قرأت كتابًا عن سيرة الكاهن والسياسي الفرنسي شارل موريس تاليران، وكتبت عنه مقالة، وفي آخر ذلك الكتاب الذي ألفه د.خضر خضر كلمات وآراء نُقلت من أقوال تاليران وإجاباته، فأحببت إفرادها في مقالة خاصة كي لا أثقل على الأولى، وأحافظ على الوحدة الموضوعية للثانية، ومن يدري فلربما تلحقهما ثالثة، علمًا أني هنا لم أقتصر على النقل من الكتاب المشار إليه آنفًا، وإنما اقتبست من غيره.
عُرف تاليران بدهائه وحنكته، وانتسب إلى كنائس، وحكومات، ومجتمعات، ومجالس، وقصور، وأنظمة حكم، ومارس العمل الدبلوماسي وزيرًا للخارجية، وسفيرًا، كما خاض في الشؤون السياسية الداخلية والخارجية، وشارك في برلمانات وانقلابات وثورات ومؤتمرات ومعاهدات ومؤامرات، وكانت له علاقات نسائية واسعة جدًا، وعنده طباخ ماهر ومائدة لذيذة، ولديه مصالح تجارية ومالية داخل فرنسا وخارجها، وعمّر حتى تجاوز الثمانين بعد أن عبّ من الحياة ومتعها، ونهل من لذيذ العلم والمعرفة والخبرة بالقراءة، والسماع، والتجربة.
لأجل ذلك كانت له مقولات وحكم معبرة ذات مغزى، وإيرادها لا يعني الموافقة عليها، وإنما يعود لطرافة بعضها أو سياقها اللطيف، وفي النهاية لن تخلو من فائدة ولو أن ترسم على الشفاه ابتسامة، وتضيف للمحتوى الثقافي الجمعي أو الشخصي مادة يمكن التوسع فيها أو في أمثالها، فخلاصات الآخرين -بغض النظر عن الموقف منهم- مهمة دون أن ننظر إليها بقداسة وحرفية، فهي ليست وحيًا منزلًا، ونقدها حق مشاع لمن كان أهلًا بعلم وعقل وأدب.
وقد أسرد الخلاصة مجردة من قصتها، أو أشير إلى مختصر الحكاية تحاشيًا للإطالة، فمما سبكه هذا الرجل الظريف وصاغه أو جعله جوابًا على سؤال أو تعليقًا على موقف:
- قابلته امرأة حولاء فأرادت أن تسخر من عرج قدمه، فقالت له: كيف تمشي يا مسيو تاليران؟ فقال لها: كما تشاهدين يا سيدتي!
- اختلى قيصر روسيا بتاليران وسأله عن رأيه في خطبة نابليون بونابرت لابنة القيصر، فهمس في أذن القيصر: كلا، لا تعط ابنتك له؛ فهذا الرجل باتت أيامه معدودة!
- سمع نابليون -وهو مغرم بالنساء-أن زوجة أحد وزرائه تخون زوجها؛ فقال لتاليران: لماذا لم تخبرني بذلك؟ فأجابه: لم أعتقد أنها معلومة تهمك كثيرًا!
- عندما بلغه خبر وفاة نابليون في منفاه، قلّل منه قائلًا: هذا نبأ، وليس بحادث.
- أصدر لويس الثامن عشر دستورًا جديدًا واستشار فيه تاليران الذي رأى أن إغفال الدستور النص على رواتب نواب المجلس عيب كبير، فقال له الملك: أريد أن تكون مناصبهم مجانية بلا راتب؛ ليصبحوا أرقى مقامًا في أعين الشعب والدولة، فقال تاليران: صحيح يا مولاي، ولكن المجانية تكلف غاليًا!
- ذكر ملك فرنسا لتاليران وهما على المائدة أنه سمع أن ملكًا في الهند يجتمع مع وزرائه، فيجلس كل وزير وراء إبريق كبير يحجب الوزير إلّا رأسه، وضحك الملك سائلًا تاليران: أيمكن أن يكون هناك موقف أغرب من ذلك؟ فأجابه: نعم يا صاحب الجلالة؛ موقف الأباريق وهي تتصرف بشؤون الدولة!
- مع أن تاليران هجر الكنيسة إلّا أنه نزل من عربته ووقف احترامًا لموكب ديني عبر من أمامه، فسُأل عن سبب صنيعه وهو الذي ترك الكنيسة من زمن بعيد، فقال: حتى مع القطيعة أفلا يصح لنا أن نسلم على من نعرفه؟
- سأله صحفي عن إشاعة وفاة ملك بريطانيا جورج الثالث، فأجابه تاليران: البعض يقولون إن ملك إنجلترا قد مات، والبعض الآخر يقولون إنه لم يمت؛ وأنا شخصيًا لا أصدق هؤلاء ولا أولئك، وجوابي سر بيني وبينك؛ فأرجو ألّا تورطني بشيء.
- سمعة الرجل مثل ظله؛ ضخمة إذا سبقته، هزيلة إذا جاءت وراءه.
- عندما سمع خبر إعدام الدوق دانجيان قال: هذا الرجل كان أسوأ من الجريمة.
- أعطي الإنسان القدرة على الكلام لإخفاء فكره.
- أنا أحمل الشؤم للحكومات التي تهملني!
- وصف نابليون تاليران بأقذع الكلام وكاد أن يهوي بقبضته على رأس الكاهن الذي لم يكترث بقول الإمبراطور أو بتهديده؛ وبعد أن خرج تاليران من الاجتماع قال لمن سمع الشتائم: إنه لمن دواعي الأسف أن يكون رجل عظيم على هذه الدرجة من قلة الأدب.
