سير وأعلام عرض كتاب

 محمد بن أحمد الصالح: بين المجمعة والمجامع!

 محمد بن أحمد الصالح: بين المجمعة والمجامع!

من المجمعة إلى مجمع البحوث الإسلامية هو عنوان السيرة الذاتية التي كتبها الشيخ أ.د.محمد بن أحمد بن صالح الصالح، وأصدرت دار الثلوثية طبعتها الأولى عام (1442=2020م)، وتتكون السيرة الصالحية من مجلدين عدد صفحات الأول (437) صفحة، وأما الثاني فيقع في (328) صفحة، وفيه نصوص لمحاضرات الشيخ ومقالاته مع صور ومكاتبات، بينما يسرد المؤلف في الأول سيرته ممزوجة بمقالات كتبها علماء وأساتذة عن بعض كتبه النفيسة.

ولد الشيخ في المجمعة ليلة النصف من شعبان عام (1361) التي توافق 27 من أغسطس عام (1942م)، وعليه يتوافق ميلاده بالتقويم الهجري مع ليلة يرى البعض بركتها وخصوصيتها، وفي التاريخ الميلادي يوافق موسم نضج الثمار الشهية الطيبة من التمور والأعناب وهما خير أشجار الجنة أو من خيرها، وآمل أن يكون هذا التوافق قد ألقى بظلاله على الشيخ الكريم فغدا مباركًا في نفسه وعمله ومساعيه، وفي إنتاجه العلمي والتربوي والدعوي، مع لذاذة ومؤانسة في الحديث يستطعمها من سمعها ولو لمرة واحدة.

توفيت والدته لطيفة بنت عبدالعزيز الحويل عام (1372)، وكانت هي كلّ شيء لطفلها الذي حرم نعمة الإبصار منذ ميلاده، وأما والده فتوفي عام (1395)، ومن قصص الطفولة العجيبة أن الشيخ عبدالعزيز العبدالمحسن التويجري كان ينزل من سيارته إذا رأى الطفل محمدًا -وهي السيارة الوحيدة في المجمعة آنذاك- ويسلّم عليه قائلًا: أنت طه حسين المجمعة! بينما قال له الأستاذ المربي عثمان بن زاحم: أنت خليفة الشيخ عبدالله العنقري! فكان لهاتين الكلمتين أكبر الأثر عليه، ويا ليت أننا نفحص كلماتنا لأطفالنا، وأن نحرص على صياغتها بإيجابية وتفاؤل!

واتضح لي من خلال قراءة سيرة الشيخ حبه الكبير لبلدته المجمعة إنسانًا ومكانًا، وظهر ذلك من العنوان إلى المضمون، كما بدا أن التوفيق والتسخير رافقاه في جميع مراحل عمره، ومن ذلك ما وهبه الله من عزيمة وإصرار، وقدرة فائقة على تجاوز بلاء ذهاب نعمة العينين حتى لكأن الرجل يبصر إذ يتسلّق النخل ويجني الرطب، ويرتقي سطح بيته المعمور ويرش البناء بالماء، ويستخدم الدرج والمصعد، ويفتح الباب ويمشي في الأماكن، ويميز هيئة الإنسان من صوته، ويستمتع بالسياحة ووصف المناظر، والفضل من الله.

كما نلحظ من مزايا الشيخ مع السماحة وتقديم الخدمة والشفاعة، امتلاك الحافظة الثرية مع جمال الحديث مما يسر له السيطرة على المجالس إمتاعًا وإقناعًا، وعنده جَلَد مبكر على تحصيل العلم ونشره، ولأجل ذلك أمضى أكثر من سبعة عقود متعلمًا ومعلمًا، وشارك في مؤتمرات وندوات ومناقشات محلية ودولية إضافة إلى التدريس الجامعي والخطابة على منبر الجمعة، وانتظم في الكتّاب وهو في الخامسة من عمره، ودخل إلى المدرسة النظامية عام (1369) وقفز ببراعته عدة صفوف حتى أنهى الابتدائية بسرعة.

