سير وأعلام عرض كتاب

ياباني يتحدث عن العرب ولهم

Print Friendly, PDF & Email

ياباني يتحدث عن العرب ولهم

القراءة في كتب الرحلات والذكريات الشخصية ماتع للغاية، ومن أجمل أحوال القراءة لهذا النوع من الكتب حين يكون الإنسان مشغولاً، أو مسافراً؛ لما فيها من سلوان وسهولة بعيدة عن عسر الكتب الجادة. ومما يحسن التنبيه إليه خاصة مع كتب الرحالة الأجانب عن البلاد العربية أنهم يتعمدون الكذب والتضليل أحياناً، فضلاً عن اتخاذهم لنمط حياتهم مقياساً يحكمون به على الآخرين، وقد نبه على هذه الآفات بالأدلة المؤرخ السوداني البروفيسور عبدالعزيز عبدالغني إبراهيم في ثلاثيته الرائعة عن الرحلات الغربية عبر أرض جزيرة العرب.

وهذا كتاب سطره ياباني ظل أربعين عاماً يتجول في العواصم العربية والأرياف والبوادي، وكتبه بصدق ومحبة، عنوانه: العرب: وجهة نظر يابانية، تأليف: نوبوأكي نوتوهارا، وهو من منشورات الجمل، صدرت الطبعة الأولى منه عام (2003 م)، وعدد صفحاته (141) صفحة من القطع المتوسط، والمؤلف مستعرب ولا يقال عنه مستشرق؛ لأنه شرقي أصلاً.

خلص المؤلف إلى أن التوتر يملأ الشارع العربي، والحكومات لا تعامل الناس بجدية؛ بل تسخر منهم وتضحك عليهم، ولذا فالناس في شوارع المدن العربية ليسوا سعداء ولا مرتاحين،حتى أنه يشارك الناس مشاعرهم ويقول: سمعت صرخة في الجو الخانق الصامت ومازالت في أذني! وغالب رؤاه كانت من نتائج  عيشه في مصر وسورية والمغرب وغيرها من بلاد العرب ابتداء من عام (1974م)، ثم كتب مشاهداته وملحوظاته تعبيراً عن امتنانه لهذه العلاقة الحميمة، وتلبية لطلب أصدقائه العرب؛ علماً أن الكتاب طبع قبل الثورات العربية التي تنبأ الكاتب بحدوثها ضمن مفهوم كلامه.

ومما لا حظه المؤلف الياباني على العرب من سلبيات:

  • غياب العدالة الاجتماعية في المجتمع العربي.
  • كل شيء ممكن فالقانون لا يحمي الناس من الظلم.
  • حقوق الإنسان تتعرض للخطر دائماً.
  • الفرد هش ومؤقت وساكن بلا فعالية لأنه يعامل دائماً بلا تقدير لقيمته كإنسان.
  • كثرة استخدام كلمة الديموقراطية، والذي يحدث على الأرض عكسها تماماً.
  • القمع لا يحتاج إلى برهان في البلاد العربية، وهو داء عضال، والطفل يعاني القمع منذ طفولته.
  • ملكية السيارة في الدول المتقدمة ليست امتيازاً أو سبباً للمفاخرة، ولا تختلف عن ملكية الدراجة خلافاً للعرب.
  • ليس عند العرب استعداد لرعاية المواهب التي توأد في مهدها.
  • تنتشر الرشوة، والكسل، والصلافة في التعامل.
  • لا يوجد فرد مستقل إذ تذوب الخصوصية وتحل مكانها الجماعة المتشابهة المطيعة للنظام السائد.
  • يغيب الوعي بالمسؤولية عن الممتلكات العامة، ويعاقب الشعب الحكومة بالاعتداء عليها.
  • انعدام نصرة الأفراد الذين ينادون بحقوق الشعب حين يغيَّبون في السجون.

ويذكر المستعرب أنهم في اليابان تعلموا من تجربتهم المريرة، وأبعدوا العسكريين عن الحكم، وأيقنوا أن القمع يدمر الثروة الوطنية، ويقتل الأبرياء، ويؤدي لانحراف السلطة، واستمرار الممارسات الخاطئة، ولذلك تطورت بلادهم تنموياً واقتصادياً؛ إذ قلما ينتعش الاقتصاد في أجواء سياسية متوترة أو مضطربة، ومن طريف ماذكره المؤلف أنه يستغرب فكرة الزعيم الواحد، والرئيس مدى الحياة، وهما سمتان عربيتان بامتياز؛ بينما صورة الزعيم في اليابان فقيرة جداً.

