سير وأعلام

صالح الثنيان وسبع صور من البهاء

صالح الثنيان

صالح الثنيان وسبع صور من البهاء

صورة حياته الأولى تقول: هو طفل عمل في مزرعة أهله، وحينما أدركتها الجوائح انفتل إلى مزارع الآخرين بحثًا عن لقمة العيش ومساعدة الوالد في اكتساب الرزق، وفوق ذلك أعان الوالدة منزليًا في تنظيف الأواني ورعاية صغار البيت وهو لمّا يزل بعدُ في مرح الطفولة التي كانت بالنسبة له مليئة بالكدح والنَّصَب، خالية من الترف وبعيدة عن أدنى مستويات الراحة والرخاء.

كما تعطينا هذه الصورة ملمحًا آخر لطفل غمره الفرح حتى طفح البِشر على محيّاه حينما اُفتتحت في نواحي بلدته البدائع بالقصيم مدرسة حكومية عام (1368)، فلم يتوانَ عن الالتحاق بها مع ما يعانيه من عذابات الحياة وشقاء البحث عمّا يسد الرمق ويطفئ نار الحاجة، ومع الدراسة واصل العمل فجمع بينهما في ثنائية تعجّل من صنع الشخصية وصقلها، وترتقي بالطفل إلى عالم الرجولة مبكرًا، وتهبه القدرة على التعايش مع القسوة والمصاعب.

ومن الواضح في هذه الصورة أن الطفل العامل والدارس المجتهد كان يذهب لعمله أو لمدرسته حافي القدمين في لاهب الحر أو قارس البرد، ويخوض في التراب أو الوحل دونما وِقاء وإن قلّ، ولا يملك إلّا ثوًبا واحدًا يستر جسده دون إضافات، وحينما يأوي إلى مرقده استجابة لغلبة النوم القسرية تغدو الأرض فراشه الوثير، وتقوم السماء مقام لحافه الجميل، فليس عنده بساط تستقر عليه عظامه، ولا غطاء يلم أطراف جسده المنهك، ولعلّه ممن بات بعد أن كلّ فبات مغفورًا له، ومن عجائب صورته هذه أنه انتعل الحذاء أول مرة وعمره أربعة عشر عامًا!

أما صورة حياته الثانية فتخبرنا عن طالب علم يسافر إلى الطائف عام (1375) للدراسة في دار التوحيد ثمّ يكمل تعليمه الجامعي في كلية الشريعة بمكة، ويدرس على يد علماء معروفين مثل المشايخ عبدالله خياط، وعلي الطنطاوي، ومحمد الشعراوي، ومحمود الصواف وغيرهم، وفي الحجاز اهتبل الفرصة بناء على شخصيته التي لا تعرف الركود أو الاعتماد على الآخرين، واستثمر عبوره اليومي بجوار حراج الدراجات ليبيع ويشتري ويكتسب، تمامًا كما كان يصنع في طفولته الباكرة عاملًا بيديه، ومتاجرًا بما بين يديه من منتجات وبقايا.

وبعد أن تخرج في الجامعة عمل في التعليم فكان المعلّم والموجه والمعين، وأحبّ هذه المهنة السامية واقتبس من سابقيه أفضل التجارب، وحرص على تحفيز أيّ طالب أو معلم جديد، وحينما فتح الله له بابًا نحو التجارة رأى أنه يستعصي عليه الجمع بين العملين بما يمكنّه من أن يؤدي حقّ التعاقد مع عمله الحكومي على أكمل وجه؛ ولذا قدّم استقالة مبكرة بعد عمل دام إثني عشر عامًا، فحفظ ذمته من الخوارم والثقوب، وفتح الباب لغيره ممن ينتظر الوظيفة بلهف، وغدا محسنًا إبان عمله، ومحسنًا بعدما انصرف عنه كي يحلّ مكانه غيره.

