سياسة واقتصاد عرض كتاب

التوابل: تاريخ وتجارة وتناحر!

Print Friendly, PDF & Email

التوابل: تاريخ وتجارة وتناحر!

التوابل منكهات تضيف طعماً زائداً إلى لذة الطعام الأصلية، وإذا تجاوزت المقدار الطبيعي فقد تخفي أحياناً ما يعتري بعض مكونات المائدة من فساد؛ أو تحجب الدلائل على ضعف مهارة الطاهي، وليس هذا كله هو شأن التوابل، فلها تاريخ كوني طويل، وسجل من الانتقال عبر الموائد والثقافات والمطابخ، وكانت في زمن مضى سبباً لكثير من الحروب، والرحلات، والمشكلات الدولية.

وهذا كتاب يعالج قصة التوابل بمهارة واختصار، عنوانه: التوابل: التاريخ الكوني، من تأليف فريد كزارا، وترجمة إيزمير الدا حميدان، ومراجعة د.أحمد خريس، وصدر عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث ضمن مشروع” كلمة” عام (2010م)، ويقع في (241) صفحة من القطع المتوسط، ويتكون من مقدمة، فخمسة فصول، ثم مسرد المصطلحات، ويضم عدداً من الصور الجميلة والرسوم التوضيحية، وطباعته أنيقة فاخرة؛ وهذا ليس بعجيب على دولة ثرية كالإمارات.

ذكر المؤلف في المقدمة أن كتابه يجمع التاريخ العالمي للتوابل عبر العصور القديمة حتى عصر العولمة، وعرَّف التابل بأنه الجزء العطر من نبتة استوائية؛ سواء كان جذرها أو لحائها أو زهرتها أو بذرتها، وقرَّر أن جميع التوابل آسيوية المنشأ باستثناء الفانيلا، والفلفل الحار، والفلفل الحلو، وأهم خمسة توابل هي: القرفة، والقرنفل، والفلفل الأسود، وجوزة الطيب، والفلفل الحار، وهي تمثل المعيار الذهبي لتجارة التوابل.

أما القرفة فموطنها في جزيرة سريلانكا، وأعظم استهلاك لها في بريطانيا وأمريكا وإسبانيا، وتستخدم مع عدد كبير من أصناف الحلوى، بينما يعود أصل القرنفل إلى جزر الملوك في إندونيسيا؛ وشجرتها طويلة حتى أن جمع براعم زهرها يحتاج إلى سلالم! وهو مفيد في علاج ألم الأسنان، وفي بلد المنشأ يستخدم القرنفل مع التبغ لصناعة السجائر، واستهلاكه ضخم عالمياً خاصة في فرنسا والصين، وشجرة القرنفل طويلة عمر؛ حيث تعمر إلى مئتي عام.

ويعود الفلفل الحار إلى الأمريكيتين الوسطى والجنوبية، وله أشكال وألوان تعز على الحصر، ويُقطف بعد ثلاثة شهور من زراعته، وتقاس حرارته بمؤشر سكوفيل نسبة للصيدلاني وليام سكوفيل، وفي عام(2007م) تمكن البروفيسور بول بوسلاند مدير معهد الفلفل الحار في جامعة ولاية نيومكسيكو من قياس أكثر ثمرات الفلفل حرارة؛ التي سُجلت لصالح الفلفل بهوت جولوكيا من منطقة آسام شمال شرق الهند، ويبدو أن الفلفل الحار وجد ليسافر عبر العصور، والحضارات، والأماكن، أكثر من أي شيء آخر.

ويحتوي هذا الفلفل على نوعين من الفيتامينات الثمينة هما(A) و (C)، وقد دخل أوروبا بواسطة إسبانيا، ونشره البرتغاليون في جنوب آسيا وشرقها، حيث يستخدم بكثرة هناك لا يدانيها أي مكان آخر، فالهند هي أكبر منتج للفلفل وأكثر مستخدم له، وأما في أوروبا فإن إسبانيا والبرتغال وهنغاريا هي أكثر الدول استخداماً للفلفل في مطبخها وثقافتها، وغني عن القول بأن الاحتلال الإسباني-البرتغالي لقارتي أمريكا كان له أثر في ذلك.

وتعتبر جزر باندا في إندونيسيا موطناً لجوزة الطيب، وشجرتها دائمة الخضرة، وثمرتها دائرية كالخوخ، وفي عام(2004م) اجتاح إعصار إيفان جزيرة غرناطة التي تنتج ثلث محصول العالم فدمر صناعة جوزة الطيب. وأكثر الشعوب استخداماً لها هم الهولنديون والإيطاليون، بينما يستخدمها الماليزيون كحلوى، ونظراً لسميتها فهي ممنوعة في عُمان والسعودية.

وعُرف الفلفل الأسود وغيره في مالابار جنوب غرب الهند، وله تاريخ يمتد عبر آلاف السنين، وهو أفضل من الفلفل الذي ينمو في إندونيسيا، وماليزيا، والبرازيل، وفيتنام، نظراً لرائحته ولذوعته، وكمية الزيت التي فيه، ويستخدم الفلفل مع أطعمة كثيرة خاصة في أطباق الجزيرة العربية والهند.