ويكرر أهمية النقد الذاتي القوي؛كي نجد الطريق لتصحيح الأخطاء، فعندما انتهت الحرب العالمية كان الباحث في عامه الخامس، وحين سافر للبلاد العربية كان عمره ثلاثون عاماً، وقد تعلموا من حادثتي هيروشيما ونجازاكي، أن مشاعر الكره لأمريكا لا تصنع مستقبلاً، فالأهم هو أن يعرفوا أهدافهم، ويصححوا انحرافهم بممارسة النقد الذاتي المتبوع بعمل منهجي دائم طموح.

وحرصاً على العرب ظل نوتوهارا يسأل نفسه خلال تجواله في أرض العرب: لماذا لا يستفيد العرب من تجاربهم؟ ولم لا ينتقدون أنفسهم بصراحة وعمق؟ ولماذا لا يأنفون من تكرار أخطائهم؟ وكم يحتاج العرب من وقت كي يضعوا أنفسهم على الطريق السليم؟ وهي أسئلة مزعجة وجارحة بيد أنها ضرورية، كي لا نلدغ من الجحر ذاته مراراً وليس مرتين فقط.

وأشار المؤلف أن للنفط أثر في تنشيط الاهتمام الياباني بالبلاد العربية، ولذلك تزامن مع تسجيله في الجامعة إعلان جامعة طوكيو عن افتتاح قسم للدراسات العربية عام (1961م)،  فتحرك صوت بداخله يدعوه لدراسة اللغة العربية، وقد تأثر كثيراً من ترجمته عام (1969م) لكتاب غسان كنفاني “عائد إلى حيفا”، مما جعله يتعاطف مع وجهة النظر العربية تجاه فلسطين.

وهذا يؤكد على الدول العربية إن كانت مهتمة فعلاً، بأن تنشط في تعليم اللغة العربية، والترجمة عنها إلى اللغات العالمية، فالمترجم الياباني يقول إنه مع تعمقه في قراءة كتب العرب، تبين له سطحية الآراء المختزنة لدى اليابانيين عن العرب وخطئها، وأدرك التضليل الإعلامي الغربي لقضايا العرب، ولصورتهم الذهنية؛ فهل تجد هذه الدعوة أذناً صاغية عند أي منظمة عربية أو إسلامية، رسمية أو شعبية؟

وحصل المؤلف المثابر على منحة من الحكومة المصرية؛ للدراسة كطالب مستمع في جامعة القاهرة عام (1974م)، وأقام في الريف المصري فترة معينة؛ ليفهم اللهجة الشعبية؛ كي يترجم رواية مكتوبة بها! وأصبحت زيارة مصر عادة سنوية له، ثم صار يزور البادية السورية منذ عام (1980م )، وكان هدفه التعرف إلى البادية التي لا توجد في اليابان أو مصر، وأثنى على كرم بني خالد، وظل في كتابه يطري الضيافة العربية، والكرم الذي حف به كلما حلّ ببلد عربي، ونقل أن وصف”البخل” ليس عيباً عند شعب اليابان، بل يعد تعبيراً عن الاقتصاد.

ونبه نوبوأكي أي باحث في حضارة غير حضارته إلى حتمية ألا يُسدِل الستار على عمليات المراقبة والتأمل، وأن يقبل قيم المجتمعات الأخرى كما هي، وألا يقيسها الدارس بقيمه وعاداته؛ كي لا يحدث تصادم بين الحضارات والثقافات، ولاشك أن رأيه وجيه دون ذوبان في الحضارات الأخرى، إذ لا يمكن فهم مواقف الآخرين بمجرد النظر لها من الخارج، وكلما امتزج الدارس مع الحال استطاع أن يبرع في التشخيص والعلاج، وفي هذا السياق حذر الكاتب من الاعتماد على الأفكار الجاهزة أو أخذ أي موضوع مقتطعاً من سياقه، وأشار إلى غطرسة الغرب باغتصابه الثقافة بعد اغتصاب الوطن، ومثَّل لذلك حين قدمت الأونروا للاجئي حرب (1948م) ملابس لاتناسب ثقافتهم خاصة أزياء النساء المشهورة عربياً بالستر والاحتشام، والملابس لغة كما يقول علماء الاجتماع.

ومن الطريف قوله أن أهل اليابان يخافون من الزلازل، وحوادث محطات الطاقة، ومن أسلحة كوريا الشمالية، بينما عند العرب يوجد الخوف من الشخص القادر على تهديدهم لتحقيق منافعه الشخصية في أي لحظة، وقد يكون هذا سبباً في أن معظم الرجال العرب الذين قابلهم لهم شخصيتان، واحدة في البيت، وأخرى في الحياة العامة، والازدواجية يمكن أن تقبل في أحوال معينة؛ على ألا تكون صارخة متناقضة؛ حيث ينتج عن الوجهين خداع ورياء.

