سير وأعلام

عبدالمحسن السديري: السفير الرئيس

Print Friendly, PDF & Email

عبدالمحسن السديري: السفير الرئيس

ما أجمل بعث القصص من مرقدها، أو إخراجها من زوايا النسيان والإهمال. وإذا كانت الحكاية في أولها كفاح، وفي أوسطها نجاح، فما أعظم الصنيع حينها، وعسى أن يكون مآلها بعد ختامها الدنيوي إلى فلاح ومثال يقتدى، فعلى الله قصد سبيل السائرين إلى ملاقاته، المؤمنين بذلك، والله يتقبل ويزيد في الأجر لمن صلحت سريرته، وتاجر مع الكريم الودود في النية الحسنة.

ومن هذا الباب الإشارة إلى شيء من سيرة ومسيرة السفير الشيخ عبدالمحسن بن محمد المحمد السديري المولود في بريدة عام (1355)، الذي انتقل طلبًا للعلم ثمّ في دروب العمل بين الرياض ولبنان وأمريكا، وإيطاليا، والسودان، وهولندا، فالقصيم والرياض ثمّ جدة وفيها مقامه الحالي بعد تطواف محلي ودولي، وإنجاب بنتين وولد، وإنشاء منظمات دولية ثمّ إدارتها والمشاركة في غيرها، ونهوضه بأعمال جديدة أو قائمة مع تجديد وتحسين إن في وزارة الزراعة، أو في سفارتي المملكة بالخرطوم وأمستردام.

درس أبو سلمان في مدرسة الأمراء بقصر المربع مع عدد من أبناء الملك عبدالعزيز، ثمّ واصل دراسته مع أبناء الأمير عبدالله بن عبدالرحمن، وكان هو الوحيد فيهما من غير أبناء الأسرة الحاكمة. وفي هذه السنوات اجتهد لإتقان اللغة الإنجليزية من خلال درس مسائي خاص في منزله، وبعد أن فرغ من دراسته الأولية سافر إلى لبنان وأكمل الدراسة في الجامعة الأمريكية ببيروت، وله فيها زملاء من أفراد أسرته العريقة، ومن غيرهم مثل وزير الخارجية البحريني الأسبق. وربما أن أبناء أسرة السديري كانوا من أوائل الدارسين من أهل نجد في لبنان، ومن تمسك الشاب عبدالمحسن بخيار الدراسة ونهمه للعلم، أنه سعى للبقاء وإكمال تعليمه بعد أن استرجعت الحكومة بقية الطلاب.

ولم يكتف الشاب عبدالمحسن بما ناله من علوم وشهادة في لبنان، وكان مثلها إذ ذاك يؤهله لوظائف حكومية مرموقة، فطار إلى أمريكا لدراسة البكالوريوس واختار تخصص الزراعة خلافًا لمن درس الإدارة أو الآداب من أقرانه؛ ولا غرو أن يكون نجل الأسرة المشتهرة بعلاقتها الوثيقة مع النخيل مزارعًا. وتخرج في جامعة كولورادو حاصلًا على شهادة بكالوريوس في العلوم الزراعية، ثمّ أكمل دراسته في ذات التخصص بجامعة أريزونا ونال منها شهادة الماجستير.

كما عمل بين الشهادتين وبعد الثانية في وزارة الزراعة السعودية في عهد وزيرها الشيخ حسن المشاري، علمًا أن هذه الوزارة تعاقب عليها وزيران من أسرة السديري خلال السبعينيات الهجرية. وأبلى عبدالمحسن بلاء حسنًا في أعماله بالوزارة، ومن أبرزها افتتاح مركز التدريب وتنشيطه قبل ستين عامًا تقريبًا في وقت لم تكن كلمة التدريب تطرق المسامع إلّا في أروقة نخبوية، وبعدها اختاره الوزير ليكون ممثلًا وسفيرًا للمملكة في منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) في روما، فذهب إلى المكان البعيد مع عائلته الصغيرة، وكان له فيه مع الأسبقية والخلود موعد.

فبعد سنوات من العمل والمقام بإيطاليا، بزغت فكرة تأسيس الصندوق الدولي للتنمية الزراعية، وعقب مداولات تكونت لجنة عالمية لدراسة الفكرة برئاسة السفير السديري، وأمضت اللجنة ثلاث سنوات من الاجتماعات المرهقة حتى انبثق عنها الصندوق بعد لقاءات مكثفة فيها شدّ وجذب مع كبار مسؤولي الأمم المتحدة. وتناوب على المشاركة في الاجتماعات التحضيرية وزراء الخارجية والمال والنفط والزراعة من بلاد العالم، ومن أبرزهم السياسي الأمريكي الشهير هنري كسينجر. وبمجرد عقد اللقاء الأول للصندوق بعد ميلاده أشارت جميع الأصابع إلى السفير عبدالمحسن السديري ليكون أول رئيس له، وتكرر ترشيحه لولاية ثانية، ولولا أنه آثر الابتعاد لظل رئيسًا لزمن أطول.