ومن حكمته الباكرة أن جعل أيّ مادة يقدمها ضمن أوراق المؤتمرات نواة لكتاب جديد، فأصبحت تآليفه كثيرة متنوعة، يصل بعضها لدرجة رفيعة من الإحكام سواء كانت في موضوعات الأسرة أو الاقتصاد أو الطفولة أو غيرها، وتتويجًا لهذه الغزارة ذات العمق والفهم أصبح عضوًا في مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف مع قامات علمية عام (1429)، وهو أول سعودي يحصل على هذه العضوية مع أنه ليس عضوًا في هيئات بلاده الخاصة بالفتيا والبحوث الشرعية.

كذلك لا تخطئ العين شبكة علاقات عابرة للحدود ومتنوعة الأطياف نجح الشيخ في بنائها، وتلك خصلة ورثها عن والده، ولذلك حوت سيرة شيخنا أخبار عدد جمٍّ من الأعلام في المجمعة، والرياض، ومصر، وبريطانيا، وغيرها، وربما أن سير بعضهم ليس لها مصدر غير ما دونه الشيخ في ذكرياته، وهذا يدعوني لاقتراح آمل أن تقتنصه إحدى المنصات المرئية أو المسموعة؛ فتعقد لقاءات مع الشيخ، وستكون ماتعة عبقة باشتمالها على التاريخ والعلم والأدب وشؤون الأسرة والفقه، وسوف تجدد العهد القديم ببرامج التلفزيون النافعة مثل أعمال الشيخ علي الطنطاوي وغيره.

وتضم شبكة علاقاته علماء، وأمراء، ووزراء، وأساتذة، وأدباء، وقسس، وسفراء ودبلوماسيين، وأثرياء، وآخرين من عوام الناس، وفيهم عرب وعجم، ورجال ونساء، وموافقون ومخالفون، وشيب ومكتهلون وشباب، ومن براعته في صنع هذه العلاقات أن صار مجلسه مزارًا وموردًا مطروقًا، وربما اجتمع عنده في مرة واحدة ثمانية عشر دبلوماسيًا ينتمون لدول كبار ترث حضارة الروم حتى طربوا لمقولة عمرو بن العاص رضي الله عنه التي يثني فيها على أربع خصال في الروم بعد أن سمعوها من الشيخ وطلبوا تكرارها.

ثمّ يروي الكتاب عددًا من الأخبار والطرائف والعجائب، فمن الأخبار أن الشيخ الشنقيطي رفض أن يكتم العلم حتى في قاعات الاختبار؛ ولذا صار لا يُكلف بمراقبة الطلاب، وحين استضاف المؤلف الشيخ صالح الحصين اشترط للموافقة على الدعوة أمرين هما: أن يكون الطعام صنفًا واحدًا، وأن تقتصر الجلسة عليهما فقط، ومنها واقعة أمنية عن العصا والعصافير التي ظنّها الضابط المسؤول رموزًا ذات دلالة خطيرة؛ لكنها كانت على حقيقتها بعيدًا عن أي خطر.

ومن القصص ما حدث لأعمامه في مزرعتهم وكيف أنجاها الله من النيران ومن مياه السيول، وحكاية فريدة لجدّه من جهة أمه مع الكلب الوفي، وكرامات الشيخ سليمان الحمدان، وفيها مواقف مع وزير الداخلية البريطاني الأعمى، ومع عمد مدن ومديري جامعات ومراكز شرطة في نيوكاسل وغيرها. ولا تخلو سيرته من طرائف عن أبي دلامة، وأشعار ابن سيار، وتعلّق البواب المصري بالبدوي حتى أنه خصص له خروفًا صغيرًا، فاشتراه الشيخ بمبلغ مغرٍ ليحافظ على دين البواب، وبعد أن أكلوه هنيئًا مريئًا توالت المصائب على البواب فظنها عقوبة من البدوي، بيد أن العاقبة له كانت حميدة بفضل الله ثمّ بتدخل الشيخ الذي تسبّب في علاج تلك المشكلات؛ فشفي الرجل من آلام بطنه، ورزق مبلغًا كبيرًا من المال يعوضه عن الحمار النافق، ومنح شهادة ترخيص رسمية لكلبه.

أيضًا تحفظ السيرة للمجمعة وأهلها عادات ولهجات، وأمثال وحكم، وبدايات التعليم والمدارس، وقدماء المعلمين من أبنائها أو من العرب الوافدين إليها، وطرق الختان والسفر والحج، وأحداث سنة الرحمة عام (1337)، وأول بيت بني في المجمعة باستخدام الإسمنت، هذا غير نتف عن بعض المثقفين الرواد مثل سليمان الكهلان، وإيراد معلومات عن بعض الأسر المنتمية إلى هذه البلدة وعن أفرادها البارزين، ولم ينس جدته لأمه التي ظفرت بأجر تحفيظه الفاتحة وبعض سور القرآن، وهو أجر يغفل عنه بعض الآباء والأمهات.

