قراءة وكتابة لغة وأدب

ابن عم الكلام!

ابن عم الكلام!

سوف نتكلّم ولابد، ومن اللطافة ألّا تكون ألفاظنا كلومًا مؤلمة للآخرين خاصة أولئك الذين لا يستحقون بحكم السنّ، أو المكانة، أو الخلق الحسن، أو ندرة الخطأ، مع أنّ ضبط اللسان المحصور داخل الفم وبين الأسنان من أصعب ما يكون، وضرورات “القصف” تغلب حكمة السكون والتريث أحيانًا؛ ولذا فكم من إنسان أوذي بباطل أو بحقٍّ بسبب لسانه وكلماته المنطوقة أو المكتوبة، والله يحمينا بالعقل والعدل، وبشريعته قبل ذلك وبعده.

لأجل ذلك فما أحوجنا بعد معرفة فنّ الحديث إلى إجادة استخدام ابن عم الكلام دفعًا للحرج، ومنعًا للمساءلة، وإبقاءً على الود، واحتفاظًا بخطوط الرجعة. ابن العم البار هذا أشار إليه الشاعر النجفي الفقيه علي الشرقي حين نصح ابن خاله الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري قائلًا في قطعة شعرية جميلة:

ما لدار السلام أضحت برغمي تشتهي أن تكون دار الخصامِ
تنطح الصخرَ في قرونٍ من الطين وترمي الأمجاد بالأقزامِ
مالها تحسب الفصيح دخيلاً وترى الصقر من طيور الحمامِ
يا ابن خالي أوصيك من بعد هذا كلّم الناس بابن عمِّ الكلامِ

بناء على نصيحة الفقيه الشاعر الذي لم يأخذ نصيبه من الشهرة، واستجابة لما قد يرد في ذهن القارئ، سوف أذكر بعض الطرق التي ربما تنفع في إتقان فنّ التحدث من خلال ابن عمّ الكلام. ومن المناسب التنبيه إلى أنّ ابن العم هذا ربما لا يفيد أحيانًا بل تكون مضرته أشدّ، كما سمعت من أحد المحامين العرب الكبار أنه شفع لكاتب مشهور في بلاده قبل ثلاثين عامًا بعد أن اعتقلته السلطات، فقال له ضابط قديم: لو كتب فلان بوضوح لما اضطررنا إلى تفسير كلامه بسوء يؤاخذ عليه!

ومن الطريف أن شاعرًا عربيًا أسرف في استعمال الترميز بجميع قصائد ديوانه الشعري الجديد؛ فاشترط عليه جهاز الرقابة في بلده لإجازة الديوان أن يطبع منه نسختين فقط: واحدة له، والأخرى لمعشوقته؛ لأن غيرهما لن يفهم هذا الكلام المبهم! وثمت تنبيه آخر يتوازن به التنبيه الأول، وخلاصته أنّ ابن عم الكلام لا يُقبل من أناس أعيان خاصة في العيان، أو خلال مواقف فاصلة مثل الحكم والشهادة ونصرة المظلوم؛ فقيمة الحقّ الصريح أعلى من أيّ شيء.

من طرق استخدام ابن العم العزيز هذا تكرار السؤال على السامعين إذا لم يرد الجواب المطلوب، وفي قصة معركة بدر الكبرى شيء من هذا حينما أعاد النبي صلى الله عليه وسلم السؤال عن الاستعداد لخوض الحرب كي يعرف حقيقة ما في نفوس الأنصار -رضي الله عنهم- الذين بايعوه على الحماية داخل المدينة؛ فكان جواب سعد بن معاذ رضي الله عنه حاسمًا. إن تكرار السؤال طريقة ينتهجها الزعماء مع مستشاريهم؛ حتى يسمعوا الجواب الذي يبحثون عنه، أو يظنون أنه الصواب.

كما يمكن خلط ابن العم مع شيء من الوعظ والأخلاق الفاضلة، ومن ذلك أن معاوية بن أبي سفيان سأل الأحنف بن قيس – رضي الله عنهما- عن رأيه في أمير العراق عبيدالله بن زياد خاصة بعد أن استراب معاوية من ترتيب الأحنف المتأخر في وفد العراق، وإهمال الأمير الواضح له، فأجابه أبو بحر من فوره بعد أن استجمع قدراته البيانية، وغلبه حلمه المعروف، فكثّف المعنى الذي يريده بقوله: أخشى الله إن كذبت، وأخشاك إن صدقت! وهذا الجواب يسقِط ابن زياد، وهو جواب فخم قمين بكلّ ذي سلطان أن يمتلك من حلم معاوية ما يؤهله لسماع مثله في كبار موظفيه ومعاونيه.

