تكريم أم تأبين؟
قرأت في يوميات د.بطرس غالي “بين النيل والقدس” أنه ومرافقيه لم يجدوا مقاعد على طائرة متجهة من أديس أبابا إلى جيبوتي، وبعد وساطة السفارة المصرية مُنحوا المقاعد المطلوبة، وحين ركبوا في الطّائرة تفاجئوا بخلوها من الرّكاب، وأنَّ على كلِّ مقعد لفائف من القات! ومع وصولهم هالهم حشود المستقبلين، والمحزن أن الحشود للقات وليست لهم!
وشبيه بهذه القصَّة ما سمعته عن وفد من مجلس نيابي سافر إلى المغرب أو الجزائر وكان ذهابهم على الدرجة الأولى، وفي العودة أجبروا بلطف على ترك مقاعد الدَّرجة الأولى واستخدام الدرجة الاقتصادية، بحجة أن مقاعد الأولى محجوزة اضطرارًا لضيوف على أحد كبار المسؤولين، وبعد استقرار الطَّائرة في الجو؛ ذهب أحد أعضاء الوفد ليستطلع من هؤلاء الضيوف الأكثر أهمية منهم، فوجد المقاعد الفخمة مليئة بصقور الصَّيد!
أسوق هاتين الواقعتين تقدمة لموضوع يثار كلما رحل إنسان مؤثر فتسارع الناس لإطرائه والثناء عليه وتأبينه، بينما يندب آخرون الصمت عنه حيًا، وذكره بعد رحيله فقط، والوسطية أمر حسن في كل شيء، والعدل ميزان لا تختل معه الأمور؛ فليس كل أحد من أهل التميز أهمل في حياته ولم ينل شيئًا من التكريم المعنوي والمادي، ولا يعني هذا أنه لا يوجد وقائع بعضها مزرية بحق أناس يستأهلون التبجيل والتوقير، والوفاء وحسن العهد يقتضيان جمع الحسنيين معًا، فمن سمو المجتمع وعراقته أن ينزل الناس في منازلهم أحياءً وأمواتًا.
يعود الإهمال إلى أسباب منها الحسد، والمنافسة، والتنازع الفئوي، والخشية من الثناء على إنسان فيغضب أفراد أو أحزاب أو حكومات بينها وبين الممدوح خلاف أو مزاج متعكر؛ فيعود أثر الثناء بسوء على قائله وربما حُرم من حقوقه أو أمنياته نتيجة لكلمة وفاء قالها مع أنه لاتزر وازرة وزر أخرى، ومن أسباب الإعراض عن تقدير البعض أنه غير معروف لاحتجابه أو لشيء من طبائعه، كما يتهيب آخرون إطراء المتميز حتى لا يفتتن بذلك فيتكبر ويرى نفسه فوق النقد.
ويبقى التوسط والاعتدال آمن مخرج في كثير من النوازل، مع التأني واستقصاء طرائق الحكمة، فما أحوجنا لترميز أهل الفضل والعلم والنبل والمهارة؛ كي لا يتصدر التافهون فتضيع الدنيا ويفسد الدين، فضلًا عن أن تصدير إنسان مؤهل مدعاة للاقتداء به من الأجيال والتفوق عليه، وفوق ذلك قد يكون من عاجل بشرى المؤمن التي تؤنس المرء كلما أضناه التعب، وزحفت به السنون نحو المغيب.
لذا سوف أسرد هنا مجموعة من أفكار التكريم لعلها مع غيرها أن تخفف من واقع حياة الظل التي يعاني منها بعض الأعلام، وتعادل الكفة فلا تطيش علوًا ولا تهبط نزولًا؛ فمنها:
- التزام رئيس الدولة أو حاكم الناحية بلقاء سنوي مع النخبة المتميزة.
- عقد الوزير أو المسؤول الحكومي لقاءات فردية أو جماعية مع ذوي الاختصاص الملائم لمسؤوليته.
