سير وأعلام عرض كتاب

الخيل وحياة العقيلات

الخيل وحياة العقيلات

من أنبل الصّفات، وأكمل السّجايا، أن يلتفت المرء إلى مآثر أسلافه، ومجيد تاريخهم، فيسعى إلى حفظه، واسترجاع المفقود منه، ثمّ إحيائه بين النّاس، وتنشيط الذّاكرة حوله، كي يعرف المعاصرون فمن بعدهم حياة السّابقين، وفي ذلك علم، ووعي، إضافة إلى ما يترافق مع الأخبار والرّوايات من أنس، وانشراح، ودعاء للأموات بالرّحمة والغفران.

ومن هذا الباب حظي تاريخ العقيلات -وهم تجار القصيم إلى الشّام والعراق ومصر وغيرها خلال ثلاثمئة عام- باهتمام في البحث والتّأليف من قبل العقيلات أنفسهم ومن غيرهم، والمكتبة العربيّة شاهدة على ذلك، بيد أنّ أسرة الوهيبي الكريمة انفردت بجهد عديد الأبعاد، حتى يكاد العقيلي القديم أن ينبعث من مرقده ماثلًا للأجيال الحاضرة بصنيع أنجال الوهيبي!

وتمتد عناية هذه الأسرة التّميميّة الكريمة من آبائهم وأجدادهم العقيلات أهل التّجارة والتّنقل، إلى إخوة معاصرين تعاضدوا لأجل العقيلات، فدفعوا نفائس المال لشراء الوثائق والصّور، وجابوا الدّنيا لمقابلة المعمّرين واستنطاقهم، وصرموا العمر والوقت لتحقيق مبتغاهم، ثمّ ألّفوا الكتب ومنها ما لا سابق له، وكتبوا مقالات وتغريدات، وأنشأوا حسابات فاعلة على مواقع التّواصل الاجتماعي، وحاضروا في المجالس والدّيوانيّات، وأبدعوا متحفًا باذخًا، وأقاموا معارض للصّور والتّاريخ، وشاركوا في المحافل الوقورة، وأصبح شأن العقيلات شغلهم الشّاغل، وشملت جهودهم الإنسان والمكان، وهل تأتي عبقريّة الإنجاز إلّا من خالص الاهتمام؟

ومن إنتاجهم كتاب بعنوان: الخيل في حياة العقيلات، تأليف الباحث د.بدر بن صالح بن محمّد الوهيبي، مراجعة وتدقيق أ.د.إبراهيم صالح الحندود-ويبدو أنّها مراجعة لغوية فقط-، وتقع طبعته الأولى المنشورة عن دار النّظير عام (1435) في (329) صفحة على ورق ناصع، وله طبعة ثانية ستكون متوافرة خلال الفترة القادمة، علمًا أنّ الكتاب لفت أنظار علماء أجانب من فرنسا وغيرها.

وللمؤلف كتب أخرى منها رسالته للدّكتوراه عن قوافل العقيلات ودورها السّياسي والاقتصادي والاجتماعي والثّقافي بين منطقة نجد والدّول العربيّة، وكما أنّ الباحث مسكون ببعث تاريخ العقيلات ورجالاتها، فله مغزى آخر لا يقلّ أهميّة، وهو دفع التّشويش عن منطقة القصيم ودحض ما تُغمز به من تشدّد، فهي منطقة طاف أهلها في أنحاء العالم واختلطوا بأجناسه، وتعايشوا معهم، وسبقوا للتّعليم، والتّجارة، والدّبلوماسيّة، والجنديّة. ولم ينفرط عقد قيمهم، أو تذوب منظومتهم الأخلاقيّة، ولم يمنعهم أيّ حاجز من الإفادة والمشاركة النّافعة.

يتكوّن الكتاب من إهداء، فمقدمة، ثمّ تمهيد يتلوه أربعة فصول، الأوّل منها عن العقيلات وعن الخيول، والثّاني يستعرض أشهر ملاك ومربي الخيل في مصر من العقيلات، ويذكر في الثّالث أشهر مدربي ومضمري الخيل في مصر من العقيلات، ويقف في الرّابع مع أبناء وأحفاد العقيلات ومضامير الفروسيّة في مصر، ويختم بالخامس عن برنامج سباقات الخيل في مصر وتقويمها، وأضاف أخيرًا فهرسًا بالمراجع، والموضوعات، وتعريفًا مختصرًا بالباحث.

وفي أوّل الكتاب حديث الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وسلم المروي في صحيح مسلم: “الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة”، ثمّ أهدى الكاتب عمله لوالديه ولزوجه الصّالحة أم فهد الجوهرة بنت عبدالله بن علي اليحيى، ووضع في البداية صورة للملك عبدالعزيز وهو يمتطي فرسه، وأخرى للملك عبدالله رئيس نادي الفروسيّة منذ عام (1385)، وثالثة للملك سلمان الذي رأس أوّل اجتماع للجنة سباق الخيل عام (1390)، ثمّ صورتين لأمير القصيم ونائبه آنذاك.

وممّا يزيد الكتاب نفاسة ما حواه من صور، ووثائق، وبعضها يكاد أن يكون في حكم النّادر، ومن المؤكد أنّ أثمانها غالية، والوصول إليها لم يكن يسيرًا. ويلاحظ في الصّور التي يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من قرن، أنّ العقيلات التزموا بلباسهم وأزيائهم فلم يستبدلوها بغيرها، فالعقيلي مرتبط ببيئته وما يذّكره بها، ولذلك ارتدوا هذه الملابس في أهمّ المناسبات، وهذا من شموخ نفوسهم، وأنفتها، مع أنّهم لم يمتنعوا عن مشاركة أهل البلاد التي أقبلوا عليها في ملابسهم أحيانًا.