ثمّ ننتقل إلى صورته الثالثة التي يبرز لنا فيها رجل أعمال ناجح مبارك في تجارة العقار وسيطًا أو مشتريًا أو بائعًا، وفي أعمال المقاولات، ومشروعات الأمن الغذائي والمائي، وتجارات أخرى بعيدة عمّا يريب أو يُشتبه به، وتوسعت أعماله بشراكات صادقة مع إخوانه وأصفيائه، وبقي حفظ الوداد وحسن الأحدوثة بينهم حتى عقب نهاية الشراكات على خير، فخبر منه الناس رجلًا سمحًا أمينًا صادق الوعد، ولعمر الله إن المال والسلطة لمن أدقّ الكواشف عن حقائق معادن الناس وتجلية كوامنهم، وقليل من يسلم من أوضارهما؛ بل أقلّ القليل.

وتأخذنا تلك الصورة إلى صورة رابعة ذات ألقٍ وإشراق، فالرجل الذي رأى المال يتدفق بين يديه لم يكتنزه أو يستثمره أو يستمتع به فقط، ولو فعل ذلك في حدود المباح فلا تثريب عليه، بيد أن نفسه تاقت لمطلوب أجلّ، ومبتغى أسمى، ذلك أن المصير المحتوم معروف عنده، وإن الإنسان لكادح إلى ربه كدحًا فملاقيه، فما ينفع المرء حين العرض إلّا ما أسلفه وقدّمه من الصالحات والأعمال النافعة الدائمة، ومهما قال الناس عن استشراف المستقبل؛ فلا حصافة عند امرئ يخطط لسنوات وعقود، ويغفل عن الاستعداد لمستقبله الأخروي الخالد.

لذلك ضرب الرجل بسهم يصيب ولا يطيش، ويكرّ ولا يفر، وإذا وجد الأثر الحميد والمغنم الأكيد استقر وأضحى مسلكه من معالم الرشد والاقتداء، ولأجل ذلك تصدق وأوقف قسمًا من أمواله، وشارك في مشروعات خيرية انتظمت في عقد وضّاء يشمل غالب حقول الحياة من خدمة القرآن ونشر العلم، وتنشيط الدعوة وبناء المساجد ودور تحفيظ القرآن الكريم، وتأهيل الفقراء وتشييد المساكن، والرفق البالغ بالأيتام، والمسابقة إلى برامج تنموية وصحية، وأخرى تستهدف الإطعام والإغاثة ومساندة الجمعيات والمستودعات بالمال والماء وثمار أربعين ألف نخلة في مزرعته، وخدم من خلال هذه المجالات الرحيبة بلده ومواطنيه وأمته في أصقاع شتى.

أيضًا من أعماله المشهودة في الساحل الغربي من المملكة على وجه الخصوص ما جعله حاضرًا في أكثر قرى الساحل ومدنه، حتى تسابقت المؤسسات الخيرية العاملة إلى شهادة مخلصة له بالكرم والعطاء دونما تأخير، والوفاء بوعده إذا أصدره وهي خلّة عزيزة عند البشر خاصة ذوي المال، مع فتح الباب للزوار دونما حواجز، كما تواتر الثناء عليه من المسلمين في إفريقيا وآسيا وأوروبا، وأولئك شهود لله على الخلق، وفيهم من الضعفة والأخفياء من لو أقسم على الله لأبره فيما نحسب.

ولا يمكن أن أغفل عن خصيصة عظيمة فيه، وهي بره بأبويه، فقد ترك الدراسة ظهرًا كي يعمل مكان أبيه فيستطيع الأب أن يغفو ساعة من نهار، وحين وصل إلى الطائف اقترض مبلغًا من المال وأرسله لوالده حتى يسعده ويدخل السرور إلى قلبه، وفعل ذات الأمر تجاه والدته برًا بها وتذللًا بين يديها وقام مقامها في البيت إذا غابت، وهكذا كان مع إخوانه وأخواته في التعاون والتطاوع، ومع بنيه وعائلته في التلطف وإتقان التربية وجميل العهد، وله تجارب لطيفة في السكن الموحد أو المتجاور، وخيركم خيركم لأهله.

