عبدالله الخاطر وعزائم النفس المطمئنة

عبدالله الخاطر وعزائم النفس المطمئنة

خمسة وثلاثون عامًا فقط هي التي عاشها الدكتور الشيخ عبد الله بن مبارك بن يوسف الخاطر آل بوعينين (1375-1410)، ومع أن عمره قصير جدًا إلّا أنه كان عامرًا بالمنجزات وجليل الأعمال التي تشير إلى نفس مطمئنة بقرب ربها وصادق وعده، وتنشد الزكاة والفلاح لها ولغيرها، مع تفاؤل بحسن العاقبة لمن اتقى وأصلح وأحسن، فالأرض ومن عليها وما فيها لله ربّ العالمين، وبيده مقاليد الأمور كلها.

تخرج أبو مبارك في كلية الطب بجامعة الملك سعود عام (1400)، وعمل معيداً في كلية الطب بجامعة الملك فيصل، ثمّ ابتعث إلى بريطانيا لإكمال دراساته العليا فنال شهادة البورد في الطب النفسي من جامعة لندن عام (1405)، وبعد ذلك حصل على شهادة البورد من المجلس الطبي الأردني عام (1408)، وله بعد عودته إلى المملكة إسهام كبير في وضع الصيغة النهائية لبرنامج زمالة الطب النفسي في كلية الـطب بجامعة الملك فيصل، وتوفي نتيجة لنوبة ربو حادة في شهر جمادى الآخرة عام (1410).

لكنّ هذا العمر القصير لم يمنع الرجل من الظفر بسهم وافر من أعمال مثمرة ضمن مجالات شتى، فهو في بيته المربي المستمسك بعرى الإيمان ومقتضيات الديانة، وداخل مجتمعه الداعية الرفيق، والناصح المشفق حتى في يسير الأمور، وخلال عمله المخلص المنتج بجهوده لإنشاء برنامج الدراسات العليا لدارسي الطب النفسي، فنفع بذلك الدارسين، وجامعته، وبلاده، وحضارته الإسلامية بتقريب علوم الطبّ النفسي وإدماجها ضمن بيئتنا بإطاراتها الشرعية والثقافية والاجتماعية؛ كي لا يكون حكرًا على غيرنا، وحتى لا نكتفي باستيراد نظرياته من مدارس النمسا وأمريكا وغيرها؛ خاصة أن هذا الفرع من علوم الطب والنفس مؤثر عميق الأبعاد، وليس من الحكمة أن نرهن فهم نفوسنا لمخرجات الحضارات الأخرى.

كما سعى لإكمال مشروعه في ربط الطب النفسي مع النصوص الشرعية والكنوز التراثية التي عثر عليها، وأحسب أنه أبحر في كتب التفاسير، وشروحات الحديث، ومرويات السيرة، وأخبار السلوك والأخلاق، ومدونات الحديث والفقه، وطبقات التراجم، وطاف في المكتبة العربية والإسلامية الحافلة المترابطة، حتى استطاع جمع مادة كبيرة وطوعها دون اعتساف النصوص وتجييرها لفكرته، ومن غير تمييع النقولات ولوي أعناقها لتتوافق مع النظريات النفسية.

ثمّ دمج هذه الحصيلة الضخمة مع ما وعاه في دراساته، وما نهله من العلوم الغربية، وما أفاده من تجاربه العلاجية، وألقى عددًا من المحاضرات صارت كتبًا قصيرة فيما بعد، تحكي بقلم المؤمن، وتخبر بلسان العالم، عن مدافعة الحزن والاكتئاب، وتجلية فنّ التعامل مع الناس، وكشف مداخل الشيطان على النفوس، وإبراز أسباب الهزيمة النفسية، ولو اقتفى أثره كلّ متخصص بمنهج رصين لربما استطاعت أمتنا بناء شخصيتها العلمية المستقلة الشامخة، وهي خطوة أساسية في الخلاص من الهوان والتيه، والانطلاق لحجز مقعد عزة ورفعة بين الأمم.

