يُرجع كثير من المراقبين فضلاً عن العامة، ما يرونه من انجراف أمريكي لصالح اليهود ودولتهم المغتصبة في فلسطين إلى قوة اللوبي اليهودي، وسيطرته على الاقتصاد والإعلام، وهذا أمر صحيح بيد أنه ليس السبب الرئيس لمن قرأ التاريخ الأمريكي؛ وعرف كيف نشأت هذه الدولة، في قصة محزنة مخزية لا تبعث على الفخر.
ومن تزوير التاريخ أن يقال بأن أرض أمريكا مكتشفة؛ وهي على التحقيق آهلة بالسكان حين أتاها الغزاة “المكتشفون”، فأبادوا السكان الأصليين في وقائع تشيب لها الرؤوس ثم طمسوا ثقافة المكان، وقطعوا نسل الإنسان، وكل هذه البلايا مسطرة بكتب كثيرة، وسبق لي استعراض أربعة كتب ألفها الباحث السوري د. منير العكش عن نشأة أمريكا، وله كتاب خامس لم أعثر عليه بعد؛ وهو يكمل هذه المجموعة التي تقطر عاراً على أمريكا وحضارتها.
وبين يدي كتاب قصير مختصر، عنوانه: كريستوفر كولومبوس ونبوءة القدس، تأليف: كارول ديليني، نقله إلى العربية فيصل بن علي الكاملي -الخبير بعلوم الأديان واليسوعية على وجه الخصوص- صدرت طبعته الأولى عن مركز الفكر الغربي عام 1437=2016م، ويقع في (90) صفحة من القطع الصغير، ويتكون من مقدمة وعدة موضوعات، ثم خاتمة فالمراجع.
في هامش المقدمة شكرت المؤلفة مكتبة جامعة براون لتقديمها منحة الوقف القومي للدراسات الإنسانية، ولمصادرها الثرية، وطاقمها المتعاون، ولأجوائها البحثية الممتازة. ثم ذكرت أنه بحلول خمسمئة عام على “اكتشاف” كولومبوس للقارة الأمريكية اعتبر البعض هذا “الاكتشاف” بأنه أعظم حدث؛ فيما عده آخرون بأنه أعظم قارعة، وطبقاً لهذه الآراء فكولومبوس قديس عند البعض، ومبير وسبب في الإبادة عند البعض الآخر!
ويزري القسم الأخير على دعوى “الاكتشاف” والقائلين بها، بحجة منطقية وهي أن تلك البقعة كانت مأهولة بالسكان حين رست على شواطئها سفن البحارة! وتقول المؤلفة بحسرة لقد أصبح نقاش هذه الأمور مسيساً تغيب الثقافة والحقيقة في دهاليزه! وما أكثر ما نظنه من المسلّمات وهو بحاجة إلى فحص علمي غير موجه كي تستبين الحقيقة والسبيل.
قام كولومبوس بأربع رحلات؛ وأُعيد من الثالثة مكبلاً بالأصفاد، وهذه معلومة قلما يعرفها أحد؛ بيد أن المعلومة المتوارية كثيراً هي أن رحلاته ومشروعه كانت لأجل القدس، فقد سجل في يومياته التي سطرها في 26 ديسمبر 1492م بصراحة متناهية أنه يبحث عن الذهب والتوابل كي يتمكن الملكان فرديناند وإيزابيلا من الاضطلاع بمهمة الخروج لغزو القبر المقدس. ومع أهمية هذه اليوميات فلم يصدر لها ترجمة إنجليزية كاملة مبكرة باستثناء بعض المقتطفات، وهذا أمر لافت.