لأجل ما مضى خُتمت في يوم الإثنين السادس عشر من شهر ربيع الأول عام (1442) صور الشيخ صالح بن ثويني بن علي الثنيان (1359-1442) في حياته الدنيا بصورة خامسة تحكي رحيله عن الحياة محمود المآثر كثير المفاخر، مع سماحة ونبل حتى حاز الثناء الوافر ثمرة لإحسانه المتواصل، وبسمته الحاضرة، وزكاء نفسه المشهود، وحسن صحبته ورفقته بالسفر، وجفوله من التعقيد والاحتجاب، وسماحته للسائل وتعجيله للمعروف إذا نواه حتى لا يحول دونه عارض من حال، أو خاطر من خيال، أو وسوسة من شيطان، وهي أمورد ترد على كلّ إنسان، والموفق من تعوذ بالله منها ونفث عن شماله.

وهو الآن في ظهيرة يوم الثلاثاء يُدرج في قبره ومثواه الدنيوي الأخير بمقبرة الصالحية في جدة، ونسأل الله أن تشفع له أعماله الصالحة المبرورة، وتغدق عليه بعد قبولها من الرحمن الرحيم؛ فتأتيه حسنات ممن أسلم واهتدى وتعلّم وقرأ القرآن، وممن عمل واحترف وطعم وسكن وشرب نقي الماء وتعافى من المرض، وممن تغلّب على اليأس وبقيت في نفسه جذوة الأمل برؤية نموذجه البهيج، وممن اهتدى بنهجه واقتفى أثره، حتى تجعل صورته السادسة في البرزخ إنسانًا آمنًا في مُقامه، منّعمًا بنفحات الرَّوح الطيب، ونور المرقد، وبارد المضجع، وندعو الله أن ينبعث الرجل الصالح مع الناس يوم المعاد إلى ربّ العالمين بصورة سابعة أخيرة يكون فيها من الوجوه الناضرة التي هي إلى ربها ناظرة، وفي أعالي الجنان متكئة مع الأبرار على سرر مرفوعة متقابلة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 17 من شهرِ ربيع الأول عام 1442

03 من شهر نوفمبر عام 2020م 

Please follow and like us:

4 Comments

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    معك بدور. وانا طالبة ماجستير واعمل بحث حول اللغة المستخدمة في المدونات.
    أحد أدوات البحث استبيان عن التناوب اللُغوي بين اللغة العربية الفصحى والدارجة في المُدونات.
    أتمنى التكرم والإجابة عليه ونشره بين المُدونين إن أمكن. شاكرة حسن تعاونكم.
    الاستبيان:
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    هذا الاستبيان يسعى لدراسة ظاهرة التناوب اللُغوي في الكتابة بين المُدونين والمُدونات.
    أتمنى من كتاب المدونات رجالًا ونساءًا التكرم بالإجابة على أسئلة الاستبيان الآتي.
    شاكرين لكم حسن تعاونكم.
    https://forms.gle/1QMCH9aQbRYv39DR9

  2. جزاك الله خيرا الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه عن هذه المقالة القيمة وانت تعرف القراء عن هذا النموذج الرائع من الرجال
    هذا النوع الفذ من الرجال . صدقت والله. المال والسلطة وان قلت او كثرت عند بعض الناس لمن ادق الكواشف عن حقائق معادن الناس وتجليه كوامنهم وقليل من يسلم اوضارهما بل اقل القليل … رحم الله الشيخ صالح الثنيان واسكنه فسيح جناته . والهم عائلته وذويه ومحبيه الصبر والسلوان . وبارك الله له في ا ولاده وذريته وجعل عمله الصالح في ميزان حسناته وحسنات والديه. نعم القدوة كثر الله من امثاله .وفقك الله لما يحب ويرضى

  3. السلام عليكم
    أديبُنا الغالي
    لعلك والأهل بخير
    عندي سؤال لماذا جعلت مقالُك عن العم صالح الثنيان في سبع فقرات ؟
    ولعلي أذكر لك عجباً في رقم ٧ مع العم صالح
    صليتُ عليه في قبره أمس بعد العصر
    فوجدتُ أنه مقبور في مسار ٧
    ورقم قبره ٧ من جهة اليمين
    وكذلك رقم ٧ من جهة القبلة
    رحمَ اللهُ الوالد صالح فما عرفناه إلا باذلاً سخياً

    1. وعليكم السلام ورحمة الله:
      كانت السباعية مصادفة فالمقالة فرغ منها قبيل صلاة الظهر في الرياض، وقبل الصلاة عليه رحمه الله في جدة عقب صلاة الظهر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)