ورطة الكتابة!
يكتب صديقي العربي تدوينات شبه يومية عن التقنية وشؤون الحياة، ولأنه معتاد على ذلك لم يستطع الفكاك من أسر الكتابة وكم في أسرها من أسرار، وفي عام سالف كثرت عليه الأعمال والأسفار، فأنجز عددًا من التدوينات وبرمج نشرها آليًا صبيحة بعض أيام الأسبوع كي لا ينقطع عن جمهوره أو يتراخى في عمله.
وذات يوم استيقظ وهو مسافر على اتصالات ورسائل من والدته وزوجته وإخوانه وأصدقائه، وعلم منهم أن تدوينته التي تحكي عن السعادة وانتظار سماع الأخبار المبهجة نشرت في نفس وقت إعلان أجهزة بلاده الرسمية عن وفاة مسؤول كبير ومعمّر، فخشي محبوه من ربط تدوينته بهذا الخبر، وطالبوه بالحذف؛ فمسح تدوينته وألغى البرمجة التلقائية نهائيًا.
وأذكر أني قرأت في بعض خواطر الزعيم المسلم علي عزت بيجوفيتش نقلًا عن السياسي الفرنسي روتشيلو مقولة يدور معناها حول سهولة تحوير أعمال أيّ كاتب إلى ما يدينه ويوقعه في شراكها، ونحو هذه الكلمة قرأتها لكاتب فاز بجائزة نوبل للأدب وهي بالمعنى: يمكن عصر كلمات الكاتب أو جمعها من مواضع متفرقة لتذهب به إلى المقصلة!
كثيرة هي ورطات الكتابة، فمنها سوء الظن الرسمي أو الشعبي، وسبب ذلك يعود إلى إسقاط دلالة زمن أو مكان أو حدث على الكتابة فيصبغها بمعنى قد لا يكون مرادًا حين الكتابة أو النشر، وأحيانًا يتطور الأمر إلى مساءلة أو ملاحقة قضائية، وربما يكون لتصنيف الكاتب في ذهن المتلقي أثر في تفسير كلامه، والقاعدة المنصفة أن صاحب الفهم مسؤول عن فهمه، وليس من العدل إلزام مبدع النص بتأويلات غيره خاصة تلك التي لا وجه لها ولا وجاهة.
وتبعًا لهذه الورطة فربما يكون النص أذكى من منشئه كما يقول بعض الكتاب، فيستجلب من الإشارات والمعاني مالم يخطر على بال كاتبه من الأساس، وكثيرًا ما يستغرب الكتّاب من تفسير الآخرين لنصوصهم، ويختلف هؤلاء الآخرين عن سابقيهم بأنهم نقاد ومثقفون وليس بينهم وبين سوء الظن علاقة وثيقة أو هكذا يُفترض، والناقد الصادق شريك في الإبداع وليس معيقًا.
ومن الورطات التي يشعر بها الكتاب ذلكم الاختناق النفسي الرهيب جراء الانقطاع عن الكتابة لسبب ذاتي أو خارجي، فحرفتهم بلغت من الامتزاج بوجودهم أن صارت مثل الروح للجسد، ومن الورطات التي يعجب لها من لم يمارس الكتابة أن النص ذو إلحاح متواصل ساعة ميلاده حتى لو كانت البيئة المحيطة لا تناسب الكتابة أو لا تناسب النشر، وليس بغريب حين يُقال إن النص يكتب نفسه، وكم حرم هذا الإلحاح الكاتب من الحياة الطبيعية أو أورده إلى مسالك عسيرة.
أما أطرف الورطات فتعامل بعض الناس مع الكتاب على أنهم مستعدون لتلبية أي طلب كتابي، ويغضبون إذا لم يستجب الكاتب لمقترحاتهم، وربما لا يتصور بعضهم أن عملية الكتابة فيها من التعقيد ما يجعل تنفيذها عسيرًا قبل البدء بها، فضلًا عن أنّ أنفع الكتابات ما كانت فكرتها موضع قناعة الكاتب وعنايته.
كما أن للكتابة والعمل الثقافي والعلمي عمومًا ورطة بصرف المرء عن مجتمعه ومحيطه القريب والبعيد، فما أعظم التقصير المتبادل بين الكاتب وأسرته وجيرانه، فلا هم شعروا بضغط الوقت عليه وحاجته للخلوة، ولربما أنه لم يحسن إدارة وقته وحياته ولم يستطع التوفيق بين لوازم الأبوة والجيرة وحقوق المجتمع، وضرورات مهنته التي تأبى المنافسة، وقد لا تسلم قيادها له إلّا بشرط التفرغ.
وتظل جميع الورطات هينة أمام الورطة الأخروية لو سطر الكاتب عملًا فيه أخطاء فوادح وقوادح تقود إلى الكبائر أو المعاصي، فيترحل من دنياه ونصه خالد يفري في قلوب الآخرين وعقولهم حتى يُلبس عليهم أمر دينهم أو يفسد شؤون دنياهم، ويالها من ورطة حين السؤال والحساب، والسعيد من ترك إرثًا يزيد في حسناته بعد أن تفنى أيامه؛ فالكاتب من قلة كُتب عليهم أو لهم ترك شيء لمن يأتي بعدهم ولابد.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 03 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1441
28 من شهر يناير عام 2020م
One Comment