ويتبين بجلاء أن كولومبوس أراد من رحلته تسيير حملة صليبية لقتال المسلمين الكفرة، ورغبته هذه جزء من سيناريو رؤيوي -نسبة إلى سفر رؤيا يوحنا وهو عمدة النصارى في تفسير أحداث آخر الزمان- يؤمن به كولومبوس وكثير من معاصريه، وهو مستمد من سفر الرؤيا وملخصه أن تنصير كل البشر، واحتلال بيت المقدس للمرة الثانية، شرطان ضروريان للمجيء الثاني للمسيح، وكان كولومبوس يستشعر بقوة هذه الواقعة، ويجزم بأن له دوراً ربانياً في هذا الحدث العظيم.
يناقش القسم الاول من الكتاب إدانة كولومبوس ومعتقداته الدينية، ويتساءل القسم الثاني عن أسباب عدم ذيوع هذه المعتقدات بين العامة. وتفترض المؤلفة بأن التقليدية في كتابة التاريخ، وسوء فهم الدين في الأوساط الأكاديمية سببان أساسيان في ذلك، مما جعل دراسة كولومبوس مفصولة عن السياق الثقافي الذي عاش فيه، ودراسة هذا شأنها ستكون مبتورة ناقصة.
ويؤكد ابن المستكشف ومعاصروه على تدينه الطقوسي والاعتقادي، حيث يعتقد بأن الرب اصطفاه للإعانة على استرجاع القدس، ويومياته مليئة بما يدل على التزامه بالعبادات والصلوات، وقد أطلق أسماء دينية على الجزر التي “اكتشفها”، وله عدة أصدقاء كهنة أو منتسبين إلى تنظيمات دينية، وكان يقيم في الأديرة مدة طويلة، ويلبس لباس الرهبان.
ولكولومبوس تراث كبير تمثل في (90) وثيقة، وأكثر من (3000) تعليق على حواشي كتبه، وأهمها كتابه النبوءات؛ وهو عبارة عن فقرات ونقولات مرتبطة بآخر الزمان، وإن اختيار المرء جزء من عقله ومن اهتمامه. ويتبين من تراثه تردد صدى فكرتين مترابطتين فيما يكتبه؛ وهما كما سلف: تنصير الشعوب، واستعادة بيت المقدس.
والأولى متعارف عليها لولعه الظاهر بتحويل الآخرين إلى عقيدته، والثانية غير مشتهرة خارج إطار علماء كولومبوس، مع أنها تبرز حتى في بحثه الحثيث عن الذهب لتمويل حملة صليبية، ولذا كتب رسالة للملكين فرديناند وإيزابيلا في 04 مارس عام 1493م، مؤكداً فيها بأنه سيجهز خلال سبعة أعوام خمسة آلاف فارس وخمسين ألف راجل لغزو القدس وانتزاعها؛ وهو الغرض المقصود من رحلته.
وفي 19 من مايو عام 1506 م، وقبل يوم واحد من وفاة كولومبوس، صادق على وصيته التي حررها في 22 من فبراير عام 1498م، وجددها في 25 أغسطس عام 1505م، ونص فيها على إنشاء صندوق لغرض تحرير القدس، وهذا دليل قاطع على محورية القدس وتحريرها في دوافعه وأعماله؛ وقد كان الرجل مثالاً لمن يحمل هم رسالته حياً وميتاً؛ ولله نشكو جلد الباطل وأهله، في مقابل عجز أهل الحق، وسرعتهم في الخلاف.
ولكولومبوس تعليقات وتدوينات كثيرة على هوامش كتبه التي يقرؤها، وعلى سبيل المثال فأحدها يحتوي على (898) تعليقاً هامشياً له، ومن عادته أنه يبرز الفقرات المهمة في النصوص التي يطلع عليها، وكثير من الفقرات التي أبرزها تتحد مع معتقداته بخصوص نهاية الزمان، وغاية رحلاته، وفعل الرجل يدل على أنه قارئ ضليع متمرس، وأن له عادات فعالة في التعامل مع المقروء.