- طباعة كتبهم وترجمتها إلى لغات أخرى.
- إقامة ندوات أو مؤتمرات علمية عنهم، والتعريف بمنجزاتهم.
- نسبة أسابيع التطوير إليهم، ففي هيئة الإذاعة البريطانية أسبوع تطويري مسمى على أحد كبار المذيعين، ويمكن تقليده في الإعلام والصحة والتعليم والعسكرية والتقنية والبيئة والهندسة والعلوم والفقه وغيرها.
- تسمية معلم أو مؤسسة حكومية أو مدنية بأسمائهم، وما أكثر المدارس والمستشفيات والحدائق والكليات والطرق والميادين والمكتبات والمعارض.
- منحهم الأوسمة والجوائز والشهادات التي يستحقونها.
- ترشيحهم للجوائز والأوسمة والشهادات الإقليمية والعالمية المناسبة.
- إضافتهم للموسوعات العالمية، ومساندة اختيارهم محكمين للجوائز.
- اعتماد مؤلفاتهم ضمن مقررات الجامعات.
- تسهيل مشاركاتهم العلمية والأكاديمية في البلاد الأخرى.
- إضافة نبذة عنهم في مناهج المطالعة والثقافة والتاريخ والعلوم حسب المناسب.
- إشراكهم في الوفود الرسمية أو في استقبال الزوار.
- تفويضهم لافتتاح المؤتمرات والملتقيات وإلقاء الكلمات.
- دفع الباحثين لدراستهم ضمن رسائل الدكتوراه والماجستير أو أبحاث الترقية.
- استثمارهم في العلاقات القريبة والبعيدة والإفادة من قوتهم الناعمة، كما كانت تفعل مصر مع مشاهير القراء مثل عبدالباسط والمنشاوي.
- النأي بهم عن الدخول في أيّ شأن ينقص من قيمتهم مثل خلافات السياسة والرياضة والفكر.
- التغافل قدر المستطاع عنهم ليبدعوا بحرية مسؤولة تراعي ما يجب مراعاته دون مساءلة عن الدقيق والأدق.
- حفظ جهودهم في سير الكيانات التي أسسوها أو عملوا فيها.
- ترشيحهم لإدارة المنظمات الدولية أو عضوية مجالسها ولجانها أو تمثيل بلادهم فيها.
إن جميع ما مضى ينفع في الدنيا وربما يستمر أثره إلى الآخرة، ولأن الآخرة هي الباقية فليت أن أهل الثراء والمال يتشاركون في تأسيس وقف ضخم يستفاد من ريعه لنفع المجتمع والناس والارتقاء بالبيئة المحيطة، ويكون للوقف مجلس نظارة من صلاحياته إضافة اسم أو اسمين سنويًا ليكون لهم نصيب من أجر الوقف حتى لو بلغت الأسماء بعد سنين ما بلغت ففضل الله واسع، واستثمار جزء من دخل الوقف كفيل باستيعاب هذه الأعداد، وما أسعد من يعلم أن له أجرًا يجري في ميزان حسناته حتى بعد وفاته.
أشير أخيرًا إلى أن هذه الغفلة أو الصدود التي تلاحق النوابغ سمة بشرية لا تختص ببلد، وإنما تتفاوت بين مجتمع وآخر، كما أن المقترحات السالفة غير مقصورة على بلد حسبما يتضح من سياقها، وإعمال هذه المقترحات وغيرها يعيد للنخبة وهجها، ويقمع التفاهة في قعر سحيق، وإذا لم ننجح في ذلك فسيكون مصير أكابرنا مثل ذلك العالم والمحقق الضخم الذي لا يعرفه أحد من جيرانه؛ بينما يعرف أهل الحي قاطبة جميع شؤون “شكوكو” وهو – أجلكم الله- كلب مطرب شعبي يسكن في ذات المنطقة!
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 20 من شهرِ جمادى الأولى عام 1441
15 من شهر يناير عام 2020م
One Comment