بعد هذه المقدمة الحافلة بدأ المؤلف في الفصل الأول عن التوابل في العالم القديم؛ ويمتد هذا العالم من الصين إلى الجزيرة العربية مروراً بالهند وجزره؛ حيث كان مهداً لتجارة التوابل. وأكثر التوابل المرغوبة هي القرفة، والسنا يشبه القرفة وينشأ في ميانمار، ولهما رائحة عطرية مميزة، حتى أن “نيرون” أحرق مخزون سنة كاملة من القرفة والسنا في طقوس جنازة زوجته. ومن توابل المنطقة العربية المشهورة اليانسون، والكمون، والشمر، واللبان، والمر، ومن يقرأ في كتب الرحلات الغربية إلى عالمنا فلن يخطئ الإحساس برائحة هذه التوابل المغرية بين سطورها!

أما كبش القرنفل فهو هدية ذات قيمة؛ إذ أرسل قسطنطين الأكبر(45) كيلو غراماً منه هدية إلى البابا سلفيستر عام(335م)، وخلال القرن السابع عشر دمر الهولنديون أشجار جوزة الطيب ليحتكروا المنتج. ومن الطريف أن الإغريق يدمغون من يعد حبات الكمون بالبخل، وبعيداً عن البهارات كثقافة وطعام يقول المؤلف بأن الغرب اتخذ من الدين شعاراً، وشن حرباً صليبية في العصور الوسطى على الجزء الجنوبي الشرقي من العالم، ليسطر فصلاً جديداً من تاريخ التوابل.

ولذا جعل الباحث الفصل الثاني عن التوابل في العصور الوسطى، وذكر فيه خبر بعض الصفقات التجارية بين المسلمين وغيرهم، وأثر تلك التجارة في نشر الإسلام، وانبهار الغرب بالشرق وسحره وأساطير المعشعشة في أذهانهم؛ إذ يعتقدون أن أشجار بعض البهارات تحميها الأفاعي! وقد أفادت أوروبا من كتب الطب والطبخ التي ألفها المسلمون؛ وقلما تخلو وصفة فيها من تابل.

وعندما دخل الصليبيون بيت المقدس عام(1099م) فتنوا بأسلوب الحياة الرائعة في عموم الشام، وتأثروا كثيراً حتى بعادات الأكل وثقافة المطبخ، ودخلت التوابل في كثير من الوصفات الطبية الأوربية خاصة الفلفل والقرفة والزنجبيل، وأشرفت الحملات الصليبية على استيراد طباخين عرب إلى أوروبا، وظهرت في أسواق القدس محلات لبيع الأطعمة الجاهزة في سابقة عالمية.

وانتشر استخدام كبش القرنفل مع الحليب الحلو ليستعيد الرجل فحولته، وسادت اعتقادات غريبة عن بعض التوابل منها منع الرجال من الاقتراب من بعض أشجارها التي تشبه المرأة الحامل، وزراعة شجرة كبش القرنفل بالتزامن مع ولادة أي طفل؛ فإن نمت وازدهرت تفاءلوا بمستقبل الوليد، وبعضهم كان يستخدم كبش القرنفل لمنع الأرواح الشريرة!

وللسياق الديني حضور في شأن التوابل، فلم يتصور كاتب في العصور الوسطى الجنة دون طعم التوابل ورائحتها، كما فرضت التوابل نفسها في الاقتصاد، فقيمة باوند واحد من جوزة الطيب يعادل سبعة ثيران في ألمانيا عام(1393م)، وفي القرن الحادي عشر استخدم الفلفل في دفع رسوم دخول السفن لسوق السمك في لندن، وقُبلت حبات الفلفل للتعويض عن ثمن الإيجار في بعض مدن أوروبا، وفي أواخر القرن الثاني عشر أنشئت نقابة لتجار الفلفل في لندن، وهي جمعية دينية واجتماعية واقتصادية.

وفي القرن السابع عشر، وبتأييد ملكي، أنشأ التجار رابطة باسم مجتمع الصيادلة تهدف لإيجاد الصلة بين التوابل والأدوية متحدين بذلك سيطرة الكلية الطبية الملكية التي دامت طويلاً، وذكر المؤلف أن التوابل كانت حاضرة في تفاصيل أهم رحلتين إبان تلك الحقبة، وهما رحلة ابن بطوطة(1304-1377م) وهي الأطول والأهم، ورحلة ماركو بولو(1254-1324م)، وكان للعثمانيين سيطرة على تجارة البحر المتوسط حتى نشوب معركة ليبانتو قرب شواطئ اليونان عام(1571م)، وهي معركة ينتشي الأوربيون بخبرها، وبدأ بعدها عصر جديد حافل بالاكتشافات.

