محمد الخضير بين قرنين

محمد الخضير بين قرنين

ستصدر قريبًا عن مكتبة العبيكان ذكريات الشيخ محمد بن إبراهيم الخضير تحت عنوان: رحلة بين قرنين، وسوف تتاح الطبعة الأولى منها قبيل معرض الكتاب بالقصيم في شهر رجب عام (1441) الموافق لشهر مارس عام (2020م)، ويتكون الكتاب ذو القطع المتوسط من مقدمة وخاتمة بينهما خمسة عشر قسمًا فيها قريب من مئة وأربعة وأربعين عنوانًا ثمّ ملحق للصور، ويُفتتح كل قسم بمقتطف لافت من محتواه، ويقع الكتاب في (168) صفحة إذ يمكن بلوغ الغاية دون تطويل.

مزج الشيخ سيرته الذاتية بمحطات رحلته عبر قرنين محاولًا استذكار شيء لأحفاده وعامة القراء لاسيّما والشبيبة ولّت، والقريحة كلّت، والقوى ألقت ما فيها وتخلّت كما يقول الشيخ ابن أبي الضيّاف في كتابه عن أخبار تونس، وانشغل الخضير بوصف ما مُنح ولم يقف عند ما حُرم منه وقوف البَرِم الضجر، ولم يصعد على كرسي الأستاذية أو الادعاء المقيت، لذلك جعل من نفسه شاهدًا متفاعلًا مع الحدث؛ لا حكيمًا يتأمل المعاني على أريكة فخمة ثمّ يصبها على رؤوس الجموع!

وفي الكتاب رواية معاين عن أربعة مدن قبل عدة عقود هي الخبراء ورياضها، والخرج، والظهران، والرياض، ويضم مقتطفات تاريخية عن العفالق من قبيلة قحطان التي ينتمي إليها الشيخ، وبعض أخبار شركة أرامكو ومشروع الخرج الزراعي، وفيه معايشة لصيقة لمسيرة التعليم القديمة خاصة تعليم البنات قبل إنشاء رئاستها وبعده، ويسرد قصة نشأة مدارس التربية النموذجية منذ مبناها المستأجر وخسائرها الأولية إلى أن غدت شركة رابحة متداولة في سوق الأسهم، ومن طبيعة الحال ومقتضى الوفاء ورود أسماء عدد من الشخصيات العامة أو القريبة من الخضير لأسباب أسرية أو عملية.

كما أفاضت الذكريات في تصوير الرياض وأحيائها وشوارعها مثل حي الملز النخبوي وشارع الستين التجاري والحضاري وشوارع أخرى، وتحدثت عن الحدائق والأسواق وحياة الناس الخالية من الرفاهية والأجهزة الحديثة حتى أصبحت الرياض في بعض ليالي الصيف القائض مثل مشعر مزدلفة، وحكى الشيخ الخضير قصصًا عن البريد بين رياض الخبراء ورياض العارض الذي يحمله أخوه الشهم علي مجانًا سواء المكتوب منه أو المحمول أو المنقول شفاهة شعرًا ونثرًا، ولا تخلو تلك المساعي الحميدة من مواقف طريفة، وحكمة، وصدق، وصبر.

أما مجالات العمل التي خاضها صاحب الرحلة فشملت الزراعة، والرعي، والعمل الوظيفي الحكومي، والاستثمار في التعليم، والمقاولات، والعقارات، ثمّ العودة إلى الزراعة، وعلى مشارف الستين تقاعد أبو إبراهيم طوعًا من العمل اليومي تاركًا متابعته لابن أخيه والخلّص موظفيه ثمّ لأبنائه وأحفاده فيما بعد، حتى توّج هذه المسيرة الحافلة بوقف ناجز ومؤسسة خيرية نابضة بالحياة والتجديد، مع ميثاق متين للعمل الأسري، ولذا فوقائع الكتاب تمتع القارئ وتفيده خاصة أهل التعليم، وأبناء الأسر التجارية والخيرية العريقة، وأصحاب الهمم العالية والآمال الكبيرة، والسيرة بمجملها تجربة تصف كفاح أبناء البلد ورجالاته الذين يحسن لفت أنظار الأجيال الشابة إليهم للقدوة والفخر دون حاجة لنماذج مستوردة.

كما يخبرنا الخضير عن وقائع ملهمة ومؤثرة، منها أن التعليم صار هاجسًا له في طفولته بسبب مكانة القاضي ثمّ زيارة عنيزة، وكيفية معرفته بأرامكو من خلال ملابس زميل عمل من أهل الرس، ثمّ حكاية اكتشاف المدارس في أرامكو حتى صارت حياته في شركتي أرامكو ومشروع الخرج الزراعي منصرفة نحو الدراسة والتدريس للكبار والصغار، ومنها احتيال متعهد النقل الذي سرق الحافلات ثمّ علاج هذه المعضلة بتدخل مصرفي.