وفي كتابه المعنون بالنبوءات والخاص بنصوص استعادة مدينة القدس، يستخدم كولومبوس عدة مناهج لتفسير الكتاب المقدس، أحدها المنهج الرباعي الشامل للتفسير التاريخي، والمجازي، والأخلاقي، والأخروي، والثاني منهج الاستشراف الرابط بين العهدين القديم والجديد، وكلا المنهجين يستعملان حتى الآن من قبل الأصوليين النصارى، مما يوحي بأن كولومبوس لم يكن قارئاً عادياً.
وللذهب مكانة خاصة عنده، فمَنْ ملكه صنع ما يريد في العالم، ولذا كان بحثه عن الذهب بحثاً روحياً أكثر من كونه مغامرة تجارية، وحب الذهب جبلّة بشرية، بيد أنها طاغية جداً لدى صهاينة اليهود والنصارى، ولذا امتلكوه، وتحكموا به، وهزوا دول العالم من خلاله. وتشير المؤلفة نقلاً عن كاتب إيطالي بأن التاج الإسباني استلم من المعادن النفيسة بعد قرن من الاكتشاف مليون و 733 ألف دينار مرابطي مقابل كل دينار مرابطي صُرف على تمويل رحلة كولومبوس، وياله من ربح بيّن فاحش.
ويرى كولومبوس نفسه مُبَّشراً به من الرب، وأنه المقصود بالنبوءات في سفري الرؤيا وإشعياء، ويخبر الملكين الإسبان بأن الرب منحه القدرة على اكتساب المهارات الضرورية لاكتشاف البحر، وهي الفلك والتنجيم والجغرافيا والحساب وقراءة الخرائط، وبأن “النار” تسري فيه حينما زارهما لأجل مشروعه، وهي عنده نار مقدسة تربو على معنى الحماسة المجردة، وبذلك جعل الملكين شريكين متضامنين معه في عمله.
ومع أهمية هذا الكتاب في تاريخ كولومبوس إلا أنه كان مجهولاً لدى العامة، وظل بلا دراسة أو ترجمة لمدة خمسمئة عام، حيث نشرت أول ترجمة إنجليزية له عام 1991م، ولذا انحصرت أفكار كولومبوس ومعتقداته الدينية والرؤيوية في جمهور متخصص محدود. ولا يمكن لباحث أن يحيط بشخصية كولومبوس دون أن يستصحب مشروعه الرؤيوي، ليعلم يقيناً بأن كولومبوس يبشر بحملة صليبية مقدسة ذات أهداف إلهية، وأنه الوسيط المصطفى من السماء لتنفيذها -وعقيدة الاصطفاء هذه تكررت على أكثر من رئيس أمريكي، ولن يكون بوش الابن آخرهم-.
كما ترى المؤلفة ظهور موقفين عامين تجاه كتاب النبوءات، أحدهما نظر إليه باعتباره نتاج عقل واهن أو علامة خرف، والثاني اعتبره وثيقة تدل على بواعث كولومبوس ودوافعه، لكن هذا الفريق -ويا للعجب- يطرح هذه الوثيقة جانباً، ولا يلتفت إليها، وكأن الفريقين اتفقا في النتيجة النهائية على إهمال الكتاب وإن اختلفا في النظر للنبوءات التي فيه.
وترصد المؤلفة ثلاثة إشكالات متعلقة بتفسيرات كتاب النبوءات، فالإشكال الأول هو عجز كثير من الأكاديميين عن رؤية الدين؛ خاصة ما تعلق منه بآخر الزمان، ولذا أخفق حتى المتعاطفون مع كولومبوس في تمثيل نظرته للعالم، واسترجاع واقعه الذي عاشه؛ كي يحسنوا الحكم عليه، ومن الأخطاء المرتبطة مع هذا الإشكال معاملة الدين على أنه عامل منفصل بعيد عن ميادين السياسة والاقتصاد، وليت بعض مثقفينا يتأمل في رأي المؤلفة جيداً.