ولأجل ذلك خصص الكاتب الفصل الثالث عن عصر الاكتشافات، ففيه تنافست من القرن الخامس عشر حتى القرن التاسع عشر دول مثل البرتغال وإسبانيا وهولندا ثم فرنسا والدنمارك بدرجة أقل، وكان التنافس بين هذه الدول على سوق التوابل في منطقتين هما جنوب آسيا، وجنوبها الشرقي، وقد حصلت دول أوروبا على معلومات وافية عن هذه المناطق وعن كنوزها وأناسها مما دونه الرحالة الغربيون؛ مما يؤكد لنا أن هذه الرحلات ليست بريئة، وإنما كانت مقدمة للغزو ونهب الخيرات.

وتطلع الأوربيون لهذه التوابل التي تعد أساسيات الغذاء في الهند وبعض مناطق العرب؛ خاصة الزنجبيل والكركم والهيل والفلفل، حتى أن البرتغال صارت المصدِّر الرئيس للفلفل إلى أوروبا خلال أربعين عاماً، وبحلول عام(1540م) استوطن ألف أوروبي على الساحل الغربي للهند، وأنشأت البرتغال قاعدة للتوابل في آسيا؛ بيد أنها عجزت عن السيطرة على موانئ المسلمين في البحر الأحمر، وبلغ من سيطرة البرتغاليين أن تفردوا بجمع أهم منتجات الشرق مثل: الذهب، والفضة، والحرير، والبورسلان، والسكر، والفلفل، وكبش القرنفل، والقرفة، وجوزة الطيب، والخيول، والأقمشة. ولم تدم سيطرة البرتغال حيث نافستها هولندا ثم بريطانيا التي حازت السيادة شبه المطلقة على هذه المناطق.

وخلال النزاع بين هذه القوى أو بينها وبين السكان الأصليين، وقعت مذابح وأعمال تخريب يندى لها الجبين، وتدين كل ما يقوله الغرب عن تاريخه الحضاري؛ وسجله في حقوق الإنسان، ولخص مؤرخ عالمي هذه التجربة الأوروبية تجاه السكان الأصليين بقوله: “بدأت رحلتهم بالعناق، واستمرت بسوء المعاملة، وانتهت بسفك الدماء”، ولم تخلو الهيمنة الأوروبية من مقاومة باسلة؛ جعلت هولندا تخشى جهاد شعب إندونيسيا.

والفصل الرابع يتحدث عن عصر التصنيع، حيث سرقت فرنسا نبتة توابل من إندونيسيا، وزرعتها بنجاح في الجانب الآخر من المحيط الهندي لتسيطر بذلك على مبيعاته العالمية، كما نجحت بريطانيا في استنبات الفلفل الأسود في بعض مستعمراتها وخاصة في جزيرة بينانغ في ماليزيا، وفي جزيرة سنغافورة، ويوجد في البلدين حدائق توابل يستمتع بهما الزوار دون أن يخبرهم أحد عن اريخها. وكان للنفوذ البريطاني في زنجبار أثره في رواج تجارة العبيد لاستخدامهم في أكبر انتاج عالمي لكبش القرنفل الذي أدى لجعل زنجبار مركزاً عالمياً للتجارة؛ وللإنجليز تاريخ من العبث والدماء في زنجبار، ومع انتشار التوابل وتجاوزها أماكنها الأصلية لم تسلم من الغش خاصة من خلال الخلطات أو الوصفات الخاطئة.

وعنوان الفصل الخامس: القرن العشرون وما بعده، حيث ضعفت تجارة التوابل خاصة في بريطانيا، وأصبح الأمريكان المستهلك الأول بنسبة 17 % من الإنتاج العالمي، وتأسست شركات عابرة للحدود تتاجر بالتوابل بعد أن تنوعت مصادرها، وتطورت طرق زراعتها وانتاجها، وخفت تألق مدن كانت هي المصدر الرئيس لها، وحلت بدلاً منها مدن أخرى في دول لم يكن لها مع التوابل تاريخ طويل. وختم المؤلف كتابه بمسرد ماتع ومفيد عن التوابل، ثم أشار لمراجع مختارة، وذكر أهم شركات تجارة التوابل، وشكر معاونيه في جمع مادة الكتاب وتحريرها؛ مع شكر خاص لزوجته على صبرها، وما أحوج المبدعين لعون ممن حولهم.

وإذا كان هذا جزء من تاريخ التوابل وثقافتها ليس في المطبخ والصيدلية فقط، بل داخل دهاليز السياسة، وفي لجج البحر، وأدغال الغابات، ومجاهل الصحراء، عبر الرحلات والزيارات والتجارب العلمية؛ فإن للنفط والمعادن الثمينة تاريخ شبيه وربما أكثر إثارة وأعظم أسراراً، بيد أن الوقت لما يحن لروايته بعدُ، إذ لا يزال الغرب القوي محتاجاً إليه، وليس من مصلحته بسط حكاية النفط وإخوانه للشعوب التي استنزفت توابلها، ونهبت خيراتها المتنوعة في عمليات احتلال وقتل لا تُمحى.

أحمد بن عبدالمحسن العساف-الرِّياض
ahmalassaf@
الخميس 16 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1435
11 سبتمبر 2014

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)