ويرجع تمسك الدول برئاسة السديري إلى نزاهته البالغة، وتقديمه المنح للدول والمؤسسات غير الربحية على أسس موضوعية بعد دراسات مستفيضة ومع متابعات حثيثة لصيقة، وتجنبيه الصندوق وأعماله لأي مماحكات سياسية، ولذلك دعم مشروعات في مصر وكوبا واليمن الجنوبي-آنذاك- متجاوزًا اعتراضات دول مؤثرة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وحظي السفير خلال زياراته لمئة دولة تقريبًا باستقبال يماثل استقبال زعماء الدول ورؤساء الحكومات وكبار الوزراء، ونال موثوقية عالية عند حكومة إيطاليا المستضيفة للصندوق حتى أنها كانت لا ترد له طلبًا، وأعطت الصندوق ما أراده الرئيس من مبانٍ وأثاث وتسهيلات.

كما تسابقت الجامعات التي درس السديري فيها وغيرها إلى منحه الشهادات الفخرية وإقامة الحفلات التكريمية على شرفه. وبادر الزعماء إلى تسليمه الأوسمة حتى أن الرئيس الفرنسي المثقف ميتران أرسل الوسام إلى سفارة فرنسا في الرياض كي تسلمه للسديري. ووردت له كتب الشكر والتقدير من زعماء العالم مثل الملك فهد، والرؤساء رونالد ريجان، وفرانسوا ميتران، وحسني مبارك، وداودا جاوارا، ومن الأمين العام للأمم المتحدة خافيير بيريز ديكويار، وسعت منظمة دولية خاصة بالمحيطات إلى الإفادة من خبرته باصطفائه نائبًا لرئيسها.

بينما ألف المهندس نجيب صعب كتابًا وثائقيًا عنوانه: عبدالمحسن السديري والتنمية الزراعية الريفية: قصة الصندوق الدولي للتنمية الزراعية، وأجرى الأستاذ محمد الوعيل لقاء صحفيًا معه قبل خمسة وثلاثين عامًا، وفيما سوى ذلك ليس له أثر كبير في الإعلام المحلي بعد مغادرته المنصب، مع أنه وتجربته يمكن أن يكون مادة ثرية للقاءات صحفية وتلفزيونية وإذاعية، فضلًا عن محاضرات وندوات حول تطبيقاته الزراعية أو الدبلوماسية أو في إدارة منظمة دولية ووكالة متخصصة من وكالات الأمم المتحدة، وهي خبرة نحتاج إليها فيما أحسب.

وحين أصدرت وزارة الخارجية مشكورة قبل سنوات معجمًا عن سفراء المملكة، فاتها أن تشير في السطور الخاصة بالسفير السديري إلى الصندوق مع أهميته وفرادته، وآمل أن تدرك الوزارة ذلك في الطبعات القادمة، فللرجل أولوية سعودية وخليجية وعربية وإسلامية وآسيوية في إنشاء المنظمات الدولية، أو في إدارتها فهو أول سعودي وخليجي يرأس ويدير منظمة دولية، وربما يكون العربي الثاني بعد إدوارد فيكتور صوما اللبناني الذي رأس الفاو، ولم أستيقن بعد عن ترتيبه الإسلامي والآسيوي.

إن الإنسان الذي وقف خلف نشوء الصندوق الدولي للتنمية الزراعية، تلك المؤسسة المالية الدولية والوكالة المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، وسخّر الجهود للقضاء على الفقر والجوع في المناطق الريفية في البلدان النامية لجدير بالتكريم في بلاده وغيرها من المنظومة الإقليمية، فله أولوية وأقدمية ذات لوازم واستحقاقات، وعسى أن نرى ونسمع شيئًا من ذلك على وجه عاجل، ليكون هذا العرفان ضمن ما سيصدر بتوسع عن سيرة السفير الرئيس المزارع من جميع نواحيها.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 25 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1441

19 من شهر فبراير عام 2020م

Please follow and like us:

5 Comments

  1. عرض جيد يستحقه الرجل. لكن العنوان العام للسلسلة “سير وشخصيات راحلة” لا يناسب المقام… أطال الله عمر السفير الرئيس عبد المحسن السديري

    1. المهندس نجيب صعب:
      شكرا لكم على القراءة والتعليق.
      العنوان فيه قسمان: سير + شخصيات راحلة، والشخصيات الراحلة أكثر، فضلا عن كون الرحيل مصيرًا محتومًا على الجميع، ولذلك جمعت المقالات في سلسلة واحدة.
      رحم الله الأموات، وأطال عمر الأحياء على خير وعافية.
      لكم الشكر مجددًا.

    1. أهلا عبدالرحمن:
      لايوجد حاليا كتاب عن سيرة السفير كاملة، ولكن يوجد كتاب عن تجربته في الصندوق ومشار إليه في أواخر المقالة.
      ولكم الشكر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)