيخ محمد السليمان العقيل بعد قراءتي للكتاب الذي ألّفه عنه نجل شقيقه المحامي د.خالد بن عقيل العقيل، وفي آخر الكتاب أضاف المؤلف فصلًا للتعريف بأشقاء عمه، والتعريج على شيء من مآثرهم، فلفت نظري ماورد عن الشقيق الأصغر إبراهيم، وما له من منجزات حقوقية ومجتمعية وثقافية وإعلامية وتجارية في بلدة الزُّبير النجدية بالعراق التي احتضنت القادمين من حَرْمة في سدير وغيرها من مدن نجد.
درس الشيخ إبراهيم السليمان العقيل (1330-1420 = 1911-1999م) بمدرسة النجاة الأهلية في الزُّبير التي كان شقيقه الأكبر أحد مؤازريها وعضو هيئتها التأسيسية، وتخرج في كلية الحقوق بجامعة بغداد عام (1358=1939م) وهي كلية عريقة في عمدائها وأساتذتها وطلابها ويكفي أنّ منهم العلامة الدكتور عبدالرزاق السنهوري، وبذلك يكون المحامي إبراهيم من أوائل أهل نجد في دراسة الحقوق والقانون، ومن براعته واجتهاده أنه يجيد مع العربية الإنجليزية، ويلم بالفرنسية، مع تشبع بثقافة إسلامية وعربية ظهرت آثارها على فعاله الحميدة.
ثمّ عمل في المحاماة، والنيابة العامة، والقضاء، والبلدية، وشارك في الانتخابات النيابية، ومارس العمل الصحفي، واستبان خلال مسيرته المهنية المتنوعة انكباب الرجل على المصلحة العامة، وانصرافه عن حظ النفس، والتزامه بما يراه عدلًا، وامتناعه عن الانصياع لترهيب، أو الانزلاق خلف ترغيب، فبحثه مقتصر على الانصاف والحقيقة، ولذلك يرفض دخول أيّ طرف في أحكامه، وما أصعب هذا المسلك الرشيد على من خاض في مجالات التحاكم والشأن العام.
فمن أخباره أنه يأمر إدارة الشرطة ألّا يبات موقوف في السجن حتى يراجع هو بصفته القضائية لوائح الاتهام، فإن ثبت له أو غلب على ظنه ما يوجب استبقاء المتهم فعل دون تردد، وتحقق بلا تأخير أو إضرار بالسجين وأهله، وإلّا أمضى البراءة الأصلية المستصحبة، فتكديس المساجين ليس بذي جدوى؛ وسلبياته ظاهرة متفاقمة،ولأجل ذلك ظل يستقبل قضايا الموقوفين في بيته حتى منتصف الليل كي لا يبات البريء منهم.
ولا يحكم إلّا بما يراه أقرب للتي هي أقوم خاصة ضد الأشخاص المحالين للقضاء بسبب معارضتهم فكريًا أو سياسيًا، ويطلق سراح البريء غير مبالٍ بمن أحاله إلى المحكمة، ويعظم هذا الصنيع إذا علمنا أن العراق الأشم مبتلى بحكومات تسلطية في غالب أطواره، ثمّ ازداد عنف الانقلابيين واستبدادهم؛ فمن يطيق النطق بكلمة حقٍّ أمام هذا السلطان الجائر فضلًا عن موقف ثبات مخالف لأهواء ظلمة بغاة؟
أما أعجب فرائده العدلية، فهي أنه يحكم وفق اجتهاده على من يستحق الغرامة بدفعها، أو يلزم المخطئ بنظره أن يدفع شيئًا من المال للطرف الآخر، وإذا كان المحكوم عليه من الضعفة أو الفقراء فإن العاطفة تدرك القاضي فيبذل المبالغ المستحقة من ماله الخاص؛ ليجمع الفضل مع العدل، والرحمة إلى الحكمة، وما أجمل اجتماعها فيمن يتولى الحكم بين اثنين فأكثر.
ومع هذه الرأفة في نفس أبي نزار، إلّا أنه صلب أمام أعمال الخيانة، ولذلك أصدر حكمًا بالقتل على تاجر يهودي في البصرة ثبت باليقين لديه أنه عميل لليهود، وأعان الحركة الصهيونية بالمال والسلاح ليغتصبوا أرض فلسطين ويذيقوا أهلها عذاب القتل والطرد والتنكيل، ومن دقيق حرص القاضي إبراهيم العقيل ومتابعته أن أشرف بنفسه على تنفيذ شنق هذا الغادر عام (1368=1949م)،وبقي ساعات ليتأكد من وفاة هذا المدان لأنه لم يمت من الشنق أول مرة، وفعل ذلك دون أن يرفع رأسًا بتهديد الموساد له.
ومن الطبيعي أن يتعرض صاحب المكانة في أي منظومة عدلية إلى حرج ومضايقات، بيد أن صاحبنا أصر على رفض الدعوات الخاصة أو أي تسهيلات تجارية، وأبى النزول من علياء الاستقلالية إلى حضيض التبعية، فأوذي بالنقل لمناطق نائية دون أن يتزحزح عن نهجه، ولوح باستقالته مرتين وأمضاها في الثالثة بلا رجعة، وقاوم مغازلة رئيس وزراء العراق الأشهر نوري السعيد له بحقيبة وزارية، ولا غرابة في هذا الإجراء السامي فالقضاء عرض البلد، ومن المروءة والكمال صيانة جنابه، والحيلولة دون أي قفز عليه، ومنع المتطفلين والمطففين من إفساده.
وبعد استقالته من القضاء لم ينزو عن الخدمة العامة؛ وصار له نشاط إعلامي وصحفي، وأصبح نائبًا في البرلمان واستطاع بفصاحته ومنطقه تحقيق انتصارات مشهودة للمصالح العامة عجزت عنها كتل برلمانية، ثمّ عاد إلى التجارة مع أشقائه، قبل أن يقفل إلى بلاده الأصلية، ويستقر في الرياض إلى أن توفي تاركًا لنا مثلًا من النزاهة والصرامة والشموخ.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الإثنين 10 من شهرِ الله المحرم عام 1441
09 من شهر سبتمبر عام 2019م
2 Comments