سير وأعلام

رؤيا أنقذت رجلًا!

رؤيا أنقذت رجلًا!

بعد وفاة والدي -غفر الله له- بمدّة قصيرة، أخبرني أخي عبدالرّحمن عن رؤيا عجيبة رآها في منامه، ولم أعرض الرّؤيا على عابر لوضوحها فيما بدا لي حينها، وآمل أن يقع أجر الفعل لوالدي وورثته سواء أكان متوافقًا مع تعبير الرّؤيا أم غير متوافق، فالفضل لا يندم عليه أحد، والخير لا يضيع عند الله.

كان لوالدي رحمه الله تجارة وتعامل عريض مع شركات وأفراد داخل المملكة بعد انتهاء قوافل العقيلات التي شارك فيها مع والده امتدادًا لمسيرة أجداده وأعمامه في عالم التّجارة، وضمن العقيلات على وجه التّحديد. ومن مزايا والدي في معاملاته الماليّة الدّقة، والوضوح، والتّوثيق، وضبط ما له أو عليه، ومنها سمة عظيمة نادرة إذ كان سمح التّعامل؛ فكم من مرّة ومرّة أقال ذا عِثار، أو أنظر ذا عسرة، أو تجاوز عن مضطّر.

أمّا رؤيا عبدالرّحمن فوقعت في شهر رمضان التالي لوفاة الوالد مباشرة، ومختصرها أنّه دخل على الوالد في مكان أنيس يشرح الصّدر، فوجده جالسًا مع أشياخ كبار يعرف بعضهم دون بعض، وحين سلّم على أبينا قال له: انظر إلى الباب! فنظر عبدالرحمن ورأى رجلًا كبير السّن يحبو نحو الباب ثمّ تمنعه خشبة معترضة من الدّخول وهو يعاود المحاولة والتّجربة دونما فائدة! وحينها قال الوالد لعبدالرّحمن: هذا الرّجل لن يدخل معنا إلّا إذا سامحتموه جميعكم!

وحين قصّ أخي عليّ رؤياه وقع في نفسي أنّها تخصّ رجلًا لوالدي عليه دين، فصرمت أيّامًا وليالي أبحث في أوراق والدي ودفاتره مستفيدًا من معرفتي العميقة بها، وحصرت كلّ من بقيت عليه مبالغ ماليّة، وجميعهم أعرفهم وهم على قيد الحياة وتحت المتابعة حينذاك إلّا واحدًا لا أعرفه، ولم يدفع شيئًا منذ عشر سنوات أو أزيد، وليس له كفيل، ولم يكتب الوالد أيّ ملاحظة عنده، وليس له وسيلة تواصل مثبتة.

كان الخيط الوحيد الذي يمكن أن يوصلني لخبر هذا المستدين هو أنّ آخر قسط دفعه عنه رجل من أهل بريدة، فتواصلت معه وسألته مباشرة أين فلان؟ فقال لي: توفي منذ زمن، فاستوضحت منه عن خبره فأجابني: كان من أطيب الرّجال وأكثرهم أمانة وديانة، ولأنّه لا يملك مالًا زائدًا لينفقه على المحتاجين، فقد هبّ للتّبرع بدمه لأيّ مريض يعرفه أو لا يعرفه، وفجأة أغمي عليه ومات، وليس له وارث سوى زوجة وصبية صغار إذ أنه تزوّج على كبر.

ففهمت من جوابه لماذا لم يتابعه والدي ولم يخبرنا عنه أصلًا، وعرفت لماذا لم يطلب منه كفيلًا ثقة بأمانته ومروءته، وقدّرت أنّ والدي لو كان حيًّا وبلغه خبره لعفى عنه، بل ودفع الصّدقة والزّكاة لوارثيه إن كانوا من أهلها. ووقر في نفسي أنّ الرّؤيا فضل من الله علينا وعلى الرّجل، واستمرار لعمل أبينا الصّالح الذى جرى عليه في محياه تقبّل الله منه.

وصادف أن كان ورثة الوالد مجتمعين في ذلك اليوم على الفطور الرّمضاني؛ فأخبرتهم بالرّؤيا، ونتيجة بحثي، وخلاصة إجابة الرّجل من أهل بريدة، فقالوا جميعهم عن رضا وطيب خاطر: سامحناه لوجه الله تعالى، ثمّ إجابة لما نجزم أنّه مراد والدنا في الرّؤيا، واقتفاء لطريقته في مثل هذه الأحوال. فعدت من فوري للأوراق وكتبت عليها ذلك اقتداءً بإجراءات والدي في إنهاء المديونيّة وتوثيق نهايتها.

ولأهميّة هذه الواقعة، أحببت إثباتها؛ حتى يظلّ المعروف والوفاء في مجتمعنا، ولتكريس أثر الأخلاق الحميدة على صاحبها حتى لو مات، ولتأكيد المعنى الشّرعي الوارد بما معناه أنّ الله سبحانه وتعالى يعين المقترض على الأداء إذا صدقت نيّته وصلحت. وعسى الله أن يجعل فيها أجرًا حسنًا لجميع من ورد فيها بالاسم أو بالصّفة، ولكلّ من صنع المعروف، أو نشره، أو دافع عنه.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الاثنين 14 من شهرِ شوال عام 1440

17 من شهر يونيو عام 2019م 

Please follow and like us:

4 Comments

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ووفقه لما يحب ويرضى
    رحم الله الوالد الكريم ورحم والديه. وجعل مثواهم جنة الفردوس الاعلى . وبارك الله في اولاده واحفاده ذكورا واناثا. ورزقهم من حيث لايحتسبون . وبارك لهم في رزقهم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)