وتعرف نوتوهارا إلى عدد كبير من الكتاب العرب، وعدد أقل من المفكرين والرسامين، ولاحظ بأن النجوم يتكلمون كأنهم سلطة، وأزعجه التخمة من كلمة الديمقراطية، وتعجب من المهرجانات الشعبية والشعرية الكثيرة؛ لأنه عاجز عن فهم مدح الحكام شعراً، وعن تعليق صورهم في كل مكان، وكرر بأن فكرة خلود الحاكم رئيساً إلى الأبد تفوق القدرة اليابانية على التصور، وأن هذه البلوى قد صبغت المعارضة العربية بصبغتها، حتى أصبحت سلطة ضد السلطة!

وزار مرة فلسطينياً في مخيم اليرموك يحمل مفاتيح بيته الأصلي في فلسطين، ويسكن في بيت بسقف غير خرساني ليشعر أنه مقيم إقامة مؤقتة، وليت أن المؤسسات الفلسطينية تجعل في معارضها ركناً لمفاتيح البيوت المحفوظة عند أهاليها، ومجسمات للبيوت ذاتها، أو صوراً لها، أو رسومات، ومثلها يقال عن المساجد والمزارع والمباني العامة في فلسطين القديمة؛ لتبقى الأجيال على صلة بمنازل الآباء والأجداد.

وحين ذهب إلى الصحراء العربية المغاربية كان باحثاً عن المعنى، لأن الصحراء برأيه تعلم الحكمة والصبر والسكينة، وإن كانت تفقد الوعي بالوقت والفراغ، واقترب هناك من تقاليد إعداد الشاي الأخضر، واللثام ومكانة الشعر في الأمسيات، وعرف أن كبار السحرة يستخدمون لحم الضب في شؤون الحب، ولأنه أكل الكمأة في الربيع الاستثنائي بالصحراء السورية عام (1998م) وأعجبه مذاقها، فقد أعاد الكرة في صحاري الطوارق حيث يطلق عليها الترفاس.

ومن جميل ما في كتابه، حديثه أو منقوله عن الكتَّاب والكتابة، وفيما يراه يجب أن يكون الكاتب تعبيراً عن روح شعبه، وأن ينتج النص بعد تجربة ناضجة، فالكتابة بالنسبة للكاتب برهان على انتمائه للجنس البشري، ويلزم ألا يكون الكاتب تابعاً لأي سلطة بشرية، وأن يكون أداة حية في المجتمع، ولذا امتنع المؤلف عن ترجمة كتب مؤلفين كبار؛ تحفظاً على مواقفهم المداجنة أو المنافقة لحكومات قاسية؛ مع أنه يعرف اعتذارهم بأن السجون استضافت كثيراً من الكتاب العرب؛ بينما في اليابان يسجن الكاتب فقط حينما يسرق.

ومن متفرقات فوائد الكتاب نصيحة ثمينة بأن يقارن المرء ليعرف أن مأساته ليست مطلقة، وليست اسثنائية، ولذا يحسن بالإنسان ألا يؤمن بالبؤس الفردي، بينما يؤمن بالصدفة وأهميتها وغنائها. ومما ذكره عن اليابان أنه يوجد فيها ثلاث أبجديات، ويتعاضد خمسة مترجمين على نقل التراث العربي، وأشك ابأن العرب يعرفونهم! ويستحي الشاعر الياباني من إلقاء شعره أمام الجمهور خلافاً للعربي الجسور، وقلما يخلو بيت ياباني من صحيفة، وفي اليابان جائزة مهمة جداً للأدب النقي الرفيع، وبعض المسلمين ينتقص -من قصور نظرته- إدخال الأخلاق في الفن والأدب والإعلام.

 وفي الكتاب أمنية متكررة بأن يمشي المستعرب الياباني في الشوارع العربية، وقد زال منها التوتر، وبدت السعادة على وجوه المارة؛ وما هو على الله بعزيز؛ شريطة أن تكون الشعوب مستعدة لذلك، وقد أبصر الياباني الواقع العربي، وتكون لديه رأي مراقب خارجي ملخصه بأن الحرية هي باب الانتاج والتواصل والحياة النبيلة، ومالم يتخلص العرب من القمع فستفقد بشريتهم كثيراً من معانيها.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الإثنين 09 من شهرِ محرم عام 1438

10 من شهر أكتوبر عام 2016م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)