ومن خبر الشيخ مع ممارسة التعليم أنه يحفظ أسماء مئتين وأربعين طالبًا وأرقام مقاعدهم، ويتناقل عنه طلابه فيما سمعت تعبيرات جميلة حين يدرسهم أبواب النكاح في الفقه، وقد عانى كثيرًا من حظر الكتب وحجزها خاصة أيام الخلاف مع مصر عبدالناصر، فاضطر “لتهريب” بعضها مدفونة تحت أكوام البرتقال، وحين كتب رسالته للدكتوراه استعان بثلاثة قراء وكتّاب في مصر بأجور يومية، ووجد تسهيلات وتعاون كبير من العلماء والمسؤولين هناك تقديرًا لانتسابه إلى بلاد فيها الحرمان الشريفان، وإكرامًا لجديته واجتهاده.

ومما في ذكريات الشيخ الأموال اليسيرة التي اكتسبها أول مرة ولا يزال يحتفظ ببعضها، وأنه خطب (16) امرأة فقوبل بالرفض بسبب حرمانه من النظر حتى جاءه العوض من الله بعرض نفيس من زوج أخته الشيخ عبدالله النجران التويجري، وكان الخيار المعروض له خيرًا من بيئة أخيار وبيت أبرار، وعُقد قران الزوجين في شهر ربيع الآخر عام (1385)، ورزقهما الله سبعًا من البنات وولدين هم: آمنة، وعبدالله، وأحمد، وفوز، ونعمة، وأميمة، وحصة، ونهى، وتهاني.

لقد كان الشيخ ابن عصره، ومتعه الله بالحيوية والنشاط والبصيرة، ورزق انفتاحًا متزنًا خاليًا من الأهواء -كما نحسبه- دون تفريط أو تمييع، وحرص في جميع مراحل عمره أن يلتقي بأكابر المشايخ والعلماء والمؤثرين، ويربط الأواصر المتينة معهم، حتى أنه تكفل بإقامة حفلات وداع لبعض الذين غادروا المملكة من تلقاء نفسه دون التفات لإهمال هذا الواجب من قبل الجامعات التي عملوا فيها.

وأحسن الرجل تمثيل المملكة ومؤسستها الشرعية، ودافع عن منهجها ومعاهدها ورجالاتها وعملها الخيري، ونال التوقير والتقديم في بلاد عدة حتى ازدحمت عليه أفواج الناس في الجزائر، واستقبله الوزراء في المطار وودعوه منه، وألقى الخطب وأمّ المصلين في بلاد عديدة إكرامًا له وللدولة التي ينتمي إليها بثقلها الديني الكبير، وعسى أن تفتح سيرته الباب لغيره من المشايخ والقضاة كي يسطروا ذكرياتهم؛ حتى لا يتحدث عنهم غيرهم في المستقبل، والإنسان على نفسه بصيرة.

من جميل كلمات الشيخ قوله: “إن الحياة في العطاء للآخرين، وإن الصدق طريق الفضائل، وإن النزاهة هي الكنز الحقيقي، وإن العمل بكلّ إخلاص وصدق وتجرد يبعث على الطمأنينة والرضا، ويكسب به الإنسان ثقة الناس واحترامهم مع الأجر والثواب من الله تعالى”، وإني أقول بعد هذا التطواف: إن هذه السيرة النضرة، والمنجزات المباركة ليست بكثيرة على رجل ينتسب لأسرة لها تاريخ حافل، وحاضر مشرق فيه قاضي المدينة وإمام مسجدها لنصف قرن، ورجال التعليم الكبار في عنيزة والرياض، هذا غير آخرين نابهين في العلم والتجارة والمناصب من بنيها وبناتها في السعودية والكويت والزُّبير، وليس هذا بمستغرب من أسرة لها جذور ضاربة في عالم العراقة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الأربعاء 03 من شهرِ ربيع الآخر عام 1442

18 من شهر نوفمبر عام 2020م 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)