والإشكال الثاني إسقاط العرف الإنساني، واعتبار البشر في كل زمان ومكان سواء، وإسقاط أثر الثقافة المصاحبة، وهذا من الخطأ الفاحش، فلا مناص لتحليل أي شخصية من معرفة نظرتها لنفسها، وللعالم، والإحاطة بمسلماته التي لا تنفصل عن أفعاله وقراراته، وبمعنى أدق يجب على الباحثين إعادة بناء العالم الذي عاشت فيه الشخصية موضع الدراسة كي لا يسقطوا فهماً حديثاً على مجريات قديمة، وليت غلاة الأنسنة الذين يحاكمون العهد الراشدي إلى عصور الانقلابات أن يعوا!
الإشكال الثالث هو عدم فهم الجيو أخرويات في عالم كولومبوس، فقد عاش في محيط نصراني كاثوليكي، وأحاط حياته بمعاني النصرانية ورؤاها؛ حتى صارت الرؤيوية منطلقاً قوياً لتقاليده الدينية التي يستمدها من سفر الرؤيا، ولأجل ذلك عاش كولومبوس معتقداً بأن عقارب ساعة الأخرويات تدق -وهو ذات الاعتقاد لدى بعض زعماء أمريكا المسكونين بالفكر القيامي-، وتجزم المؤلفة بأن تاريخ أوروبا والغرب لن يُفهم إلا بدراسة التاريخ النصراني، والإلمام بأساطير النصارى التي تربط بين الماضي والمستقبل.
وتخلص المؤلفة إلى أن السيناريو الذي استثار كولومبوس لم يمت بموته، بل عبر الأطلسي مع التطهريين الذين أسسوا إنجلترا الجديدة، وسادت أفكارهم في أمريكا حتى سيطرت على الخيال الأمريكي، وساهمت في تكوين رؤية معينة لمكان أمريكا في التاريخ، ولازالت أساطير النصارى، وعقائدهم الرؤيوية حاضرة ومتنامية، وأي مكتبة نصرانية تؤكد محتوياتها ذلك. وأزيد فأقول بأن بعض الساسة الأمريكان يكرسون هذه المعاني في تصريحاتهم، ولذا تزدهر الكتب الرؤيوية التي تتنبأ بنهاية العالم خاصة بعد حرب الخليج عام 1991م، ولهذه العقائد شعبية كبيرة في تفسير الأحداث، وفي استعجال إخراجها لحيز التنفيذ -كما يستعجل الشيعة خروج مهدي السرداب-، وويح العالم ثم ويح له من رؤيوي قيامي متهور يحكم أقوى دولة! ولأجل ذلك تمنت الكاتبة تشتيت هذه الأسطورة قبل أن تدمر العالم.
وعجباً؛ فأمريكا القوية المتحضرة، لا يستحي بعض زعمائها من الإيمان بهذه الخزعبلات، والتفوه بمفرداتها، بل والتصرف بحماقة ودموية لاستعجالها، بينما يعجز حكام المسلمين عن الرجوع لدينهم الحق، ونصوصهم الثابتة؛ حتى يكون تعاملهم معها وفق مقتضيات السياسة الشرعية؛ التي تراعي جلب المصالح ودفع المفاسد، فيخدمون بذلك دينهم، وأمتهم، وشعوبهم، بقدر الاستطاعة، ويخرجون أعزة من معرة الضعف، وهوان التبعية!
فمتى يأتي لعالمنا وأمتنا جيل من الساسة، يجمع العلم والحكمة، ويجلب الخير أو خير الخيرين، ويقصي الشر أو شر الشرين؟ ومتى يتعامل مثقفونا ومفكرونا مع المنتجات الفكرية والثقافية والتاريخية الواردة من الغرب على أنها حصاد جهد إنساني غير مقدس، وأنه يمكن فحصها ونبشها، والبحث عن حقيقة قد تكون مغايرة تماماً لما يريد الغرب تكريسه؟
الرياض- الأحد 06 من شهرِ صفر عام 1438
06 من شهر نوفمبر عام 2016م
2 Comments