سير وأعلام عرض كتاب

عبدالعزيز الصويغ ومسيرة خارج الصندوق

عبدالعزيز الصويغ ومسيرة خارج الصندوق

حملت هذه السيرة عنوانًا مختلفًا هو: خارج الصندوق مسيرة حياة، وهي من تأليف: عبدالعزيز حسين الصويغ، صدرت الطبعة الأولى منها عن دار جداول للنشر والترجمة والتوزيع عام (2020م)، وتقع في (383) صفحة، مكونة من إهداء ومقدمة ثمّ سبعة أقسام من الجذور إلى مسك الختام، وفي تلك الأقسام ثلاثة وعشرون فصلًا، وقد أهدى المؤلف كتابه لوالديه وزوجه وأبنائه، وتظهر في السيرة علاقة وثيقة بين الابن وأبيه حتى بعد رحيل الوالد عن الحياة الدنيا.

لم يحتفظ الكاتب بشيء من الوثائق ولم يدوّن أحداث حياته حال وقوعها، وبعد تقاعده بدأ يسرد شيئًا من سيرته ثمّ توقف؛ وكان من حسنات جائحة كورونا عودته للكتابة على إثر الحجر المنزلي الإلزامي أو الاختياري، وهذه رابع سيرة ذاتية سعودية اطلع عليها أنجزها أصحابها إبّان وباء كورونا. وفي تعزية للنفس قال المؤلف: إنه عزم على مواصلة التدوين ولو لم يقرأها إلّا الأبناء؛ وأكدّ بأنه يكتبها في الوقت الضائع بعيدًا عن أيّ مطمع دنيوي، وآمل أن يكون جهده غير ضائع في حساب الآخرة وموازينها بإذن الله.

وصفت السيرة “جدة” القديمة بأحيائها ومدارسها ومقاهيها وشوارعها وحركة الناس فيها، وأبدى أبو فيصل حزنه على هدم سور جدة التاريخي، وذكر أن عمه أصبح عارفًا بالأدوية وشؤون الصيدلة بالخبرة والممارسة، بينما صار والده مهندسًا كهربائيًا بالخبرة أيضًا هذا غير جرأته التجارية في ابتداء مشاريع غير مسبوقة لأكثرها علاقة بالكهرباء وإن شملت الأحذية حتى صار المؤلف وإخوانه ينتعلون الجديد منها باستمرار.

 كما نقلت السيرة شيئًا من وصف “القاهرة” بعظمتها ونظافتها وحيويتها الفكرية آنذاك، وعرجت على شيء من خبر “لبنان” وبذور الحرب الأهلية التي غرست قبل نشوبها بعقود، ومن القاهرة اكتسب حبّ القراءة والأدب والفنون، ودرس في كلية فكتوريا، ومارس الرياضات كلّها باستثناء السباحة لأنه كرهها بعد أن كاد يغرق في صغره بسببها، وجاورهم في عمارتهم بالقاهرة الممثلة برلنتي عبدالحميد، والكاتب نجيب محفوظ، ولهذا الجوار عواقب بسبب نفوذ الممثلة وارتباطها بأحد عساكر الانقلاب.

وحينما عاد من مصر إلى جدة تدرب عصرًا على الطباعة والمحاسبة في أحد المتاجر، ودرس صباحًا ولقي حرجًا من لهجته المصرية وعنتًا من أحد الطلاب، فعالج هذه الإشكالية بتعلّم اللهجة الحجازية، وغدا هذا العلاج علّة أخرى مع دراسته الجامعية في الرياض التي لاحظ فيها اختفاء الأنثى! وسكن في العاصمة بشقة مع زملائه غدت مزارًا وملتقى للأصحاب حتى سميت “بيت الأمة”، وربما أن هذا الوصف مقتبس من اسم منزل الزعيم المصري سعد زغلول، ويوحي باهتمام سياسي وثقافي عند قاطنيه من الطلاب.

وقد درسه في كلية التجارة د.غازي القصيبي الذي حثّهم على القراءة ولو أن يقرأوا كتاب رجوع الشيخ إلى صباه! وبعد تخرجه في الجامعة عمل معيدًا بلا مهام سوى بعض المناكفات مع زملائه، وأحيل لما يشبه التحقيق بسبب تلطفه مع طالب في أثناء أداء الامتحانات، وعندما فُهمت الحقيقة وزال الشك اعتذر إليه عدة أطراف ممن لاموه أو اشتكوه إلى د.عبدالعزيز الخويطر وكيل الجامعة القائم بعمل مديرها.