- أنا أحافظ دائماً على مصالح فرنسا أكثر من مصالح الأشخاص مهما كانوا.
- الوضع يسير نحو الانفجار بسبب البذخ من جهة وارتفاع الأسعار والمعيشة من جهة أخرى.
- الملك الضعيف المحاط بمستشارين سيئين يتحول لطاغية بسهولة.
- أحاط الملك نفسه بأعداء الحرية فانتفضت الجماهير ضده.
- سيكون من الخطر لأي مجتمع أن تشعر الغالبية فيه بأنها قادرة على السرقة والغدر والقتل بدون عقاب في الدنيا أو قصاص في الآخرة.
- زمن الحرب الأهلية ليس زمنًا للأخلاق.
- ما ألذ العيش مع امرأة غبية!
- البعض وجدوا أنفسهم فجأة رجالًا بعد أن كانوا أطفالًا، ثمّ تطلعوا للقيادة مندهشين من سلطاتهم الجديدة، ومستعجلين للإفراط باستخدامها كي يتأكدوا من امتلاكها، ولم يجدوا حولهم سوى المتظاهرين بالإعجاب، ولم يتجرأ أحد من المخلصين على لفت انتباههم لأمر ما.
- الوزارات والمناصب لا تمنح على أنها مكافآت.
- أسوأ دولاب في العربة يصدر صريرًا قويًا.
- يجب أن تكون الحياة الخاصة مسورة.
- القوي فعلًا يعرف كيف ينحني أحيانًا.
- اللحظة الصعبة ليست ساعة الكفاح وإنما ساعة النجاح.
- يزداد التفكك الاجتماعي حين لا يكون هناك خضوع ولا قيادة.
- لا نريد أناسًا أكثر وطنية من هؤلاء الشجعان الذين قتلوا أو جرحوا لأجل الوطن
- قبل الثورة هناك فجور بلطافة وخبث بنباهة أما اليوم فهناك فجور وخبث بتفاهة.
- انتقاد الناس لكل شيء من أعمال الحكومة ورجالها جعلهم يظنون أنهم قادرون على الحكم.
- من سوء طالع الأمة أن يكون الرجل الطيب في مكان يتطلب رجلًا عظيمًا.
- أسامح الآخرين على مخالفتهم لرأيي ولكن لا أسامحهم على مخالفتهم لآرائهم.
- نستقبل الأشخاص بحسب لبسهم وأسمائهم ثمّ نودعهم بحسب فكرهم.
- الأمة التي تنقصها الثروات أمة فقيرة، وأما التي تنقصها المواطنية فأمة بائسة.
- القوة الحقيقية هي التي تتمالك نفسها والعظمة الحقيقية هي التي تجعل لنفسها حدودًا.
- المراكز العليا الشاهقة لا تصل إليها إلّا النسور والزواحف.
- نقطتان لبلوغ المراتب العليا هما المواهب الذاتية وغباء الآخرين.
- يجب ألّا نقطع عقدة نستطيع فكها.
- إذا قال لك أحد بأنه غير منحاز لأيّ طرف فثق بأنه ليس معك.
- الحقيقة أقوى من الوشاية.
- رجال الأعمال مستشارون سيئون للمستقبل.
- تهلك أنظمة الحكم عندما لا تعرف اللحظة المناسبة لتغيير دستورها.
- من السهل التعليق على أحداث أسقط الزمن الستار الذي يغطيها.
- تتوجه السلطة للشعب حين تريد المال أو الجنود.
- الحماقات والتصرفات الشاذة والجرائم تؤدي إلى الثورات.
- اللامبالاة ضرورية لرجل الدولة.
- الدبلوماسي الناجح جنرال يغطي عظامه الفولاذية بجلد من حرير.
- حبر الدبلوماسيين يمحى بسرعة.
- لا تختصر في بيانك على حساب الدقة.
- يستطيع رجل واحد السيطرة على الجماهير بفصاحته وحيويته وبرودة أعصابه.
- في البلاطات يمكن الارتقاء من خلال الخضوع للكبار، وأما الصغار فلا يقبلون من المحيطين إلّا الانبطاح.
- العناية التي نوليها لتربية النساء من أضمن الوسائل لصقل الأخلاق.
- قهوتي سوداء مثل الشيطان، وساخنة مثل الجحيم، وصافية مثل الملاك، ولطيفة مثل الغرام.
إن البداهة في الجواب، واستثمار السخرية للخروج من المآزق، والإفادة من تكوين المرء المنزلي والمدرسي ثمّ خلط ذلك بمصادر ثقافته، وفتح العيون والآذان والعقول على تجارب الآخرين، تغني ذوي الاستعداد والقابلية حين يستعملون الكتابة والخطابة والحوار، وتسعفهم لتجاوز المواقف الحرجة والمطبات بأنواعها؛ شريطة أن يكون الطرف المقابل عاقلًا أو نصفه أو ربعه… أو حتى عشره! ولكلّ إنسان خبرة وتجربة ورواية، وإنما يظهر الثراء والعمق في الخلاصات المسبوكة باحتراف.
الرياض- الأحد 15 من شوال عام 1441
07 من شهر يونيو عام 2020م
One Comment
مقال رائع جداً, الله يعطيك العافية أستاذنا الكريم ، و جيت أصوت بخمسة ffمقال طلع لي واحد، حاولت أعدل على التصويت للأسف الشديد مانفع.