وفي المقدّمة أثنى المؤلف العقيلي أبًا عن جدّ على جهود العقيلات خلال ثلاثة قرون؛ حيث ربطوا بين البلاد العربيّة والإسلاميّة، وصنعوا سمعة رائعة لديارهم في كلّ بلد نزلوا فيه، وتاريخهم مليء بالعزّة، والعزيمة، والقوّة، وتحمّل المشاق. وتظهر قوائم ملاك الخيل، والمدربين على ركوبها، المشاركة الكبيرة للعقيلات، والعناية الفائقة بالخيل، ثمّ توريث ذلك للأبناء والأحفاد، الذين نقلوا خبراتهم لأندية الفروسيّة في المملكة، ولسباقاتها، ويرد في قوائم الملاك والمدربين أسماء أسر أكثر من غيرها مثل: الحجيلان، والسّابق الفوزان، والمطلق، والمرزوقي، والحليسي، وأبا الخيل، والوهيبي.

شارك هؤلاء الفرسان الأماجد في سباقات الخيل بمصر ولبنان واليونان وأوروبا، وصدّروا الخيول لأمريكا وأوروبا، ورافقوها أحيانًا، وتقديرًا لحضورهم الفاعل اختيروا أعضاء في مجالس الفروسيّة بمصر، وفي لجان السّباق، واعترف رجالات مصر في العهدين الملكي والجمهوري بآثارهم الحميدة في الخيل وما يتعلّق بها، حتى حملت بعض الشّوارع المصريّة أسماءهم، ووصِف الشّيخ صالح الصّعب بأنّه أفضل مدرب خيل في العالم، وأسهم الشّيخ إبراهيم المرزوقي في وضع قانون سباق الخيل في مصر، واستفاد من القانون الإنجليزي بعد أن حذف منه كلّ ما فيه شبهة شرعيّة، وما أحسن اعتزاز المسلم بدينه.

وكان لعقيلات مصر أسواق ومضافات ومناخات، ومجالس مفتوحة، وموائد ممدودة، وأمواه شرب لمن أراد السّقيا مجانًا، وجعل بعضهم في منازله غرفًا مجانيّة للقادمين من عقيل، وما أجمل الحميّة والهبّة وهما من شيم العقيلات. وفي الكتاب جزء من أخبارهم، مع تخصيص مساحة أكبر لرجل الدّولة الدّبلوماسي الشّيخ فوزان السّابق، الذي له فضل على الدّبلوماسية، والتّجارة، والعلم، والنّفط.

ومن عجيب أنباء الكتاب أنّ جدّ والد المؤلّف الشّيخ صالح الوهيبي كان مسؤولًا عن اصطبلات خيول الملك فؤاد، فيما أصبح ابنه -جدّ المؤلّف- الشّيخ محمّد من أوائل رجال التّعليم في الكويت(1916م)، وفي بريدة (1929م)، ولأنّهما من عقيل أهل التّرحال فقد توفيا ولم يشاهد أحدهما الآخر! ومن مرويّات هذا السّفر شيء من وقائع حفر قناة السّويس، وزواج العقيلات من الشّام، والشّهرة الدّوليّة التي نالها حازم المرزوقي أصغر خيّال في العالم، ومن الّلافت أنّ برنامج سباقات الخيل في مصر خلال سبعين عامًا منذ (1906م) كان ينشر بالّلغة الإنجليزيّة!

وفي الكتاب طرف من ولع الغرب بالخيل العربيّة الأصيلة، ولدي ظنّ يحتاج لبحث أعمق، وملّخصه أنّ خيولنا الأصيلة استنزفت من منطقتنا، ونقلت لبريطانيا، وفرنسا، وأمريكا، وغيرها، بالشّراء، والإهداء، والاستيهاب، والسّرقة، ولا غرو فللجياد الأصيلة مزايا خاصّة في التّحمل، والسّرعة، والتّناسل، فضلًا عمّا تهبه لفارسها من معاني إضافيّة في الشّجاعة، والأنفة، والسّمو، والإقدام.

وكم تمنيت لو جعل المؤلّف والباحث الخبير الفصل الأول مقصورًا على الخيل، وأفرد الفصل الثّاني للعقيلات مع ضم الشّهادات والتّزكيات التي في التّمهيد إليه، ثمّ دمج أسماء الملاك مع المدربين في الفصل الثّالث، وأبقى الفصلين الرّابع والخامس كما هما، وإن كان الخامس لوصف الملحق أقرب منه للفصل، مع حذف التّكرار قدر المستطاع، وتصحيح أخطاء مطبعيّة، ومراجعة انتظام التّرتيب الأبجدي، وإخراج الأسماء الأجنبيّة من السّياق وإحالتها للهامش أو الملحق.

إنّ حفظ التّاريخ، ونشره، عمل عظيم الأثر، كبير النّفع، وكم أحيا الله به من سيرة، وأعاد به من حق، فضلًا عن توضيح المواقف، وتجلية الحقائق، وحتى يكتمل هذا الجهد المبارك، فمن المناسب أن يتبع العمل التّاريخي الموّثق، منجزات تختص بالتّحليل واستخلاص العبر، كي تكون مدخلًا من مدخلات صناعة المستقبل بعد استشرافه، وكم في الأخبار من دلائل وإشارات حتى جعلها الله سبحانه وتعالى ثلث كتابه الكريم.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف -الرِّياض

ahmalassaf@

السّبت 19 من شهرِ الله المحرّم عام 1440

29 من شهر سبتمبر عام 2018م 

 

Please follow and like us:

6 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)