ثمّ ابتعث إلى أمريكا لإكمال الدراسة العليا، وخلال خمس سنوات (1972-1976م) حصل على الماجستير والدكتوراه مع أن بعض الذين سبقوه للبعثة بسنوات قفلوا بعده إلى المملكة بسنوات، واستهلكوا ضعف المدة التي قضاها للدراسة هناك، ولقصر المدة استراب رئيس قسمه د.سليمان السليم، وعميد الكلية د.غازي القصيبي إلى أن كتبوا لجامعته واستيقنوا من سلامة موقفه وجديته.

ومع ذلك حاول أحد المسؤولين عثار توظيفه على المرتبة المتوافقة مع شهادته لولا إصرار المؤلف على استحقاقه، ومن طريف إقامته في أمريكا أن ابنته غادة صارت بسبب خطأ في النطق أمام ضابط الهجرة “فيلًا” وهي رضيعة لما تزل! وركب طائرة صغيرة فاكتشف أن ركابها هم عائلته فقط، وأن حامل الحقائب هو قائدها! وبعد أن نجا من السقوط في الهاوية وهو يتزلج أضحى يبتعد عن الثلج ويغني له، وكان موضوع رسالته للدكتوراه عن الاستخدام السياسي للنفط، وتقاضى عليها لاحقًا مكافأة مجزية من لجنة الإعلام البترولي في أمانة مجلس التعاون الخليجي.

بعد أن عاد للجامعة درّس فيها وعمل مستشارًا غير متفرغ لوزير الإعلام الشيخ د.محمد عبده يماني، ثمّ عُرضت عليه وظيفة وكيل مساعد للإعلام الخارجي فقبل؛ لكن إقالة الشيخ يماني وتعيين الأستاذ علي الشاعر عام (1403) قلبت موازينه الوظيفية حتى آل الأمر إلى مقترح من الوزير بتقاعده وهو في عنفوان الثلاثين، ونُقل موضوعه أمام نظر الملك فهد الذي رأى نقله إلى وزارة الخارجية وليس إلى جامعة الملك عبدالعزيز كما رغب، وله مع الملك فهد مواقف منها أنه طلب منه تقريرًا عن الإعلام، وأقترح اسمه مديرًا لشبكة تلفزيونية كبرى، بيد أنه لم يتفق مع ملاكها بسبب ما وضعه من شروط منها أن عمله مهني لا علاقة له بما يتجاوز حدود المهنة!

ومن خبرته في الإعلام أكد مشكلة هذا القطاع التي ذكرها آخرون قبله وبعده، وتتلخص في انخفاض الصلاحيات الإدارية أو الغبش والتداخل فيها، والشح في الموارد المالية التي يستلزمها نجاح العمل،  وألمح إلى غياب الحرية المنضبطة والحقّ في إبداء الرأي دونما تبعة إلّا وفق نظام معروف، حتى لا تحتاج الكلمة في وطني لجواز مرور كما يقول نزار قباني، وفي النهاية فصاحبنا لا يرضى أن يكون ذيلًا؛ وهذه السمة تجعله غير متعايش مع من أدمن إصدار الأوامر، خاصة الشفوي منها، وخصوصًا ما غلّف بدعوى المصلحة الوطنية، أو نُسب لتوجيهات عليا قد لا تكون موجودة من الأساس كما حدث للكاتب الصلب في وقائع أشار إليها.

عقب ذلك انتقل إلى وزارة الخارجية، وأصبح مسؤولًا عن الإدارة الإعلامية فيها والمتحدث الرسمي لها قبل أن تصبح تسمية المتحدث واجبًا شبه إجباري في أكثر الأجهزة الحكومية، وعانى من محاولات تضييق الدائرة القريبة من الوزير من قبل المحيطين به، وهي عادة جلّ البشر الذين تسيطر عليهم فكرة الندرة والمحدودية، ويحمل بعضهم الخناجر وراء ظهورهم كي يطعنوا بها فرائسهم على حين غرّة، وعند الله الملتقى وإليه المشتكى، ونتيجة لهذه التصرفات الخالية من النضج وصف نفسه بالساكت الرسمي!

أيضًا رشح للعمل سفيرًا في كوريا، ونال من هذه السفارة التي لم تتم علبتين فاخرتين من منتج كوري طبيعي للتنشيط والحيوية، وبدلًا من كوريا توجه تلقاء “هيوستن” بعد اكتشاف إصابة زوجته بالسرطان، وصدور أمر من الديوان الملكي بعلاجها، فاستثمر الفرصة مقترحًا على مرجعه تعيينه قنصلًا هناك بعد خلو المنصب، وهو ما كان لأربع سنوات بين عامي (1414-1418=1995-1998م)، وهي من أجمل سنوات عمره لولا أن رفيقته ترحلت من الدنيا حينذاك.