أما حين استقر به المقام في لندن للدراسة فلم يصرف الوقت مستمتعًا بعاصمة الضباب، وإنما عمل بإخلاص -نحسبه- بمجرد وصوله إلى بريطانيا من أجل قشع الضباب المتراكم عبر قرون، فبادر إلى افتتاح حلقة علمية للمسلمين المقيمين هناك، يتعلمون فيها دينهم من مصادره الأصلية، ويفهمون أصول عقيدتهم، وارتفع عددهم إلى العشرات حتى صارت تلك الحلقة المباركة نواة للمؤسسة الميمونة التي أسسها مع زملائه باسم المنتدى الإسلامي عام (1406=1986م)، وترأس أول مجلس لأمنائها.

فأصبح المنتدى فيما بعد مؤسسة خيرية عالمية، تقدم مشروعات ريادية في المجال الإنساني والتنموي والتعليمي، وفق منهجية علمية، وشراكات نوعية وأداء مؤسسي، وغدت كيانًا معروفًا من خلال أعمالها وعضوياتها في بريطانيا وأمريكا وأوروبا والعالم الإسلامي، وبارك الله في تلك البذرة التي غرسها الخاطر مع رفاقه محاطة بالنية الصالحة بإذن الله، ومرعيّة بطيب العمل والمال، وحسن الإدارة والتخطيط، واستقلال التفكير، مع سلامتها من الأرجاس والمنغصات والشراكات التي لا ترقب في المؤمنين إلًّا ولا ذمة، ولا تدلهم على رشاد أو تقودهم إلى سداد.

ومن خصال أبي مبارك حسب وصف عارفيه أنه بلغ الغاية في النبل والأناة، والتزم بالتفاؤل حتى لو ظهرت أمامه العقبات، وحرص على استثمار أيّ موقف لخدمة المسلمين أفرادًا ومجتمعات حتى لو كان المستفيد شخصًا واحدًا، أو زوجين عهدهما بالاقتران حديث، وسعى للتعريف بمشروعاته الخيرية التي شارك في تأسيسها لدى أكابر العلماء وعند عامة الناس حتى تحوز على ثقتهم ومساندتهم.

ومع أنه تلقى العلم في منابعه الغربية فإنه لم يستأسر له أو يكتفي به، بل مزجه بما يناسب من ثوابت دينه ومخرجات حضارته العربية الإسلامية، وترك خلفه آثارًا عظيمة سواء في التأليف، أو التأسيس، أو التأصيل، أو الإدارة، أو صنائع المعروف، أو نشر الخير إغاثة وتعليمًا وإعلامًا وتوعية وفكرًا، وقبل ذلك وبعده نسمات مباركة من الأبناء والبنات، وأنعم بها من حياة يسلك صاحبها طرق العلم، ويمضي في دروب الدعوة، وينتقل من عمل نافع لآخر حتى يومه الدنيوي الأخير.

أيضًا كان هذا الطبيب الصالح المصلح مثالًا مشاهدًا على المعتز بدينه وحضارته وبلاده، ولذلك كانت مشاهداته في بريطانيا بعيدة عن الانبهار، وأخذه للعلم والتجارب بريئًا من الانسياق، ويبدو أنه حقق في أعماله الفردية والأسرية والمجتمعية بأصنافها مفاهيم حديث شعب الإيمان قدر استطاعته بعد أن أدرك سعتها وجوانبها الفردية والجماعية، ولعلّ خلود سيرته، وبقاء خبره، ودعاء الناس له وبعضهم لم يقابله أو لم يعرفه عن قرب، من علائم القبول والرضا، وإنما القلوب ومفاتيحها بيد العليم الخبير، يأمرها بالحبّ، ويصرفها تجاه أوليائه الصالحين كي يكونوا للمتقين أئمة وهداة، وما أعظم تلك الحال التي تجلب الحسنة مع أخواتها إلى صحائف الإنسان الراحل بالذكر العاطر.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 14 من شهرِ صفر عام 1442

الأول من شهر أكتوبر عام 2020م