أيضًا من ابن عم الكلام وصف المرأة الفقيرة لبيتها بأنه خالٍ من الفئران كناية عن الجوع وانعدام الطعام، وثناء أخرى على زوجها بالصيام والقيام وهي تعرّض بانصرافه عنها وعن الواجب الزوجي نحوها، وطلب رجل من الخليفة أن ينقل أميرهم الغشوم إلى بلدة أخرى؛ كي تنعم باقي البلاد بعدله الذي يراه الخليفة فيه، وذكاء العابر حين أخبر الأمير الذي رأى أسنانه في المنام ساقطة أنه أطول أهل بيته عمرًا؛ فنال جوائزه خلافًا لعابر لم يوفق إذ فجع الأمير بقوله: سيموت أهل بيتك كلهم قبلك، والمعنيان واحد مع اختلاف طريقة العرض.

ومنه الابتداء بسؤال يكون جوابه ملزمًا أو مأرزًا يُحتمى به وإليه من غضبة أو لوم، ومن ذلك أن قالت فتاة لأحد أمراء المدينة النبوية عبر التاريخ: ألست تحكم المدينة التي حكمها النبي عليه الصلاة والسلام؟ فقال: بلى، وحينها اهتبلت الفرصة قائلة بأن النبي لا يرضى بكذا وكذا من المخالفات فأذعن لحكمتها وأزال بعض المنكرات، ويمكن اللجوء إلى طرح الفكرة على هيئة سؤال أو تساؤل لا يلزم منه تبني المتحدث لرأي أو اتجاه، وهي طريقة أشتهر بها الشيخ عبدالعزيز التويجري حسبما كتب عارفوه.

كذلك يمكن أن يخرج المرء من الكلام إلى ابن عمه بالدعوة إلى التأمل واقتراح تقليب أوجه النظر، أو بالتلميح إلى قصة قديمة أو حديثة، أو الاستناد إلى مثل أو حكمة معبرة كما علّق أحدهم على رأي إنسان انتقص به الآخرين بأنه يؤمن بالحكمة الصينية التي توصينا ألّا نقيس عمق الماء بقزم! وحينما أظهر الشريف المرتضى الازدراء للمتنبي واحتقره في مجلس أدبي بداره، انتفض المعري لقدوته الشعرية مستشهدًا ببيت شعر له، فغضب الشريف وطرد أبا العلاء وسط استغراب الحاضرين، حتى فسر لهم سبب هياجه بأن البيت الذي قاله المعري يقع في قصيدة للمتنبي يقول فيها بأن ذمه من قبل إنسان ناقص هي شهادة له بالكمال!

وفي اللغة العربية شواهد على ابن عم الكلام، فهي تقول للصحراء مفازة، وعن اللديغ سليم، وتسمي جموع المسافرين العابرين للمخاطر قافلة، وهذا فيه تفاؤل وابتعاد عما يسوء، وعند الإنجليز براعة في ذلك، فهم لا يحكمون على عمل غير الخبير بما يحطمه ولكن يقولون له: نرغب بمشاركتك، أو دعنا نحاول من باب آخر، وهكذا من جنس الكلام المفيد في التعامل دون أن يؤذي الآخرين، ومن أدمن قراءة أمهات كتب الأدب فسيجني منها الأدب والبلاغة وقدرًا من العقل والحكمة؛ فمن وعى شيئًا سينطق به غالبًا.

أيضًا من سبل استخدام ابن العم النافع استدعاء التاريخ، وإيراد الاحتمالات الممكنة، وهو مخرج يجعل المتحدث يذكر كلّ شيء متكئًا على قوة الاحتمال، ومنها استخدام السؤال الافتراضي “ماذا لو”، ومنها استخدام المعاريض فهي مندوحة عن الكذب، وفيها أكثر من مخرج، ولربما كان قول لا أدري من أبناء عم الكلام في بعض المواطن، وكذلك التلّطف في العرض والطلب حتى لا يشعر أحد بما يريب كما فعل أحد فتية الكهف المؤمنين.

ولا مناص من التأكيد على أن هذا الاستخدام تضبطه أحكام وأحوال، وأن المداومة عليه من إنسان حتى تصبح سمة عليه وديدنًا له ربما تصنع حاجزًا بينه وبين الناس، حتى تكفهر الوجوه وتتجهم من أيّ كلمة يقولها؛ لأن العقول تعاملها على غير مرادها، وتحسبها من جنس ابن العم الضار حينها، والتوسط مطلب تحلو به الحياة، وكما يحتاج بنو آدم قاطبة إلى الكلام؛ فهم بحاجة إلى ابن عم الكلام، ولكل منهما قدر وسياق، وهما من ضرورات السلوك القيادي والتربوي.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

السبت 11 من شهرِ جمادى الأولى عام 1442

26 من شهر ديسمبر عام 2020م 

Please follow and like us:

One Comment

  1. جزاك الله خيرا على هذه المقالة القيمة النافعة . سائلين العلي القدير ان يمن علينا بمصاحبة ابن عم الكلام النافع ويجنبنا ابن عم الكلام الضار من قول او سماع .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)