فاكتشف خلال عمله في القنصلية صدق نصيحة دبلوماسي سابق بأن يعتمد في الإنجاز على المتعاقدين للعمل من المقيمين في البلدة؛ لأن الدبلوماسيين من المواطنين يغلب على أكثرهم الانشغال بالدراسة، أو تخصيص جهودهم لفئات نافذة فقط، أو اللامبالاة بسبب أنهم يأوون إلى ركن شديد في الوزارة، وهذه الشهادة الواضحة من القنصل جديرة بأن تكون موضع إلتفات ونظر كي يرتقي عمل السفارات وأمثالها في دول العالم كافة إلى المأمول والمفيد.

كما لاحظ التباين في أحوال المرضى، فمنهم من جاء على حسابه الخاص وهو يئن من ثقل المصاريف ووطأة المرض، ومنهم من تكفلت بعلاجه الحكومة ضمن الحد الأدنى من التكاليف، بينما حظي بعضهم بمعاملة خاصة إذ يقيم في جناح فندقي كبير، ومعه مرافقون لكلّ واحد منهم غرفة خاصة، وأما في المستشفى فللمريض غرفة مميزة تشبه الجناح إضافة إلى غرفتين لمرافقيه، مع تجهيز مائدة يوميه له ولمرافقيه وضيوفه، ولطاقم الأطباء والتمريض، وأشدّ ما في هذه المأساة أن هذا المريض لم يأتِ وهو يعاني من سرطان أو تليف كبد أو احتشاء قلب لا قدر الله، وإنما فقط “إبهامه الكريم” يلّج عليه بالألم والوخز أحيانًا!

أما مواقفه خلال عمله الدبلوماسي فمنها أن أحد موظفيه ضرب زوجته بحزام بنطلونه أمام جيرانه مما عرضه للمساءلة الدنيوية الشديدة؛ فأخرجه من فوره وأشخصه للمملكة رغمًا عنه حتى لا يصير مادة للصحافة بسبب سوء فعلته وشناعتها، وحين رمي طالب مراهق في كندا بتهمة التحرش وحجزت السلطات جوازه، أصدر له جوازًا باسم مستعار وأرجعه للسعودية، وظلّ يتابع مع الأجهزة الحكومية هناك للبحث عن الفتى المفقود! وبعد أن زادت طلباته الكتابية للسفارة في واشنطن كي يُضم المرضى للعلاج على نفقة الحكومة قيل له بصراحة لا تكتب! واضطر ذات يوم رمضاني لأداء صلاة المغرب في فندق فلم يجد أنسب من مكان تحيط به زجاجات الخمور والنبيذ.

ومن حسناته ذلكم التفاعل مع الجامعات ووسائل الإعلام في كندا حينما عمل سفيرًا فيها لمدة تقصر عن المعتاد، وهي الدولة التي لاحظ فيها سيطرة اليهود مع قلة تعدادهم البالغ أقلّ من ثلث عدد المسلمين، ومع ذلك فلهم تأثير ومكانة جعلت رئيس الوزراء الكندي المحافظ يرحب بملك الأردن ويصفه بأنه من دولة جارة لدولة صديقة لكندا يعتز الشعب الكندي بصداقتها وهي إسرائيل! ولم يكتف الرئيس بهذه الصفاقة وانعدام اللباقة بل قام تاركًا ضيفه قبل نهاية حفل الترحيب!

اختير عضوًا في مجلس الشورى (1418-1422) بعد نهاية عمله في “هيوستن”، وله وإن قصرت المدة مواقف مع الشيخ ابن جبير وغيره، وعنده آراء منها ضرورة تفعيل المجلس بالانتخاب، والرقابة المالية، والصلاحيات النيابية الحقيقية، وفي الكتاب لفتات إدارية وفكرية فيما يخصّ الإعلام الخارجي، والشورى، والعمل الدبلوماسي، وجدير بالمهتم أن يرجع إليها، ومن طريف شؤون الشورى تصميمه شكل كرسي للأعضاء، بحيث يصبح مناسبًا للنوم والغفوة؛ فنعاس بعضهم أجدى وأنفع من يقظتهم المضرة!