ويطلعنا الشيخ الخضير على عناء تأسيس المدارس وتشغيلها وما فيه من متابعات مضنية، وصعوبات في تحصيل الرسوم وتدريس الأطفال من الجنسين معًا، واستقطاب المعلمين وتأهيلهم من قبل المعلمات، انتهاءً بمآزق وعثرات لدرجة جعلته يقترح التنازل عن حلمه التعليمي لصالح الحكومة لولا موقف الشيخ ناصر الراشد، ولمحورية هذه الرواية صارت في غلاف الكتاب الخلفي.

ويدخل ضمنها تجربة أول مشروع مقاولات مع الحكومة وما لحقه من خسائر بسبب غدر مهندس عربي وتعامل الحجيج مع أخشاب البناء على أنها للتدفئة والطبخ! وفيها خبر الاتصال من الديوان الملكي بعد مقالة كتبها اعتراضًا على فصله وزملائه من مشروع الخرج، ثمّ انضمامه للعمل الحكومي في عدة وزارات إلى أن استقال وتفرغ لأعماله الخاصة وسط لوم محبيه وأصدقائه بسبب خسائره أول الأمر وما تحمله من ديون، وسيعبر بالقارئ شيء من أسرار تجارة العقارات ما بين أرباح فجائية، وورطات غير متوقعة، ونكسات لازالت عالقة!

أما الطرائف فكثيرة؛ منها موقف ركاب سيارة نقل مع صحن طعام ساخن؛ ولم يشاركهم في صنيعهم خجلًا منه، وتصرف شقيقه علي مع شكوى فتاة حديثة العهد بالزواج أدركها الندم على الاستعجال في التذمر، وامتناع علي عن تزكية أحد معارفه عند أهالي مخطوباته مما جعلهم يرفضون تزويجه، ومؤامرة استهداف طيور مزرعة الخرج من موظفين أمريكيين نكاية بالمدير السعودي الجديد، وذكريات الحج بعد الزواج الأول مباشرة، ولن يملك القارئ شؤون عينيه حين يعلم من أحداث الكتاب عن العلاقة بين الجريش وفقدان الأم!

من الموافقات أن فاطمة بنت محمد الخضير تزوجت من أحد أقاربها وأقيم الحفل في مصيف الأسرة بدمشق، وممن حضر حفلة العرس طفل سائح مع أسرته، وبعد سنوات يكون لهذا الطفل شأن ذو بال مع ذلكم الزواج الدمشقي، وحين زار محمد الخضير عنيزة في طفولته بهرته أضواء كهرباء منزل أحد الأثرياء الوجهاء ولم تكن الكهرباء منتشرة حينها، وبعد عقود خطب الشيخ لنجله خالد حفيدة صاحب ذلكم البيت المنير المنيف.

ونلاحظ من مجريات أحداث هذه الرحلة أن الله فتح على الرجل من حقول فخدم المجتمع من خلالها؛ لتشمل أعماله الخيرية والمجتمعية بناء المدارس والمراكز الحضارية وما فيها من مكتبات وقاعات محاضرات ومساجد، إضافة إلى تأهيل البنات للعمل ومدافعة الفقر، وصناعة بيئة نسائية ملائمة للملتقيات والمناسبات والتعارف، وكم من بيت جديد بُني على إثر صداقات النساء في المركز الحضاري، إضافة لإنشاء معهد للعمارة والبناء أفاد منه شبان كثر ومؤسسات عديدة، ومساعيه لتكوين جمعية زراعية في رياض الخبراء، وغيرها من صنائع المعروف والإحسان، والأجر عند الله الكريم.

بينما تجتمع خلاصات الكتاب في ثقافة التساؤل الظاهرة في حياة الخضير إبان الصبا والشباب وبعد الرشد، واستشراف المستقبل، ومقابلة القدر بالقدر، واقتناص الفرص المتاحة أو صناعتها، مع يقينه الراسخ بأن قيمة الحياة تتعاظم بالتعليم ونفع الآخرين، ولذلك ختم الشيخ سيرته ليقول بوضوح: إن السعادة ليست في كنز المال بل بالعطاء وراحة البال، ويكمل مخاطبًا القارئ: إني أعلم أن زماني غير زمانك، وأحوالي غير أحوالك، بيد أن الطبيعة البشرية واحدة، والسنن الإلهية ثابتة، ومن أبصر وتبصر نال بعد توفيق الله ما يريده وزيادة، وكم في الكتاب من إضافات وإشارات وإشراقات فوق ما ذكرته وزيادة!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الإثنين 30 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1441

24 من شهر فبراير عام 2020م