لم تطل عضويته الشورية إذ عين مديرًا عامًا لفرع وزارة الخارجية بمكة بين عامي (2002-2006م)، وهو منصب يطلق عليه الشيخ أحمد عبدالوهاب وصف وزير خارجية جدة، وفي عمله القصير نسبيًا أوصى موظفيه أن يهتموا بصغار المراجعين فالكبار يعرفون الطريق جيدًا، وطالبهم بوضع أنفسهم مكان المراجع، وكرّس لديهم الشعور بأنهم مكلفون للخدمة العامة، وهذه المبادئ عظيمة لو روعيت في كلّ مكان عمل لما ضاع حقٌّ أو تأخر شأن، ولذلك لم تتجاوز مدة إنهاء العمل في فرعه ثلاثة أيام فيما يستغرق إنجازه مثيله عدة أسابيع في مقر الوزارة بالرياض حتى صار الفرع الغربي ملاذًا للهروب من تعقيدات الرياض.

لأجل ذلك -ربما- غادر إدارة الفرع إلى سفارة كندا بعد إتمام بناء جميل لفرع الوزارة في جدة يقع أمام ساحة القصاص، وتقديرًا لجهوده وتفانيه أقيمت أكثر من أربعين حفلة وداعية له في مكة وجدة، وسمع في حفل استقبال الملك عبدالله السنوي للسفراء فلتة لسان من مدير إحدى الإدارات في مقر الوزارة بالرياض يعلن فيها ابتهاجه بالخلاص من الصويغ الذي أصبح سفيرًا في كندا، وبعيدًا عن الفرع الذي نافس الأصل.

كما يوجد في الكتاب آراء جريئة وأخبار صريحة جعلته خارج الصندوق فعلًا، منها مقترحه أن يعتني التلفزيون ببرامج الأطفال لأنها ميدان فسيح خلافًا للميادين التي احتلتها قنوات أخرى، ورأيه في العلاقة بين المثلث الإسلامي المكون من المملكة وتركيا وإيران، ومقترحاته بخصوص اليمن وانضمامها لدول مجلس التعاون الخليجي، ورفضه لاستقبال زعيم تونس الهارب الذي لم يكن قريبًا من الله ولا من شعبه، وليس في استضافته أيّ مكسب حسبما بدا له.

كذلك تصريحه بما وقع في نفسه وهو يحضر لقاءات ونقاشات مع بعض المسؤولين الكبار، واقتراحه على وزير الداخلية الأمير نايف إبطال قرار للوزير الشاعر بطرد صحفي أمريكي من الواشنطن بوست بسبب تقرير مسيء أعده تزامنًا مع حرب تحرير الكويت، ومن آخرها أن سياسة الإصلاح الاقتصادي دون السياسي غير مضمونة النجاح؛ فليست الدول مثل طائر الفلامينغو الذي يستطيع الوقوف على قدم واحدة فقط.

أيضًا أفاض الكاتب الأديب في الحديث عن شؤون الكتابة وتشابكها مع المنصب، حتى أن أحد مقالاته تسبب في تسريع عودته من كندا كما يشاع، وحاول بعض زملائه ثنيه عن الاستمرار في الكتابة بحجة أن ذلك توجيه من الوزير وتبين كذب الناقل، ولم يسلم ممن ألمح إليه وجود شعور بالتضايق من حضوره صالونًا أدبيًا أسبوعيًا، ومع ذلك لم يرضخ لشيء من هذا التهويل، وكسب نفسه ولم يخسرها، وظلّ بحسب تعبير الكاتب محمد سعيد طيب عقالًا يوضع فوق الرأس وليس مداسًا للمنتعلين، وأيقن بعد التطواف ومغالبة البشر من صدق مقولة غاندي الحكيمة: كثيرون حول السلطة قليلون حول الوطن!

ولا يخلو الكتاب الماتع من حكايات مخيفة أو طريفة أو محرجة، مثل حادثة سقوط العمود في ثاني اجتماع لقادة دول مجلس التعاون الخليجي بسهو من الكاتب لولا أن تداركته يد د.فؤاد الفارسي وإلّا وقعت كوارث ذات رؤوس، ومنها قصة تكالب الصحفيين في مؤتمر الطائف، وزيارة الكاتب المصري محمد حسنين هيكل للرياض والجفوة التي قوبل بها، وحكاية التأخر عن الدوام التي اعترف بها، والجدل مع وزير الخارجية، ومقالات فيها سياج المحبة، وأكل التراب، ومغاضبة بعض الوزراء، ومسألة دفن موتى المدينة في البقيع، وغيرها كثير كثير.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الثلاثاء 09 من شهرِ ربيع الآخر عام 1442

24 من شهر نوفمبر عام 2020م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)